ها أنت، الآن، تمتطي سفينةً، تعبُر بك البحرَ الهادئَ، فعن يمينك ترى إيطاليا، وعن يسارك ألبانيا. لكنك عندما تدنو من الميناء، ستقابلك مدينةُ (دوريسْ) الألبانيةُ، وتشاهد سربا من الدلافين يحيـيك من بعيدٍ!
ولك أنْ تسألَ مستغربًا: ما الذي يجعلنا نقرنُ، في بدايةِ قراءتِـنا، ألبانيا بالبحر؟!
لقد قيل منذ القديم، وما زال هذا القولُ جاريا: إنَّ العقليةَ الألبانيةَ تــتغير بين الفينةِ والأخرى، مثل البحر في المد والجزر؛ فهي تارة تميل إلى الغرب، وتارة إلى الشرق، لا تدري أيَّهُما تُفَضِّل، أو على الأقل، مع مَنْ تبني علاقــاتٍ مــتــوازنةً!
ولفَكِّ هذا اللغز، تحاول الكاتبةُ الألبانيةُ (أنيلدا الإبراهيمي) في العديد من رواياتها أنْ تغوصَ بك في بحر مجتمع هذا الــبــلــد الــقــديــم الجديد، لــتُـــشَـرِّحَ أوضاعَــهُ الاجــتــماعيةَ والسـياسيةَ والثقافيةَ، وبالتالي، عــقــليةَ أهْـلِهِ المــتــقــلِّــبةَ!
رُبَّما يعود هذا الــنَّهــجُ إلى ما عرفــتْهُ ألبانيا من حروبٍ طاحنةٍ، رومانية وبيزنطية وعثمانية وأوروبية، كما ظلتْ أرضًا للصراعاتِ والتجاذلاتِ بين الدول، والنزاعاتِ المُحتدمةِ بين القرى، التي تـتـقاذفها القومياتُ يمينا وشمالا إلى سنة 1989.. كل ذلك، جعل الإنسانَ الألباني يجنحُ إلى القوي، في لحظةِ ضعفِهِ، كي يظلَّ على قَــيْــدِ الحياةِ، ويُحافظَ على ذُرِّيتِهِ وثروتِهِ، فلم يجدْ أمامَـهُ إلا هذا الأسلوبَ الواقعي (في رأيِــه)!
سنلجُ عالمَ المجتمع الألباني، عبر رواية (العروس باللون الأحمر) للكاتبة أنيلدا الإبراهيمي، التي اعترفتْ مرارًا بأنَّها لا تكتبُ إلا ما تلتقطُهُ عيناها من بلدِها، أي تنقلُ بصدقٍ وتلقائيةٍ ما عاشته، وتُعيدُ تجميعَ ذكرياتِها، التي راكَمَتْها خلفَ الستائر المُسْدَلَةِ، قبل أنْ ترحلَ للدراسة في سويسرا، ثم تشتغلَ صحافيةً في إيطاليا، فتعودَّتْ أنْ تكونَ أمينةً في نقل الواقع، وصادقةً في وصفِهِ، بعيدًا عن الخيال الجامِح، وفي نفس الوقت، دقيقة في السرد، ساخرة من الوضع !
وبالمناسبة، فإنَّ عنوانَ ولوحةَ الغلاف، يرمزان إلى الأحمر، وهـــو أعـــلى درجة من الخـــوف . هذا اللـــون الـــذي يـــطغى عـلى غالبيةِ النصوصِ الأدبيةِ لآخرين من كُتابٍ وكاتباتٍ، كأنه يُجَسِّد (شلالَ الدم) الذي شهدته ألبانيا في معاركِها عـبر قـرونٍ، لونُ عـلمِها الوطـني، ولونُ التغيـير الذي أحدثه النظامُ الستـالـيـني . فــــتــــوظــيـف الأحمر في الأدب والحياة، له دلالالته التَّرميزية، اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا . إنه لون يرتبط بالدم والنار، وبمعاني الجنس، والإرادة، والخطر، والحقد، والتوتر، والكراهية والفوضى. لون مليء بالعواطف الجياشةِ، التي تمتد من الحب إلى العنف، لتوتر المزاج وفقدانِهِ، والإثارة، والسلوكيات الخاطئة والمتعجرفة..كل ذلك، تعكسُهُ الرواية في صراعاتِ شخصياتِها : (يصل صباحَ يومٍ من شهرِ سبتمبر، في موسمٍ جافٍّ، حيث ينزلُ المطرُ ببطء . كانتْ ترتدي كلَّ شيء باللون الأحمر، كالدم تمامًا، مثلَ ذبيحةٍ بشريةٍ، تُـقـدَّمُ هديةً للآلهةِ، اِستجداءً واسترضاءً للمطر، كعروس) ! بهذا المقطعِ، تستهِلُّ الكاتبةُ أنيلدا روايتَها، التي تقتفي أثرَ تاريخ عائلةٍ،
من الحرب العالمية الثانية إلى سقوط جدار برلين، مع خـلفـيةِ بـلـدٍ أوروبي صغيرٍ، تــخــتــرقــه تـناقضاتٌ وثنائياتٌ شتى، حفرتْ فيه شروخا اجتماعيةً عميقةً، لم يندَمِلْ أثــرُها على مَرِّ السنين !
