عرف العالم خلال هذه السنة، ظرفا خاصا بسبب اجتياح فيروس كورونا التاجي المستجد لجميع بلدان المعمور، حيث لم يفرق بين غني و فقير أو بين صغير وكبير أو بين أبيض وأسود…، واستطاع أن يغير عدة معادلات اقتصادية وسياسية كاشفا بذلك على عيوب ونقط ضعف دول كنا بالأمس نراها قوية بولاياتها أو بتكتلاتها. كما شكلت ظرفية الفيروس التاجي فرصة لبروز طاقات متميزة وفي عدة مجالات خاصة على مستوى المغرب الذي استطاع بمخططاته الاحترازية والاستباقية من أن ينال إعجاب العالم من خلال جميع المبادرات التي قام بها وعلى عدة مستويات نذكر منها:
إحداث صندوق خاص بالجائحة؛
إحداث خلايا الدعم النفسي؛
خلق مختبرات للبحث العلمي؛
إطلاق تمويل لمشاريع البحث العلمي الخاص بالجائحة؛
تحويل الصناعات نحو حاجيات الجائحة الوطنية والدولية (صنع الكمامات، صنع أجهزة التنفس الاصطناعية …)؛
إحداث مستشفيات كبيرة خاصة باستقبال المصابين بالفيروس؛
….
وموازاة مع كل هذه المبادرات القيمة والتدخلات الاجتماعية التي لقت استحسانا كبيرا، عرفت الظرفية كذلك تحولا كبيرا في النقاش العمومي، حيث انتقل هذا الأخير من نقاش الأحداث الفارغة المحتوى إلى نقاش الأفكار وتداول لغة العلم والعلماء، وفي جميع بيوت الأسر المغربية كيفما كان مستواهم الثقافي.
نعم أصبح المجتمع المغربي يتداول لغة تكاد تكون جديدة بالنسبة للعديد من الأسر، منها:
– فهم الفيروس، تنقل العدوى، كيفية الوقاية منها، البحث عن جميع الطرق التقليدية والحديثة لتجنب الإصابة بالعدوى ومقارنة التدخلات في هذا الشأن بشكل نقدي وإيجابي؛
– التعليم عن بعد، حيث بدأ البحث عن اقتناء أو إصلاح الحواسيب والهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية… لخوض تجارب جديدة من تعلم عن بعد وعبر مسطحات متنوعة ( زوم، واتساب، جوجل ميت…) ومواكبة الأسر لأبنائهم والتناوب في بعض الأحيان على استعمال هذه الوسائل التكنولوجبة الحديثة.
نعم، تحولت المقاومة التي عشناها بالأمس اتجاه استعمال هذه التكنولوجيا الحديثة، إلى تعايش حقيقي معها وإلى حاجة ضرورية وأولى من حاجيات هرم ماسلو. كما أصبح لمفهوم الزمن معنى وقيمة كبيرة لدى الجميع رغم تواجدهم طوال الوقت في ببيوتهم، حيث كل واحد منكب في تنفيذ البرنامج الذي سطره والأهداف التي ينتظر تحقيقها.
كشف جائحة فيروس كورونا التاجي كذلك عن عدة أشياء في خبايا طبقات المجتمع المغربي، والذي هو في أمس الحاجة إلى إعادة التفكير بالخصوص في كيفية تنظيم مؤسسات التدخل الاجتماعي حتى تستطيع أن تحقق الحكامة الجيدة في تدابيرها اليومية، خاصة وأن الوضع الحالي أبرز هشاشة العديد من الأسر التي تعيش تحت عتبة المعدل الأدنى للأجور ومعظمها لا يتوفر على عمل قار، هذا بالإضافة إلى الوضعيات الهشة وأطفال الشوارع والنساء العازبات والمسنين وذوي الحاجات الخاصة… وغيرها من الحالات الصعبة والتي تستدعي تدخلات خاصة. كما نجد أيضا الأسر التي تعيش في بيوت تغيب فيها أدنى الشروط التي تضمن بناء الإنسان السوي، مما يتسبب في ظهور العديد من الاضطرابات النفسية والتي في بعض الأحيان تصل إلى حالات الانتحار وخاصة في ظروف الحجر الصحي والذي يلزم العديد من المواطنين على المكوت في بيوتهم ويمنعهم من الخروج لزيارة أقاربهم ومن المصافحة والعناق، وخاصة فئة الأطفال والمراهقين الذين نجدهم في أمس الحاجة إلى الحركة وإلى تفريغ شحن من الطاقات التي يحملونها.
هذه الظروف الصعبة والتي أعطت الفرصة كذلك للعديد من الأشخاص لمراجعة الذات والتواصل مع أسرهم واكتشاف كثير من الأشياء كانوا يمرون بجانبها ويجهلونها عن أقرب الناس إليهم، مكنت أيضا من تنمية نوع من الصلابة النفسية لدى فئة من الأشخاص الذين ألفوا الحجر الصحي وخاصة تلك الفئة المدمنة على استعمال الأنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، مما يطرح تساؤلات عن صعوبة هذه الفئة لتقبل الخروج لمواجهة المجتمع الحقيقي حين تنتهي الجائحة.
