قبل سبع وثلاثين سنةً، بالتّمام والكمال، ضاعتْ مني العلبةُ السّوداءُ، وأنا مع الأديب محمد برادة في المقرِّ القديم لاتحاد كتاب المغرب. واليوم، لا أدري كيف عثرتُ عليها صدفةً، ما جعلني أُسِرُّ في نفسي: إنّ الأمور تأتي بنفسها تلقائيةً، وإنْ أردتَها، تتأبّى عليك. ورُبما، بالنسبة إليّ، أنسى كثيرا من الأمور، ولا أكترث بها، كُلاّ وجُزْءاً، ورفيعةً كانتْ أو وضيعةً، لأن من طبعي ألاّ ألْهثَ وراءَ الأشياء، فإن تذكرتْني، فأهْلاً وسَهْلاً بها، وإنْ نسيتْني، فلن أندمَ عليها!..وهناك أسئلة حرجة، تبقى عالقة بذهنك سنواتٍ طويلةً، لا تفارقك في يقظتك ولا في نومتك، ولا تجد لها أجوبة وردوداً شافية. كما أنّ هناك أفكارا وآراء ومواقفَ وحالاتٍ، تظنها سليمة، لا غبار عليها، ولا تشوبها شائبة، وفجأة، تصحو من سُباتِك، فتجدها خاطئة، لا يستسيغها عقلك وذوقك!..وإذن، فإن العلبة السوداء، إنْ ضاعتْ منك، تاهَتْ معها الحقيقة، وإنْ وجدتَها في أعماق الحياة، تيقنتَ من مدى صحة أفكارك وآرائك ومواقفك، ورُبَّما تتطلب منك زمنا طويلاً، أي (صبرَ أيوب) حتى تنضج وتستوي، وتلك هي عين العقل!
أذكر ذلك اليوم، الذي كنا فيه، أنا والأستاذ برادة، نبحث عن الأعداد الأولى من مجلة (آفاق) على رُفوف مكتبة الاتحاد. وبينما نحن كذلك، نتصفح هذا العددَ وذاك، إذْ بطَرْقٍ قوي على الباب يُباغتنا، فقفزتُ من مكاني، وتوجّهتُ صَوْبَهُ لأفتحَهُ. وما أن شرعْتُه على مِصْراعيْهِ، حتى فاجأني شخص طويل، عريض، بدين، ينزُّ جبينُهُ عرقا، وعيناه جاحظتان، وخدّاه بارزان، يتنفّس بصعوبة، ويزفُر زفراتٍ حَرَّى! دفعني ببطنه، وبادرني بسؤال، دون تحية أو سلام، فظهر لي من لهجته أنه ليس مغربيا ولا مغاربيا :
ـ هل يوجد رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان؟!
في ذلك العهد، كان الاتحاد والجمعية يتقاسمان المقرَّ، كي يتحمّلا عبءَ تكاليف كرائه ومائه وكهربائه وكراسيه وطاولاته وآلة كتابته (قبل أن يظهر الحاسوب) فأجبته:
ـ حاليا، لا يوجد إلا رئيس اتحاد كتاب المغرب!
قال بلهجة حاسمة وحازمة:
ـ أريد أن أقابله!
وكأن برادة أحس بأن هناك شيئا ما غير عادي (أليس ناقدا؟)
فحضر بسرعة، وأدخل الرجلَ، ثم أقفل البابَ، وسأله ببرودٍ:
ـ اِهدأْ، سيدي، واطمئنّ..ماذا تريد من رئيس الجمعية؟!
رد الرجل، وهو يلهث، والعرق يتصبب سواقيَ من جبينه:
ـ أنا مواطن عراقي، أنتمي إلى الحزب الشيوعي، وكنت أشتغل أستاذا بالدار البيضاء سنواتٍ، لكن النظام العراقي، تدخّل لإنهاء عملي. ولم يكتف بذلك، بل أراد اختطافي، كي أتخلى عن مبادئي. لا تتصور، يا سيدي، الجرائم الفظيعة التي يقترفها في حقنا، نحن الشيوعيين، الرافضين لسياسته…!
قاطعه رئيس الاتحاد متسائلا:
ـ ألهذا تود أن تقابل رئيس الجمعية؟
ـ أجل، سيدي، وليؤَمِّنَ لُجوئي إلى اليونان!
ـ على كل، سأحدِّث الأستاذ عبد الرحمن بنعمرو في قضيتك، وحوالي السّادسة مساءً، تلتقي به في هذا المقرِّ!
