بقدر ما نجم عن تداعيات جائحة كورونا عديد سلبيات على الواقع الثقافي والفني ببلادنا، وعلى الوضع المادي والاجتماعي لآلاف العاملين في هذا القطاع والمرتبطين به، فإن هذا الواقع وما أحدثه الزمن الوبائي من تحولات جوهرية وقطائع أبرزا أهمية الثقافة والفكر والفنون، وحاجتنا كمجتمع وبلد وشعب إليها، وضرورة الانكباب اليوم على هذا الورش الإستراتيجي، والمتصل بالتنمية الثقافية، وتعزيز الوعي الوطني المدني وسط شعبنا، وأيضا بالتنوير، وبمحاربة الجهل والدجل والتخلف.
إن تحدي الثقافة المطروح أمام بلادنا، لا يتصل فقط بمستوى نقابي مطلبي يرتبط بالأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية للمبدعات والمبدعين ولكل العاملين في حقول الثقافة والفكر والفنون، وإن كان هذا مهما ومشروعا ومطلوبا، ولكن الأمر يعني المجتمع برمته، ويتعلق أساسا بالسياسة العمومية في مجال الثقافة والفنون، وما يستحقه شعبنا من حقوق على هذا المستوى، وهي تندرج ضمن الخدمة العمومية في كل المجالات ذات الصِّلة بالثقافة.
الآن، وبعد أن أعلنت الحكومة رفع حظر التنقل الليلي وتخفيف عدد من التدابير الاحترازية، وأيضا بعد أن بدأت الحياة تعود للمهرجانات الفنية وللمشاريع الإنتاجية في السينما والمسرح والموسيقى، فإن المطلوب هو استحضار سياق وزمنية هذه الانطلاقة وما يحيط بها من إكراهات موضوعية وذاتية وتراكمية، والعمل على جعل عودة الحياة الثقافية والفنية تتم ضمن مخطط استراتيجي كبير ومبتكر تدعمه الدولة وفاعلين آخرين، وتضع له أهداف كبرى في مستوى التحديات المطروحة على بلادنا اليوم ومستقبلا.
عندما نتصفح الميزانيات المخصصة في مشروع قانون المالية لقطاعات الثقافة ندرك أن كل هذه التحديات لا مكان لها، وعندما نقرأ تصريح الحكومة وبرنامجها ندرك كذلك أن حليمة عندنا مصرة على كل عاداتها القديمة، وأن كثيرا من الخفة والتبسيطية والارتجال يميز فهم الحكومة لمركزية الثقافة والفكر والفنون في بناء مغرب الغد.
وعندما نتابع السجال حول نقل معرض الكتاب من الدار البيضاء إلى الرباط بسبب تدابير مواجهة الجائحة، نكتشف أن بلادنا بعد عقود طويلة لم تنجح في توفير بنيات تحتية لمثل هذه التظاهرات الكبرى، وذلك سواء في الدار البيضاء أو في الرباط، ويبرز أمامنا الارتجال واضحا.
نحن اليوم إذن أمام تحدي جوهري يتعلق بإشعاع استهلاك الثقافة والفنون وسط شعبنا وشبابنا ونخبنا، والتحفيز على القراءة والإقبال على الكتاب والمسرح والسينما وغير ذلك من الفنون والمعارف، وبالتالي إنماء الوعي العام لشعبنا، وهنا تقع المسؤولية على كل مؤسسات التنشئة، وخصوصا القطاعات الحكومية ذات العلاقة بالثقافة والتعليم والشباب والإعلام والجماعات المحلية وغيرها، علاوة على المبدعين والمنظمات الثقافية ووسائل الإعلام، وهو ما يتطلب ورشا وطنيا مجتمعيا كبيرا لتشجيع القراءة والإقبال على الثقافة والفنون.
كما أن إنجاح مثل هذا الورش وتنمية الحركية الإبداعية والإنتاجية يقتضي بنيات تحتية، وبلورة مخططات تأهيل فضاءات عرض الثقافة والفنون بكل جهات المملكة، إضافة إلى أهمية إيجاد منظومات محكمة ومحفزة للتمويل والدعم، وكذلك للإشهار والترويج، وقوانين وآليات تدبير مرنة ومتقدمة…
الثقافة والفكر والفنون ليست ترفا أو أمرًا ثانويا أو بدون مردودية أو إنتاجية، وإنما هي تجسد درسا أساسيا ذكرنا به زمن كورونا وأجبرنا على استحضاره، والحرص على تملكه، وهو ما يستدعي اليوم حوارا وطنيا عميقا بشأنه، لصياغة جوابنا الوطني الجماعي على تحديات بناء مغرب المستقبل.
<محتات الرقاص