حكايات عديدة نسجت في كل مراحل التاريخ عن طبيعة المرأة الفيزيولوجية والبيولوجية واعتبار هذه «الطبيعة» محددا لتدني مكانتها في المجتمع قياسا بموقع الرجل فيه. وقد كان حيفا كبيرا في العديد من مراحل التاريخ البشري أن يُزج بالمرأة، فقط لأنها امرأة، في الدرك الأسفل من المجتمع. لقد كانت المرأة وما تزال ضحية الذهنية الذكورية التي تجعل منها كائنا لا يستقيم إلا بتبعيتها للرجل وموالاتها له، ولهذا، فالأدوار الأساسية والمناصب ذات الحساسية في أي مجتمع كانت وما تزال تسند، في عمومها، إلى الرجل ولا يُلتفت إلى المرأة حتى ولو كانت كفاءتها وأهليتها العلمية تؤهلها لتحمل المسؤولية والوصول إلى مراكز القرار السياسي إسوة بالرجل. من قلب هذه المعاناة التاريخية للمرأة، جراء إقصائها الظالم، يظهر بين الحين والآخر الاستثناء الذي معه تتبوأ المرأة مناصب عليا قد تكون بالغة الحساسية في بعض الأحيان، كما تبرهن على ندّيتها للرجل، وتدحض بذلك كل «الحجج» أو الادعاءات التي تتدرع بها عقلية الذكورة من أجل تثبيت دونيتها. وإنصافا للمرأة من ظلم التاريخ، نورد في ما يلي نماذج من هؤلاء اللواتي كسرن ادعاءات الرجل بشأنهن، بوصولهن لمناصب النخبة والقرارات السياسية في بلدانهن.
ربة المنزل التي أطاحت بدكتاتورية ماركوس في الفلبين
تمكنت من القضاء على مركز الفساد في الحكومة لأنه كان لا يمكن افسادها
كانت كورازون اكينو أول امرأة تتولى مسؤولية رئاسة دولة في آسيا. وقد دفعها الى الساحة السياسية الفلبينية اغتيال زوجها زعيم المعارضة بنيغنو اكينو في غشت 1983. وقادت اكينو ملايين الفلبينيين الذين كانوا يحتجون على الفساد في نظام الرئيس ماركوس الذي سجن آلاف المنشقين خلال حكمه القاسي الذي استمر عشرين عاما. وقد تمكنت هذه المرأة من القضاء على مركز الفساد في الحكومة لأنه كان لا يمكن افسادها، لقد كانت شجاعتها وتصميمها وقيادتها تشكل مصدر الهام ونموذجا للأفضل لدى الشعب الفلبيني. لقد اعادت صياغة دستور البلاد وافرجت عن كل المعتقلين السياسيين منذ عهد ماركوس وبدأت محادثات سلام مع مختلف حركات التمرد. بقيت اكينو ناشطة في احتجاجات الشارع لإدانة فساد الحكومة حتى مارس2008 عندما شخصت اصابتها بسرطان القولون.
المرأة الصغيرة صاحبة الابتسامة الدافئة والصارمة
الرئيسة الفليبينية السابقة كورازون اكينو، التي ودعها الفليبينيون شهر غشت من سنة 2009 عن عمر 76 سنة، كانت أول امرأة تتولى مسؤولية رئاسة دولة في آسيا في 1983. عرفت تلك المرأة الصغيرة، صاحبة الابتسامة الدافئة والصارمة في آن واحد، والتي كانت من أبرز شخصيات المعارضة الديمقراطية، كيف تسحر قادة دول المنطقة.