وإذا كانتِ المرأةُ في ألبانيا، هي عجلةُ الحياةِ النشيطةِ، في العصر الحاضر، بدل الرجل، كما تؤكد الكاتبةُ، فإنَّ ذلك لم يأتِ بسهولةٍ بين عشــيــةٍ وضُحاها، كان فــيـها الرجلُ (ســيــدًا).. إنَّما بعـد عناءٍ وشقاءٍ قاسيـين، عانتهما في الماضي !
ولكي ترسمَ لنا لوحةً لهذه المعاناةِ، تعرِض موقفا مؤثـرًا في الفصل الأول من الروايةِ : في ليلةِ زفافِها، تبكي الطفلةُ الضعيفةُ البِنْيةِ (سابا) البالغةُ من العمر خمسَ عشرةَ سنةً . تـنتحبُ في سَريرَتِها، وتندُبُ حظَّها التعسَ، ملفوفةً في حجابِها الأحمر، تبلله الدموعُ التي تنهمر من عينيها الضيقتين، ولا أحد يشفق عليها، أو يسألُها ماذا أصابَها، ولِــمَ كلُّ هذا البكاء والحزن في لحظةِ فرحِها، التي تـتمناها كلُّ فتاةٍ؟!..فيما النغماتُ الموسيقيةُ تـنـثـالُ من المزامير والطبول في قرية (كالترا) بجنوب ألبانيا، فيتردد صداها بين الجبالِ الشاهقةِ المحيطةِ بها . أفراد عائلتها يتقبلون التهاني والهدايا بوجوهٍ باشَّةٍ، وهي في حالةِ حُزْنٍ قويةٍ. لكنْ، ما الذي يستطيعون فعلَهُ، ولا الطفلةُ معهم، لأنَّ زواجَها من رجلٍ مُسِنٍّ، كان إجباريا وضروريا لـ(تسديد دَيْنٍ) وإلا سيثأر الدائنُ من أسرتِها، كما تجري عاداتُهُمْ، وتُـقِـرُّ أعرافُهُمْ، مــنــذ آلافِ السنين ؟!
فــلكي تــتــفــادى عائـلــتُـها سلسلةً لا نهايَة لها من الــثــأر والــثــأر المضادِّ، تزوَّجتْ سابا بالدائنِ الكبيرِ السِّنِّ، حَقْــنا للدماء . فلا جَدوى من العِنادِ والتحدِّي، ومقاومةِ نظامٍ اجتماعي تقليدي أقوى من طاقتها، ولا نـنسى أنه صِهْرُ عائلتها، كان متزوجا بشقــيـقــتها الكبرى (سلطانة) المـتـوفاة!
ستظل الطفلةُ تنتظر طوالَ الليلُ، حتى تُخْرَسَ الموسيقى، ويصْمُتَ المدعوون عن الغناء والرقص، فيحضر العريسُ ليرفعَ عنها حجابَها الأحمــرَ!..لقدِ انتظرتْ وانتظرتْ بفارغ الصبر، حتى طلع الفجرُ، فأتى ذائخا مُعَرْبِدا، تتقاذفُهُ الجدرانُ، ثم انتصب واقفًا أمامَها . وبِما أنَّها لم تُـعَـبِّـرْهُ، وظهر له من انحناءةِ رأسِها وبُكائِها أنَّها تَــمْــقُــتُهُ، فقد شعر برجولتِهِ تنهارُ، فرفعَ كفَّهُ إلى أعلى، وانهال على خدِّها بصفعةٍ، ثم دفعها بغلظةٍ وشراسةٍ، فسقطتْ على الفراشِ، وألــقى بجسمِهِ الــمــتــرهِّــلِ فــوقها، يستــعرض فُحولــتَــهُ، ويُبْرِز رُجولــتَــهُ، ثم يغــتــصبها، دون رغبتِها، تاركا سيلا من الدم، يلون الفراشَ واللـباسَ بالأحـمـر ! وأما دورُ النساءِ، فتجلى في التَّـلويحِ بالمَلاءةِ، التي لطَّخَها الدم . وتـــتعالى الزَّغـــاريدُ مُلَعْــلِعةً، إيـــذانا بـ(صلاحيةِ البضاعةِ) وأنَّها في مستوى الدَّيْن الذي على العائلة، أو تزيد عنه!..وأما سابا الطفلةُ النحيلةُ، فستستـسلم للأمر الواقع، وتقبل بالوضْع مُرْغَمةً، مثلَ والديها (مليحة) و(حبيب) اللذين تزوجَّا، فأنجبا أربعةَ أولادٍ وخمسَ بناتٍ، جميعهم فتحوا أعينَهم، ونشأوا في منــزلهم ذي (السقــف الأحمر) !