لكن أبرز ما سجله زمن كورونا بالمغرب خاصة، هو تنوع الأنشطة التي كانت تبث مباشرة عن بعد على الفايسبوك، باستعمال مسطحات متنوعة ( ويبكس، زوم، جوجل ميت، ستريم ياغرد…)، والتي تطرقت إلى مواضيع متعددة همت عدة محاور: العمل الجمعوي أو السياسي أو النقابي أو الاقصادي أو الثقافي والفني أو التربوي أو الفلسفي، أو الأسري… أو غيرها من التدخلات التي ناقشت مواضيع ذات أهمية بالغة كعلاقة الفلسفة بالعمل السياسي، متيحة بذلك الفرصة للعديد من المتدخلين لتقاسم آرائهم وأفكارهم وخبراتهم مع الآخرين. مرة أخرى مكن هذا النوع من الأنشطة من زيادة رفع مستوى النقاش العمومي وتنوير فكر فئة من المغاربة الذين كانوا في حاجة كبيرة لتتبع مثل هذه المداخلات والذين بدؤوا يدركون أهمية العلم والعلماء والبحث والباحثين.
زمن فيروس كورونا المستجد، أبرز أيضا أهمية الأمن بجميع أشكاله، والذي يشمل الجيش والأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة ورجال الإطفاء…، والذين بفضل تدخلاتهم النبيلة والمسؤولة، تمكن المغرب من تمرير العديد من الرسائل إلى مواطنين كانوا ينتظرون من يساعدهم على فهم الأشياء وكيفية الحفاظ على أنفسهم وذويهم. ففي الوقت الذي كانت تشتغل فيه الأسر داخل بيوتها وتراقب تطور الوضع، يتواجد جنود آخرون في الواجهة الصعبة، حيث يتلقون المصابين ويعملون جاهدين على إنقاذ ما يمكن إنقاذه بجميع الوسائل التي أتيحت لهم. نعم، الأطباء والطبيبات والممرضون والممرضات ظلوا يناضلون بعيدا عن أسرهم وعن فلذات أكبادهم في سبيل الحد من الجائحة، مناشدين الناس للمكوت في بيوتهم والالتزام بشروط الحجر الصحي….
بعد قراءتنا لبعض ما وقع في المغرب في ظل جائحة الفيروس التاجي، وفي انتظار نجاح المعركة التي نخوضها ضد عدو مجهول لا يرى بالعين المجردة، تبقى هناك العديد من التساؤلات التي تفرض نفسها لاستشراف رؤية لمغرب الغد، نذكر منها:
كيفية محاربة كل معيقات تقدم البلاد وأهمها تحرير الفكر من الجهل ومن الخوف ومن الاختفاء تحت ظلال الفساد والمفسدين؛
طرق تقنين التدخلات الاجتماعية تحت نظام ناجع وفعال لا يترك المجال للفوارق الاجتماعية؛
كيفية بناء الفكر النقدي البناء وتشجيع جميع المبادرات المبدعة وتثمينها؛
إمكانيات تشجيع البحث بجميع أشكاله وخاصة البحث العلمي والتكنولوجي؛
شروط المسؤولية على مشاريع حكومية تستحضر كفاءات من ذوي الفكر النقدي والقادرين على تقديم تضحيات وبدون مقابل مادي مبالغ فيه؛
عدد الأطر الطيبة التي يجب توفيرها سنويا والمستشفيات الجامعية وكذا مختبرات البحث الخاصة بها؛
طرق الحد من جميع الأفكار الهدامة والتي تقف أمام تقدم البلاد؛
وسائل حث المثقفين على الانخراط في العمل السياسي وإكسابهم الثقة للمساهمة في تنوير المجتمع؛
سبل تهييىء النخب الحقيقية للمجتمع من برلمانيين ووزراء، عادلين ومنصفين وديمقراطيين، ومن ناكري الذات ومحبي الوطن والمواطنين؛
كيفية التفكير في بناء مؤسسات مواطنة، خاصة على مستوى القطاع الخاص والقادر على الانخراط والتضامن عند أوقات الأزمات دون إحراج فئات عريضة من المواطنين؛
…إلخ
فيروس كورونا التاجي سيرحل قريبا وسنظل نتذكر كل ما تعلمنا من دروس مدرسة الجائحة من قيم إنسانية كونية. أملنا أن تبقى الضمائر يقظة وأن نتخذ القرارات الصائبة للمضي قدما إلى بناء مغرب مشرق ومتقدم ومتلاحم تحت شعار “الله، الوطن، الملك”.
* أستاذ مؤهل بمركز التوجيه والتخطيط التربوي/
* باحث شريك بمختبر التربية والدينامية الاجتماعية. كلية علوم التربية. الرباط
*الكاتب الأول للفرع المحلي بطانة حي السلام – سلا.
> بقلم: د. خالد أحاجي