وقد اقتحمت رغما عنها الحقل السياسي في 21 غشت 1983، يوم اغتيال زوجها بنينيو “نينوي” اكينو في مطار مانيلا عند عودته الى البلاد، رغم تلقيه تهديدات بالموت بعدما أمضي في المنفى في الولايات المتحدة ثلاث سنوات. ولدت كورازون كوخوانغو في 25 يناير 1933 في مانيلا، ونشأت في مدرسة دينية وحصلت على شهادة في الرياضيات واللغة الفرنسية في معهد مونت سانت فنسنت في نيويورك بالولايات المتحدة، ذلك البلد الذي تعرفت عليه جيدا. وكانت المرأة الكاثوليكية المتدينة التي تهوى العناية بالبساتين قبل دخولها الساحة السياسية، تعنى كثيرا بأبنائها الخمسة وتقدم القهوى والحلوى لأصدقاء زوجها الذي كان لديه طموحات كبيرة. وعادت كواخوانغو الى مانيلا، حيث درست الحقوق في 1954، وتزوجت في السنة نفسها بنينيو اكينو، المتحدر هو ايضا من عائلة كبيرة واكتسب شهرة بمقالاته الصحافية خلال الحرب الكورية.
وريثة عائلة كوخوانغو الصينية الأصل، التي تعد واحدة من كبريات الاسر النافذة في الفيليبين يعمل وجهاؤها في الأراضي والسكر والصناعات الغذائية، تحولت الى ربة عائلة اعتبارا من 1972 عندما فرض فرديناند ماركوس القانون العرفي واعتقل أكبر خصومه بنينيو اكينو لمنعه من الفوز بالرئاسة التي لم يعد يحق له الترشح اليها دستوريا. وأدت سنوات السجن والمنفى الثمانية التالية الى تغيير بنينيو تماما وكذلك زوجته كورازون.
واصبحت هذه السيدة حريصة على استعادة المؤسسات الديمقراطية وكانت متمسكة الى اقصى حد بالشرعية وتحزن لمعاناة بلادها من الاغتيالات التي لم تكشف واعمال العنف وانتهاكات حقوق الانسان المتكررة.
المرأة النحيلة بالملابس الصفراء التي أبعدت ماركوس من السلطة
تولت أكينو، المعروفة باسم “كوري” بين ملايين الفلبينيين، السلطة في 25 فبراير 1986، عقب انتفاضة شعبية دامت اياما وانضم اليها قسم من الجيش بعد فوز ماركوس في انتخابات شابتها عمليات تزوير. وسيتذكرها الناس دائما بأنها المرأة النحيلة بالملابس الصفراء التي أبعدت ماركوس من السلطة في 1986.
وعندما فر ماركوس المذهول وزوجته ايميلدا من البلاد، أعطت سابقة للمعارضين ابتداء من جنوب افريقيا وحتى امريكا اللاتينية وباكستان، ما دفع الكثيرين للإشادة باكينو، بوصفها “جان دارك”* العصر الحديث.
رغم ذلك، شهدت رئاستها ما لا يقل عن ست محاولات انقلابية عسكرية فاشلة، واضطرابات سياسية. وفشلت بالخصوص في تغيير النظام السياسي الذي تطغى عليه نخبة من العائلات الكبيرة. وقد لاقت شجاعتها ترحيبا، لكن شبح تدخل الجيش انتاب حكمها بأكمله كما تسببت الكوارث الطبيعية ومن بينها الثورة الضخمة لبركان جبل بيناتوبو في 1991 في الاضرار بالاقتصاد بشكل كبير.
شخصّت إصابتها بمرض السرطان في مارس 2008، لكن ظهورها العلني استمر، وظلت مواظبة على حضور قداس نهاية الاسبوع حتى وقت قصير قبل نقلها الى مستشفى في اواخر يونيو، لتتوفى السبت، الأول من غشت 2009.
*جان دارك 1412/1431، تُعدّ بطلة قومية فرنسية، قادت الجيش الفرنسي إلى عدة انتصارات مهمّة خلال حرب المئة عام، ممهدةً بذلك الطريق لتتويج شارل السابع ملكاً على البلاد.
إعداد: سعيد أيت اومزيد