كانتْ سابا الأخيرةَ، ابنةَ (النخالة) لكنها، أيضًا، الطفلةُ الوحيدةُ التي التحقتْ بالمدرسة، غير أنَّ عائلتَها أوقـفـتْها عن الدراسةِ، فمكانُها (الطبيعي) هو البيتُ و(تفريخ الأولاد أكثرَ من البناتِ) لأنَّ الأنثى (وصْمةُ عارٍ) تُربِّي الأطفالَ، وتطْهو الطعامَ فقط، ولا حاجةَ لها بالعلم والثقافة والأدب، وحتى اسمَها يختارُهُ كاتبُ الحالةِ المدنيةِ، لا الآباء، عكس الذكور..و(إذا بُشِّر أحدُهُمْ بالأنثى ظلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهـو كــظــيــمٌ…)..لكنَّها لمْ تــرفع الــرايةَ الــبــيــضاءَ، صارتْ تــنــتــقــم بطريقـتها الخاصةِ، إذ كانتْ، كلَّ يـومٍ، تُهـــيـــنُ شخصيةَ هذا الشيخ، فـــتجـــلـــبُ الـــنـــوادرَ اللاسعةَ لكرامتِهِ، والحكاياتِ الحاطَّةَ من قَدْر رجولتِهِ، تجلُبُها من زوجةِ أبيها لتقصَّها عليهِ . وتبقى على هذا الحال، إلى أنْ تــصبــح أُمًّــا، ذاتَ تجربةٍ حياتــيــةٍ طويــلةٍ، فــجــدةً تــحــكي لأحفادِها أحاجِيَ وحكاياتٍ، لتستــمرَّ الحياةُ، دون أدنى تــغـــيـــيــر، وليستــمر عـذابُ المرأةِ الألبانيةِ، وهي ترزحُ من ثـقـلِ تقاليدَ وقوانينَ تسُـنُّها العشائرُ…!
إن سابا شخصيةٌ رمزيةٌ في السرد الروائي، ومركزُ جاذبيتِهِ، تُــبـلـور الــماضي الأنــثــوي الذي يـــنـــتــقــل من الأم إلى الابــنة إلى الحفيدة . وكل القصص الفرعيةِ تدور حولَها، بعضُها يبعثُ على السخرية، وبعضها الآخر يعكِسُ مآسي وآلاما مُمِضَّةً . وهما معا، أي (السخرية والمأساة) تُشَكِّلان قطعةً أساسيةً في فُسَيْـفِساء ألبانيا . مثلا، تحكي قصةَ الشابةِ البيضاءِ، التي عشقتْ شابا سنغاليا، فترفض السلطةُ علاقـتَهما، وإنْ كانتْ تتبجَّح بالمساواةِ بين الجنسين . إلا أنَّ القضيةَ، ستأخذ أبعادا، عندما يُنجبان طفلا مزيجًا بين اللونين، والعرقين الألباني والسنغالي . وبالرغم من مرور عقود، تظل القريةُ على حالِها، حاضنةً عاداتِها وتقاليدَها الاجتماعيةَ…إلى أنْ يأتي العهدُ الستاليني بزعامةِ (أنور خليل خوجة) فتواصل (دورا) حفيدةُ سابا السَّرْدَ . لكنها تشهد عصرا آخرَ، غيرَ عصرِ جدتِها، لأنَّ الأيديولوجيةَ الشيوعيةَ الحمراءَ، ظهرتْ لتخلصَ المجتمعَ المُغْلَقَ، فترسَّخَتْ قــيمُ ورؤى أخرى في الحياةِ اليوميةِ للألبانـيـين . ولم تحققْ هذا التطور، إلا بفوضى (جرى فيها الدم) ذهب ضحيتَها العديدُ من الْحَرَسِ القديمِ !