اِنصرف الرجل حيناً، فأغلقنا الباب علينا، وعدنا إلى المكتبة، نبحث عن (آفاق)، غير أن صورة الرجل ومعاناته، ضغطتا على نفسي، ووشوشتا ذهني، وعكّرتا راحتي، خصوصا أنني خرجتُ، توًّا، من تجربة مماثلة! وبعد أن لملمتُ بعضَ الأعداد تحت إبطي، ودَّعتُ الأديبَ برادة، شاكرا لطافتَه وظرافتَه، وصَفاءَهُ وسَخاءَهُ! غادرتُ المقرَّ، وأنا أتعثّر في الدُّرْج المُظلم الضيِّق، حتى كدتُ أسقط على وجهي، أكثر من مرّة، فمشهد الرجل، لم يحِدْ عن عينيّ لحظةً. جعلني أتساءل ما إذا كان سيفلتُ من أيدي (زوار الفجر) أم لا، قبل أن يرحل إلى اليونان؟ ..لأنه حكى لي عن (ساقية في الحانة) لَحَظَها، عَرَضاً، تتحيّن الفرصة لتضع في كأسه مُنَوِّما أو مُخدِّرا، فكيف يأتيه النومُ ليلا؟! وحدّثني عن العيون المبثوثة، ليلَ نهارَ، ترصد حركاته وسكناته وتنقلاته. فأنْهَوْا عمله، كيلا يجد بُداًّ من العودة إلى العراق، وهناك سيسهل على الأسد أنْ ينقض على الفريسة، وبكل يسر! لكنّ الرجل كان يقظاً، يحسُب خطواته بدقةٍ، ويَحْذَر أنْ يُخْطِئ، فـ(يسبقُ السيفُ الْعَذَلَ) ففكّر في أن ينضمَّ إلى رفاقه الفارّين إلى اليونان، حتى لا يقعَ له ما وقع للثور الأبيض في قصة (كليلة ودمنة)..وحسنا فعل!
ولما انصرفتُ من العمارة، وجدتُه متسمِّرا أمامها، متَّكئا على الحائط، كأنه ينتظر أحدَنا، أو يريد أن يتيقن من تصرفاتنا، أو ينتظر رئيس الجمعية…فتقدمتُ منه بخطى بطيئةٍ، وقلت له باسما: لقد سمعت، قبل قليل، أنَّ من يعثر على شيوعي عراقي فارٍّ، سيُكافأ بمليون دينار. لذلك، أدعوك إلى تناول الغذاء معي، كي أضع حبة منومة في طعامك، فأفوز بالمكافأة!
اِنفجر الرجل ضاحكا، ثم عانقني قائلا: والله، يا أخي، منذ أكثر من سنة، لم أذق طعم النوم، ولم أضحك، ولو مرة، ولكنْ، ما دمتَ تريد أن تنال الجائزة، فإنني لن أحرمك منها، وسأرافقك إلى المطعم!
عندما أتى النادل حاملا بين يديه صحنيْ سمكٍ، بادر الرجل يتلقفهما بسرعة، ويصُبُّ الواحدَ في الآخر، فيما كنت أتأمل بعينين زائغتين حركته المضطربة، غيرَ العادية، وكأنه شعر بي، فقال لي مراوغا: لماذا لا نُشْرِك الطعام، بدل أن يتناوله كلٌّ منّا في صحنه؟..أجبته، والدهشة تستولي علي: وليس ببعيد أن نشترك في المخدر، إذا كان مدسوسا فيه، فيلقون القبض علينا معاً!..ضحك قائلا: صدقْتَ، وبالْحقيقةِ نطقْتَ!..رَبَتْتُ على كتفه: لا تفقد الثقةَ في كلِّ شيءٍ، فتقع ضحيةَ الوساويسِ والْهَواجِسِ!
وما كاد يُجيبني، حتى أردفْتُ متسائلا: ألا ترى معي أنك تنظر إلى الجزء العلوي الفارغ من الكأس، وتتغاضى عن الجزء السفلي المملوء؟..اِسْتَغْرَبَ من سؤالي:
ـ ماذا تعني؟!..لم أفهم قصدك!
ـ أعني أن النظام العراقي، وإنْ كان قاسيا على معارضيه، فهو يمر بمرحلة شبيهة بتلك التي عاشتها إسبانيا في عهد فرانكو، الذي تخلص بشراسة من النشطاء السياسيين والمثقفين بل حتى من الأدباء. وها هي، الآن، إسبانيا، ترفُل في عز الحرية والغنى والتطور..لكنْ، لا تعتبر رأيي تبريرا لحالة القمع التي تجتازها العراق، فهذه الحالة لا ينبغي أن نقبلها مهما كانت الظروف، ولا يجب أن تتكرر في أي بلد من العالم!
قاطعني هازئاً: وماذا ترى في الجزء السفلي المملوء من الكأس، أيّها (الناقد النّزيه)؟!
