منذ أيام قليلة تقدمت بعض الفصائل الفلسطينية بورقة مشتركة حول قيادة فلسطينية جديدة وجماعية تتآلف مع التطورات التي يجابهها العمل الفلسطيني. قوبلت الورقة – المشروع باهتمام متواضع من قبل المواطنين والنقابات والجمعيات.
من الطبيعي أن لا تعلق السلطة الوطنية الفلسطينية بالرفض أو القبول باعتبار أنها المقصودة بالتغيير، لكن الأمر الذي يمكن أن يكون قد دفن هذه المبادرة نهائيّاَ هو عدم اهتمام أو تعليق أو إبداء الرأي، حتى وقتنا الحاضر، على الورقة الفصائلية من قبل فتح والسلطة الوطنية.
تضمنت الورقة – المشروع تكرارا للعودة إلى الاجتماعات الفصائلية وقراراتها منذ عام 2008 وضرورة المصالحة بين المنظمات المتصارعة وإعادة الحياة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومشاركة الفصائل في القيادة الجديدة والتمسّك بالثوابت ورفض الإملاءات الأميركية والمخالفات الإسرائيلية.
بدت المبادرة الفصائلية الثُمانيّة الأخيرة أنها صك تقاسم بين الفصائل للأرض الفلسطينية، وللشعب وحكوماته وحرياته وأمواله، بحيث أن موضوعا واحدا لم تتطرق إليه الورقة المشتركة هو دور الشعب صاحب الشرعية والولاية الوحيد في مهمة اختيار قيادة شرعية منتخبة جديدة.
يرى معظم المتابعين والمراقبين للتطورات التي تمر بها الفصائل أن مثل هذه المحاولات أصبحت سمة العمل السياسي الفصائلي، على الأقل في الأعوام الـ12 الأخيرة، والتي لم تحقق نجاحا ولا تقدماَ في المطلب الأساسي للشعب في إعادة الوحدة والحفاظ على ما تبقى له من أرض فلسطينية، وأن هذه المحاولات، على أهميتها، ليست جزءا من الاهتمام والمصداقية الحقيقيين للفصائل بقدر ما هي وسيلة للخروج من المأزق الحالي الذي يعاني منه أصحاب المقاومة وأصحاب السياسة.
يثير الحراك الفلسطيني الجديد القديم تساؤلات هامة ومعقّدة، أولها أن الرئيس محمود عباس وحركة فتح لم يوافقا على المبادرة الفصائلية، وكافة الاتفاقات السابقة التي أدرجتها المبادرة الفصائلية الجديدة التي صدرت بموافقة الفصائل دون استثناء منذ سنوات طويلة، ولم يتم تنفيذها أو التعامل معها. وثانيها أن ما عرضه الرئيس أبومازن من على منصة الأمم المتحدة في نيويورك أخيرا مبادرة جديدة ومتعارضة وتقصد إنهاء السيطرة الفصائلية غير الشرعية، بما فيها حركة فتح. وهناك اليوم مبادرتان فلسطينيتان مطروحتان في يوم واحد.
جدية المبادرات الفصائلية، كما كان الشعب الفلسطيني يراقب بكل الحسرة في الحراكين السوداني والجزائري، تتأتى من خلال القواعد الموضوعة للإسقاط الفوري للولاية غير الشرعية التي تتمسك بها الفصائل لحكم الشعب الذي لم ينتخبها ولم يخترها. وتسليم السلطة مؤقتاَ لمجموعة وطنية محترمة ومؤهلة، من خارج الفصائل الحالية، لوضع خطة طريق للتوصل لانتخابات رئاسية وتشريعية جديدة فيها مرشحون حزبيون، تتولى الحكم نتيجة لانتخابات نزيهة.
إن الشعب الفلسطيني والعالم بأسره يدرك أن أي اقتراحات ومبادرات لا تؤمّن حق المواطنين في اختيار قياداتهم هي مجرد استنزاف للجهد ورفض للشرعية الوطنية.
المبادرات الجادة لا تتم باستحلاب تجارب فاشلة وبتشابك الأيادي بعلامات النصر أمام كاميرات المراسلين، كما تم في كافة المبادرات الفاشلة السابقة، إنما تنجح بترافقها مع برنامج سياسي واجتماعي يقود المواطنين والأحزاب والفصائل لاصطفاف جماعي تجاه التحديات والعقبات التي تواجه الشعب الفلسطيني، وعلى ماذا سيتفق الفلسطينيون، على مشروع دولة أم مشروع ثورة؟
السؤال المطروح المهمل هو: لماذا تقودنا فصائل ذات امتدادات عسكرية ينضوي تحتها شباب ولا أشجع، بينما قياداتها الأكبر منهمكة في التوصل لاتفاقات سلام وتهدئة مع العدو الرابض على أرضنا؟ وكيف نشغل أنفسنا بمواجهات عسكرية بينما نحن وسط محيط من دول مشغولة بالدفاع عن وجودها وكيانها نتيجة لأخطار، إسرائيل ليست منها؟
لقد أعطينا العالم دروساَ مخضّبة بالدم، وصموداَ عجز عنه الصخر في حب بلادنا والتمسك بحقنا، لكن ذلك كان في وقت توفر فيه الأمل بالنصر، وقد كان.