النساءُ شرعْنَ في تحرير أنفسِهِنَّ من رِبْقةِ الأفكارِ والطقوسِ الباليةِ، يتمثَّـــلْن في الحفيدةِ، التي تولد بعد سبعين سنةً، لتهاجرَ من القريةِ إلى (تيرانا) العاصمةِ، فتحلم بالرحيلِ إلى دولةٍ أوروبيةٍ، كي تعيشَ حياتَها كما تريدُ، وتبني مستقبلَها بإرادتِها ورغــبــتِها، لا يــتحـكَّـمُ فيها الآخر، ولو كان أباها أو أمَّها !
في الفصل الثاني، ستصمتُ الجدةُ سابا، وستودِّعُ عهدًا أليمًا عاشتْهُ، لتتركَ الفرصةَ لحفيدتِها (دورا) تعيش عهدَها الجديدَ، وتروي ما شاهدتْهُ في بلدِها، من سقوط الشيوعيةِ، وبروز مستقبلٍ غامضٍ لجيلٍ يطمحُ للتغـيـير والتطوير . فهل كانتِ الكاتبةُ، هي الحفيدةُ، التي رحلتْ إلى سويسرا فإيطاليا، هروبا من الاضطراباتِ التي عرفتْها الساحةُ الألبانيةُ، والعالمُ الذاتيةَ، دون أنْ تدري؟!
هذا ما يبدو للمتلقي من ثنايا الأحــداث والوقــائع الــتي تــسردُها . لقد كــان الــقــلــقُ سائــدًا، يــنخُــر جــسدَ الــبــلـدِ، سواء في مرحلةِ سفر الكاتبةِ، أو مرحلةِ بطلتِها دورا، لهذا تقول: (بدا أنَّ السنواتِ الأولى التي أعــقبتِ التغـيــيـرَ، تـفـلتُ من أيدينا دون الالتفاتِ إلى الماضي . لكنْ، لا أعلمُ ما إذا كنا نتقدم حقًّا. مَنْ مِنَّا كان يستطيعُ أنْ يفهَمَ شيئا؟!).
تحــرَّرَ الألـبانُ الــيــومَ، فــأداروا ظهــورَهُــمْ للطــقــوس الــمُــحْــبِــطةِ لحركة التطور والرقي . بل أصبحوا يتعاملون مع كل العادات القديمة والحديثة، بصدورٍ رحبةٍ . لا يتقيدون بها، ولا تُلْزِمُهُمْ بشيءٍ . بل حتى في الدِّين، أصبحوا يوفقون بين المعتقداتِ الصحيحةِ السليمةِ، المستوحاةِ من الأديان والعقائد والمذاهب . فحين يُساورُ أحدَهُمُ الشَّــكُّ، يراعي كلَّ المعتقداتِ الدينيةِ، وينتقي منها ما يُلائمُهُ، ولا يُضِر بقناعاتِهِ نفسَهُ أو سِواهُ . أستحضر، نموذجا، مشهدا غيرَ عاديٍّ، حكته سابا لحفيدتِها دورا : جاؤوا بجثةِ مسلم ليدفنوها . لكن، أين الإمام؟!..في لحظةٍ، ظهر كاهِنٌ أرثوذكسي، وهو يتلو بصوته العذبِ آياتٍ قرآنيةً كريمةً، يتلوها بثقةٍ وطيبةٍ على الجثة في قريةٍ منعزلةٍ، لأنَّ الإمامَ لم يستطعْ أنْ يؤدي صلاةَ الجنازةِ، نظرًا لتراكُمِ الثلجِ على الطريقِ . ولم يعارِضْ أحدٌ هذا الموقفَ ((قصة حقيقية روتْها لي جدتي)) : تقول سابا لحفيدتِها، التي تحيا في أوروبا!..وهذا المشهد، يدل على ملاحظتنا الآنفةِ، المتعلقةِ بالعقليةِ الألبانيةِ، التي تُطْلِقُ العِنانَ للتفكير والحركةِ في أي اتِّجاهٍ، ما دامــتْ هــناك فوائــدُ تُــجْــتـــنى!