اِعْتدلتُ في جلستي: لا تنس أنّ النظام أمّم شركة النفط، التي كانت بريطانيا تستغلها، وعائداتها المالية أَنْفقها في تطوير التعليم والصحة والصناعة والفلاحة والسّكَن…وأنا مازلت أذكر، أنّ أكثر من عشرين ألفَ فلاح مغربي، آواهُمْ وحفَّزهُمْ على العناية بالأرض، وأنّ الدول العربية التي خذلته في الأخير، كانت (تمْتح) من آبار نفطه مجّانا. وأنّ الملايين من الكتب والمجلات الثقافية، الموجّهة للكبار والصغار، كانت توزّع في العالم العربي بسعر زهيد، تشجيعا للفكر والثقافة والأدب. ولا أنكر، أيضا، أنه نَحّى الرئيسَ أحمد حسن البكر سنة 1979 وأحكم قبضته على السلطة بيد من حديد، وصفّى معارضيه، وذلك هو الجزء العلوي الفارغ من الكأس!
اِنفرجتْ شفتاهُ عن ابتسامة عريضة، وهو يطلق كلاما عامًّا، كأنه يتهرّب من الرّدِّ: لا أستطيع أنْ أناقشك في كل ما طرحته في حديثك، فأنت تنظر بعين من الخارج، وأنا أنظر بعين من الداخل، ولا أظنُّ أننا سنلتقي. وفي رأيي، يجب ألاّ نفتح العلبةَ السوداءَ، حتى تنضَجَ الأمور، وتستويَ جيداً، لنميِّز صالحَها من طالحِها، ونَيِّئِها من ناضِجِها!
وبهذا القول، أنهى حديثنا، وقمنا لنغادر المطعم، فعدتُ إلى بيتي، وعاد هو إلى مقر الاتحاد ليلتقي برئيس الجمعية. وبعد حوالي خمسة أيام، تلقيتُ مكالمة هاتفية منه: شكرا، صديقي! أنا الآن في قاعة الاستقبال بمطار الدار البيضاء، لأتوجّه إلى أثينا، فقد أثمرتْ جهودُ الاتحاد والجمعية خيراً كثيراً! قلتُ له ضاحكا: هنيئاً لك! الآن، ستنامُ مِلْءَ جُفونِك. لكنْ، إذا أحضرتْ لك المضيفةُ عصيراً، فحذارِ أنْ تشربه، وحاولْ أنْ تستبدلَهُ مع الجالس بجانبك، وإلاّ فإن الطائرة ستنزل بك في مطار بغداد، بدل أثينا!
ضحك قائلا: لقد شربتُ أكثرَ من ثلاثةِ عصائرَ، منذ أنْ حضرتُ إلى المطار صباحا باكرا!
حينئذٍ، كان ابني البكر (عمر) في سنته الأولى يحبو، واليوم، يُنْهي سنته السادسة والثلاثين. وخلال تلك السنوات، مررتُ بتجاربَ شتى، وبأحداثٍ ومواقفَ جَمّة، أنستني ذلك الرجلَ، ولم أعُدْ أفكِّر في العلبة السوداء. فهناك أمور أخرى، يشيبُ لَها شعر الولدان، قلبتِ العراقَ رأساً على عَقِبٍ. لقد طفحتِ الكأسُ، ولم نعُدْ نُمَيِّز بين نصفيها، العلوي والسفلي، عندما غزا صدام الكويت، وتعرّض الشعب العراقي للتهجير والتدمير والتجويع عام 2003 وكانت الفرصة مواتية للمعارضين، أن ينقضّوا على الحكم، ليثأروا من صدام، وينشروا (الديموقراطية) التي كانوا ينشدونها، ويحلمون بها في العهد البائد، ويا لها من ديموقراطية، تسُرُّ العدُوَّ قبلَ الحبيبِ!
كما أنّ الهاتف الثابت تحول إلى نقّال، والآلة الكاتبة إلى حاسوب، وعبد الرحمن بن عمرو إلى خديجة الرياضي، ومحمد برادة إلى عبد الرحيم العلام، والجمعية، استقلّتْ بذاتها، فيما انتقل الاتحاد إلى مقر جديد..فالتحوّل طال كل المناحي، الخاصة والعامة، إلا مطعم السمك، الذي بقي صامداً في مكانه على شاطئ البحر الأبيض المتوسِّط! ويوماً ما، فتحت علبة بريدي الرقمي، فوجدتُ الرسالة التالية: مساء الخير، صديقي! يسرني أن أدعوك، غدا، إلى وجبة غذاء بالمطعم نفسه، الذي تناولنا فيه السمك، قبل ستة وثلاثين عاما. وفي هذه المرة، سوف لا أشرك الصحنين..أخوك العراقي: سمير!