عندما أجبرتنا العصابات الصهيونية في عام 1948 على النزوح من بلادنا، نتيجة للجرائم والمذابح والمؤامرة الدولية، بقي جزء من شعبنا صامداَ على أرضه. كانوا أقل من مائة ألف فلسطيني في الأراضي التي احتلتها إسرائيل آنذاك، ثم احتلت بعد سنوات كل فلسطين، ثم استرد الفلسطينيون في وقت لاحق جزءا عزيزا من أرضهم. وفي ذلك الجزء يقيم اليوم أكبر تجمّع للفلسطينيين في العالم، أكثر من اللاجئين الفلسطينيين في مجموع أنحاء الأرض. ماذا يعني ذلك وماذا يفرض على عملنا السياسي والمقاوم؟
ليس هناك خطر من احتلال إسرائيل لقطاع غزة أو أجزاء منه، لأن ذلك ليس في برنامجها التوسعي. لكن الدفاع عن غزة واجب مقدّس على الفلسطينيين، كما أي جزء من أرضنا. والدفاع عن مكمن التطلّع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس واجب يتحتم أن يكون على أولويات العمل السياسي والمجتمعي والمقاومة، لكنه يحمل في طياته الخطر ويتطلب الحذر.
الدفاع عن الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية يجب أن يعتمد على ركيزتين أساسيتين، الأولى هي المقاومة بالتصدي الجماهيري السلمي وإجبار الإسرائيليين على الظهور لشعوب وحكومات العالم على حقيقتهم وإجرامهم تجاه شعبنا، والثانية هي اصطفاف حكومات وشعوب العالم لإدانة ورفض الاستيطان ومصادرة الأراضي وتهويد القدس.
لقد أبهر شعبنا العالم بتضحياته للعودة إلى أرض وطنه، بأي صورة ووسيلة. لكن هذا النجاح قد يتعرّض للفشل اليوم نتيجة لأعمالنا التي تنتهزها إسرائيل.
يشهد شعبنا اليوم موجة جديدة للتحرك. موجة تغادر معها فئة من الشباب بلادها وأرضها وشعبها بشكل يحتّم القلق. قد يغادر الشباب رهاناَ على المجهول الذي يبدو لهم أكثر أماناَ. وقد يكون انعدام فرص العمل أو التطلع للأفضل خارج الوطن أو اليأس من انفراج الغمّة سبباَ لذلك.
لكن الواقع يضيف أيضاَ ويشير إلى مسؤولية القائمين علينا. المتعصّبون لآرائهم وقناعاتهم، والكاتمون للأفواه والأقلام، والمتمسكون بالسلطة والمراتب. لقد حان الوقت لاحترام حق الشعب الفلسطيني في اختيار ممثليه وليس الخضوع لفصائل تدعي حقها في القيادة استناداً لما لديها من جنود وسجون. هل نحن في مرحلة تمتين الثورة أم في مرحلة تطوير الدولة؟
مشروع الدولة يتطلب جهاداَ مختلفاَ. جهاد يحافظ على أرواح الشباب والفتيات، ويحمي البيوت والحقول والأماكن المقدسة. إن الأرض التي تم استردادها هي جزء عزيز ورويت بدماء عزيزة علينا، ولا تستحق أن نفقدها بطعنة أو طلقة يدفعها الظلم والعذاب الذي يتعرّض له الأطفال والشباب وعامة الشعب، وعلينا أن ندعم صمودنا، ونمتّن تحالفاتنا مع أصدقائنا في العالم.
إن الذي أوقف أحلام نتنياهو بضم الغور والمستوطنات لم يكن قوتنا العسكرية بل موقف دول العالم التي تسابق في الرفض والإدانة والشجب. مبدأ المقاومة والدفاع عن الحق والأرض قائم وثابت ما دام هناك ظلم وقهر ومستوطنات واستيلاء على الأراضي وتهويد للقدس، هذا حق لا يسقطه اتفاق أو استعلاء.
يتطلب مشروع الثورة الذي يتم تحاشيه باتفاقات أو تهدئة، الاستعداد لحرب ضروس، وتركيزا على الجهاد على الأرض الفلسطينية. ليس هناك أرض أخرى حولنا أو بجوارنا تسمح بالتواجد عليها، لن يكون هناك في رام الله أو غزة أو أي مدينة أو قرية مكان بعد نفخ بوق الحرب لرؤساء ولا لوزراء ولا لسفراء، ولا مواكب لسيارات فارهة تتجول حيث يكمن الخوف والقهر والفقر في الشوارع، ولا أموال تتدفق عند الرضا وعلى من رضي من بنوك أو حقائب.
مروان كنفاني
مستشار الرئيس الراحل ياسر عرفات