ومشهد آخر، أكثرُ غرابةً من الأول، تروي الجدةُ لحفيدتِها بعضَ خصائص الشخصيةِ الألبانيةِ، فتذكر: (في البداية، تحولنا من وثنيين إلى مسيحيين، وكان لدينا حتى البابا الخاص بنا : العالم كليمنت الحادي عشر. ثم أتى دور المسلمين السنة ودراويش بكتاشي . لا يبدو أن هذا يثير قلقَ أيِّ شخصٍ ، يمكنك تغيير دينك في أي وقتٍ تشائين)!
رواية (العروس باللون الأحمر) وإنْ كانتْ تُباشرُ وضعيةَ العائلةِ الألبانيةِ وطقوسَها، خصوصا المرأةَ، فإنَّ فصليْها عالمان مختلفان . ففي الأول، نلحظ صوتَ الراوي قصصيا وشعريا، مجهولَ الهويةِ، أي يُروى بضمير الغائب، فيركزُ على المعنى، ويوجِزُ في التعبير، ويختصر القولَ . بينما الفصل الثاني، يُرْوى بضمير المتكلم، بطلته دورا، وهنا سيختـفي فيه الــنَّــفَــسُ الشعــري، كما لاحـظــنا في الأول، لــيــفــتــحَ المجالُ لحكي القصص والنوادر والوقائع.
نحن على يقينٍ أنَّ الكثيرين سينظرون بحزنٍ وتأسٍّ إلى موضوعةِ هذه الروايةِ، المُضَمَّخةِ باللونِ الأحمرِ، لأنَّها تحتوي على مشاهدَ مُـنـتــقـاةٍ، تُداس فيها كرامةُ المرأةِ، وهذا بالفعلِ يدعو إلى الألم الشديدِ . لكنَّ القراءةَ المتأنيةَ لها، ستُــبْـدي أنَّ لـها سحرًا، يتجلى في سردِها الجميلِ، الذي يُبْهِر المتلقي بغنائيتِهِ أو شاعريتِهِ، ودِقَّةِ وَصْفِهِ، وروعةِ دُعاباتِهِ، الْمُضيئةِ بالاستعاراتِ القويةِ الوَقْعِ . وهذا يرجع إلى أنَّ أنيلدا، فضلا عن أنَّها قاصةٌ وروائيةٌ، هي شاعرةٌ، ما جعلها ترسمُ خلفيةً لسردِها، يتميز بالتعابـيـر الصائبةِ، والألفاظ الدقـيـقةِ، والاقتصاد في اللغة، والتركيز على كـثافـتِها . فالقارئَ لا يَـمَـلُّ، ولا يشعر بالفتورِ، لأنَّ الروايةَ مليئةٌ بالقصص الممتعةِ، والنوادر الباعثةِ على السخريةِ والاستهزاء، واللقطاتِ الذكيةِ..وغالبا ما تكون هذه القصص، أو إذا شئنا أنْ نجنِّسَها تجنيسا دقيقا، نقول إنَّها أقصوصاتٌ، لا تتعدى مساحتُها فقرةً أو فقرتين، تأخذ بيد القارئ إلى الأمام، دون تيه أو تدفقٍ غامضٍ للوعي، فتشكِّل جميعُها لُحْمةَ وسَدى المضمونِ الروائي . ويمضي السرد بأسلوب لا يراعي التسلسلَ الزمني، إنما يسير طولا حينا، ينعطف حينا آخرَ، من خلال القصص والحكايات، والمصائر البشرية : ولادات، وفيات، انتقامات، أسفار، حفلات..مثل ما تكتبه أنيلدا : ((مرَّ الوقتُ في كالترا ببطء . بقيـتْ أرواح بشرية بأكملها في شبكة من الصمت اللامتناهي في الجبال . لقد كسرتها، فقط، ولولةُ الأشجار المتمايلة في مهب الريح)) !
وخاصيةٌ أخرى، وهي أنَّ أسلوبَها، كي يكتسي صبغتَهُ الواقعيةَ، يستقي أحاديثَ شفهيةً وتعابيرَ متداولةً في الحوار اليومي السائر، قائمةً على الثناء والإطراء، والشتيمة والذم، ما يُشْعِر القارئَ بالمحيطِ الاجتماعي الألباني. مثلا، عندما تغضب الأختُ من سابا، تخاطبُها : (عسى أن يتحول حليبُ الثدي الذي نرضعه إلى حرام في معدتك)!.. وعندما يُقالُ إنَّ سابا وُلِدتْ كنجمة المساء، تسخر الحَماةُ : (الفتاةُ مثلَ الأرملةِ في قَعْرِ كيسٍ)!
< بقلم: العربي بنجلون