يكشف تدهور الأحوال المناخية هذه الأيام في بلادنا عن معاناة قاسية ووضع مأساوي يعيش فيه سكان المناطق الجبلية، وخصوصا في الأطلسين الكبير والمتوسط، وأيضا الرحل المنتشرين في هذه المناطق…
إن استمرار التساقطات الثلجية الكثيفة، وأيضا التساقطات المطرية والانخفاض الكبير في درجات الحرارة، وكذلك انقطاع الطرق، كل هذا يعني لدى الساكنة المشار إليها معاناة حقيقية ووضعا مأساويا، ويعني وجود دواوير وقرى بكاملها في عزلة تامة عن العالم الخارجي…
لا يكفي المرء إذن أن يتابع بعض ملامح هذا الواقع من خلال نشرات الأرصاد الجوية فقط، أو من خلال الاستمتاع بصور بهية تنقلها الشاشات من مناطق تساقط الثلوج، ولكن لا بد أن يستحضر الجميع ما وراء ذلك، أي معاناة سكان هذه المناطق وظروف حياتهم اليومية.
إن مئات الأسر لا تستطيع الخروج من أبواب منازلها المتهالكة نحو الخارج، ولا تجد ما تسد به الرمق أو تتفادى به قساوة البرد والصقيع، والحليب المصنع غير متوفر دائما للرضع والأطفال، وحطب التدفئة لا يتوفر بدوره دائما، وإن وجد فسعره مرتفع ويتحكم فيه سماسرة ومضاربون، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة استعمال غاز البوتان الذي يصعب أحيانا التوفر عليه، تماما كما هو الحال بالنسبة لمواد غذائية أساسية أو أدوية، وأيضا المعاناة المستمرة مع الانقطاعات المتكررة في الكهرباء والماء الصالح للشرب، وفي شبكة الاتصالات…
لا بد كذلك أن نستحضر هنا معاناة الرحل، وعدد منهم معزولون فعليا، وقد انقطع الاتصال بهم، وأغلب الفاعلين المحليين يحذرون من أن يلقى بعض هؤلاء حتفهم في الخلاء جراء هذه العزلة، وبسبب القساوة المناخية وكثافة الثلوج التي تودي أحيانا بأرواحهم وماشيتهم دون حتى أن يعلم بمصيرهم أحد.
نستحضر أيضا أن رؤوس ماشية “أغنام وماعز” تعرضت للنفوق بسبب هذه الأوضاع المناخية القاسية…
وترتيبا على ما سلف، الأمر يتعلق بمأساة حقيقية فعلا، كما أن هذه المعاناة تتكرر كل عام في فترة تساقط الثلوج، وهذه السنة المعاناة أكثر قساوة وإيلاما، ومن ثم لا بد أن يطرح موضوع معاناة سكان المناطق المعنية كانشغال مركزي وأساسي في أجندة السلطات العمومية المركزية، وأن لا يبقى الاهتمام منحصرا في مبادرات إحسانيه ظرفية ومناسباتية تنتهي وتتوقف ببزوغ شمس فصل الربيع.
هؤلاء السكان في مناطق الأطلسين الكبير والمتوسط الجبلية، هم فقراء في غالبيتهم، وبعض الفئات منهم تندرج ضمن الأوساط المعدمة من شعبنا، ومن ثم هم في حاجة إلى الدعم والمساعدة طيلة العام، وليس فقط أثناء فترة تساقط الثلوج وانقطاع الطرق، ومناطقهم بكاملها في حاجة إلى جهد تنموي عمومي حقيقي للتخفيف من حدة ما يميز واقعهم الاجتماعي والاقتصادي من تجليات هشاشة وخصاص.
وعندما نتابع اليوم ما يعانيه فلاحو هذه المناطق من مآسي وضيق، وعندما نسمع بنفوق رؤوس مواشي جراء تدهور مناخي واضح في البلاد يستمر منذ مدة، فهذه هي مجالات التدخل المفروض لأي صندوق للتنمية القروية، ويجب اليوم أن يحس هؤلاء الفقراء بالأطلسين الكبير والمتوسط بأن هناك دعما ملموسا وحقيقيا لهم في حياتهم اليومية ونشاطهم الفلاحي والرعوي الذي هو مصدر عيشهم الوحيد.
لا ننكر وجود تعبئة رسمية هذه الأيام، وأن مبادرات حكومية اتخذت، وأن كاسحات ثلوج تعمل يوميا في الطرقات لفك العزلة عن الدواوير والقرى المعزولة بسبب الثلوج، وأن أغطية ومواد غذائية توزع على المتضررين والمحتاجين، ولكن كل هذا، بقدر ما هو مهم وضروري، فهو يبقى ظرفيا ومناسباتيا ولن يغير بنيوية هذا الواقع الصعب.
الحاجة اليوم كبيرة لبلورة سياسة عمومية مستعجلة ومتكاملة موجهة للمناطق الجبلية وساكنتها، تكون دائمة ومستمرة، وتقوم على إنصاف هذه الفئات الفقيرة من شعبنا وتأمين كرامتها، وعلى العدالة الاجتماعية ورفع التمييز والإجحاف عن كل هذه الأقاليم الشاسعة.
السياسة العمومية المطلوبة يجب أن تكون التقائية ومحكمة ومحددة في آجال التطبيق ومجالات التدخل، وتتوفر لها الميزانيات الضرورية، وتراعي كذلك الخصوصيات المجالية والترابية لهذه المناطق، التي هي في الأصل قروية وساكنتها ومواردها فقيرة وضعيفة.
في هذا بالضبط يجب أن يحدث التنافس بين السياسيين، وحول هذا بالضبط يجب أن تتعبأ الجهود وتتحقق التوافقات اللازمة لصياغة مخطط وطني مستعجل وتضامني ومتكامل وناجع لفائدة المناطق الجبلية وسكان دواويرها وقراها، وأن يتم تطوير منظومة عمل وتدخل ناجعة ومحكمة.
< محتات الرقاص