“كأسنان الذئب” أو حسب المأثور القولى نقول: “كأسنان المشط” أي متساوية متماثلة هي قصص هذه المجموعة التى تنز ألما مكينا، تتماثل في التيمات وتختلف في الغايات، رغم أن بشير زندال يُقر في ثنايا حكيه أن ” أسنانه غير مستوردة ” (ص66) أي أن محتوى هذه المجموعة محلي صرف، لأن مجريات هذا الوضع دفعت بالإنسان اليمني في عمومه إلى “التأقلم مع هذا التعذيب” ص 66، الغادر والمتربص به كذئب جائع يبحث عن وليمة في الحرم المدنس للبلد السعيد الحافل بكل الخطايا والأباطيل والمظالم والخرافات.
نحن أمام حالات إنسانية ونماذج مُتباينة نُطل من خلالها على اليومي اليمنى “لم أدر، وكيف أدري وأنا لا أدرى ..” ( ص 50) هي متاهات الضياع التي رصها الجهل والتخلف وذهنية التحريم والطابوهات المتعددة التي حرمت الجنسين من معرفة وتمثل أبسط أبجديات الحياة .
“في مجتمعنا لا نشاهد وجه المرأة ” ( ص60) وما حاجتهم لمشاهدته، يكفيهم تخيله وتمثله والإستمناء عليه، مجتمع يقفز برجل واحدة، مكبوت، منحط، كل شيء في عرفه عورة وعيب، فكيف بمستطاعه السير إلى الأمام . “أقصى أمنية لي أن يرتطم الهواء بوجهي” ( ص61). نساء محرومات من كشف وجوههن من ملامسة نور الشمس، مؤمنات كما الذكور واعون: ” أن قدرهم هو معدة الطاحونة”، (ص 71) فليس لأحد الحق في “التخلص من المسيرة الجماعية ” (ص71) التي تقودهم إلى المزيد من التخلف والتقهقر والانحطاط، تترصد موتهم الرمزي و الفعلي “هذه جثته تسحقها أحذيتكم” (ص73). هي جرعات إضافية تقدمها لنا هكذا مجموعة لتكشف ساديتنا المدمرة عندما يغيب رد فعلنا أمام شريط مثخن بالمآسي، تتكرر مشاهده ومقاطعه في أكثر من أرض و قُطر.
ثمة أشياء كثيرة يريدنا زندال أن نطلع عليها، يعمل بتفان على رص قطع عذاب يومية متداخلة ومتشابكة كأنها أجزاء لعبة “بازل” يعمد إلى تجميعها لتشكل لوحة القهر السامي اليومي (حرمان ، تخلف ، أمية .. ). هل هي حاجته لإشراكنا في تخيل وعيش هذه البانوراما القاتمة والحزينة أم نوع من العلاج الاجتماعي عن طريق الصدمة؟
فالإنسان يعبر أشكالا متعددة من الجحيم اليومي كي يستوعبها ويفهمها ويشرّحها وبعد ذلك تأتي مرحلة الإدانة و الفضح.
حتى الشكوى إلى الله أضحت هنا غير مجدية “يموت الكثير من المؤمنين في الحروب و لا تموت الآلهة” (ص40). فإلى من الشكوى؟ فهو يكرر: ” نحن شعب تسرق حقوقنا ونستحي أن نطالب بها “(ص17). الكل تخلى عنه حتى “إبليس يرفض التعاون معي” (ص29) ورغم ذلك فهو يكرر: “أحب الحياة رغم أنها لا تحبني”. (ص 32)
هل يحق لنا القول بأن واقع اليمن المفارق والمتقهقر أرض خصبة ومعطاء لهكذا سرد خاصة وهو مثقل ( الواقع )بإشكالات و أسئلة بلا أجوبة. فهل استطاع البشير زندال أن يتفاعل مع هذا المعطى وبالتالي يقدم لنا نصوصا قصصية بمستطاعها إضاءة ومساءلة الواقع اليمني وعبره البؤر والبقع المشابهة له؟
هذه القصص هي مدونة اجتماعية، يشارك كل عينات المجتمع في بلورة مشاهدها و رؤاها.
هل وفق القاص في استيعاب هذا المعطى الواقعي وتمكن بالتالي من تحويله إلى توليفة إبداعية؟ البشير زندال قدم لنا صور ونماذج مجتمعية متباينة لواقع متخلف لكن أكيد، أضاف من عنده الشيء الكثير ليرتق هذه الثقوب الفاضحة في المشهد اليومي وليسموا بهذا الحكي إلى مرقى التخييل والإبداع.
قاص أدرك بقوة الفعل أن الأحلام مجانبة لواقع مثل واقع اليمن، فعمرها الافتراضي العلمي لا يتجاوز أمده 35 ثانية، لذلك كان لزاما عليه أن يغوص في تاريخ البلد السعيد الغامس قدره في آلاف السنوات ليسجل عبر قصصه بقايا حياة تمخر عباب اليومى بإكراه متجبر. ترى هل يمضي زندال إلى أقصى الجرح ليوثق لنا في مسوداته رعاف وصديد هذا العفن الآسن، أم هي تعويذات طقوسية استدعاها هذا الواقع، وما هو إلا وسيط القدر انكتبت عبره هذه المجموعة؟
قصص “كأسنان الذئب” تنهل من مرجعية مثخنة بالجراح، تحفل بهذه الغرائبية الصادمة لواقع يخرق قواعد “الأدب الواقعي التعبيري” بأن ينتصر عليه في حقائقه وجزئياته، هي قصص لا تعمل على إعادة إنتاج الواقع اليمني الغامس قدره في التخلف والجهل والإنحطاط، بل تستفيد من هذا المعطي اليومي والحياتي لتمنحنا سردا سلسا يعمل إلى جانب الوصف الدقيق على رصد هذه المشاعر المحبطة والمتمنيات المغيبة، سرد يحاول أن ينتصر على العادات والتقاليد القبلية و الأسرية البائدة، إنها محاولة تأريخية للوضع الاجتماعي والنفسي و الاقتصادي، لمجتمع تقليدي متخلف تهيمن عليه الأساطير والخرافات بقوة.
الإسهاب في وصف وتتبع الحالات المعنية في هذه المجموعة يتوخى الإحاطة بمعطى كلي يكبل أمة بأسرها، هي مجرد مقاطع مجتزأة من كل، أكيد أن البشير زندال حذف وغيب الكثير من الأشياء، لا لأنها غير مجدية أو مضمرة في المعطيات المسرودة بل لأن هذا التغييب له دور في الصنعة القصصية. فالقاص يقوم بدور مصفاة أو مخفف الصدمات كي لا نصدم أكثر بهذا الواقع المتردي الذي لا يعترف بالمشاعر والأحاسيس المغايرة؟
هو هنا يقوم بدور الموازنة الشفافة ما بين سرد نقي وواقع ملوث، يقدم لنا قصصا شديدة الحساسية لا علاقة لها بالوقائع الساندة لها. مُعتمدا مراكمة التفاصيل الصغيرة، لأن هذه التفاصيل وحدها القادرة على حسم الصنعة القصصية .
هامش:” كأسنان الذئب ” قصص منشورات ديهيا2015
بقلم: أحمد شكر