أحسستُ بحالة ذهول عميقة تغمرني، وتبعثر أفكاري، ووجدتني أسترجع الماضي في ذاكرتي، التي شاختْ وهرمتْ بما فيه الكفاية، إذ لم تعدْ تحتفظ إلا بالنَّزْر اليسير من الأفكار والصور والمشاهد. وبمشقة، قفز وجهُ الرجل إلى عيني، وتماثلتْ صورته بينهما باهتة شيئا ما، وما لبثتْ أنْ توضّحتْ لي، مثلَ حديقةٍ مضيئةٍ في الليل!
لم يكنْ بإمكانه أنْ يصل إليّ إلاّ عن طريق البريد الرقمي، وصفحة التواصل الاجتماعي، لأنّ التحول أحرق كلَّ العناوين والأرقام القديمة، التي سلّمتُها له قبل أنْ نفترق، بل حتى ملامحَ وقسماتِ وجوهنا، وأفكارنا وآراءنا، هي أيضا، طرأ عليها ذلك التحول، الذي تُحْدثه آلةُ الزمنِ فينا!
صبيحة اليوم التالي، قصدت المطعم، قبل الموعد بساعة، فانتهزتها فرصة، لأتمشّى على شاطئ البحر. كانت هناك بعض السفن والزّوارق راسية، وبعض الصيادين، ألقوا صناراتهم، ينتظرون البحر أنْ يجود عليهم بخيراته. والقطط الجائعة تتربّص بسلال السمك، وتترصّد أولَّ سمكة تُلْقى فيها. كان سطح البحر يتموّج بحركة نشيطة، وإنْ كان يُنْذِر بأعماقٍ ما لها قرار، توحي بأفكار سوداء! وأنا أتمشّى الْهُوَيْنى، إذا بي ألْمَح شبحا، أثار انتباهي، يقتعد صخرة. نحيلا كالعود، أصلع الرأس، شاحب الوجه، غائر العينين، كأنه خرج من قبر، يرسل نظراته بعيدا بعيدا، وراء زُرْقة البحر! تقدّمت منه، أُحَدِّق في وَجْهِهِ الْحَزين، الْمَرَّةَ تِلْوَ الأُخْرى، فوجدته لا يحمل إلا القليل من ملامح صديقي العابر سمير. اِلْتفتَ نحوي، وابْتسم ابتسامة خافتة، ثم انتصب واقفاً، وهمس بنبراتٍ متقطِّعةٍ:
ـ ما الذي يجعل المشرقي يلتقي بالمغربي؟!
تلأْلأَتْ عينايَ، فأجبتُهُ:
ـ الهمُّ واحد، يا صديقي، من الماء إلى الماء!
اِتّسعتْ حَدَقتاهما..لقد عرفته، إنّه هو.. يستحيل أنْ يُخْفى عني، رغم ما فعله الزّمنُ فيه!
ـ هل ما زلتَ تذكر حديثنا؟ ألم تؤجِّل الخوض فيه إلى أنْ نفتح العلبة السوداء؟
تساءلتُ، فردّ عليّ موافقاً:
ـ أجل، صديقي! فالقرارات والأحكام الصعبة، لا تؤخذ في حينها، لابد لها أنْ تختمر في الزمان والمكان والأذهان، كي تتوضّح أكثر! هل تريد أن نفتح العلبةَ السوداءَ، الآن، لنطلع على كثير من الأسرار؟
قاطعته بصوت أجَشَّ:
ـ نحن في خريف العمر، لا نُهْدر البقيةَ الباقيةَ من حياتنا في مناقشات مستفيضة وعقيمة، إنّما نريد أنْ نحصل على إجابة مقتضبة، أي (ما قَلَّ ودَلَّ)!..فلم تبقَ في ذاكرتنا مساحةٌ لتخزين الأسرار!
أيدني قائلا:
ـ حسنا نفعل! فماذا تريد مني بالضبط؟
تنهّدتُ حُزْناً وأسى، ثم سألته:
ـ كيف هي العراق، أرضُ الحضارة الإنسانية، ومَهْد الكتابة، والفكر والقانون..ألم تصبح عروسا ترفُل في فساتين الحرية والديموقراطية، والعدالة الإنسانية!
هنا قاطعني، وعيناه تحبسان دمعا، كاد أنْ يقفز إلى خديه:
ـ كفى، يا صديقي! لا أريد مزيداً من الإطراء والتمجيد، فإنّ تلك المُحاباة تؤلمني! لقد عدتُ من العراق، ولم أتركْ فيها حضارة، ولا كتابة، ولا فكرا، ولا قانونا..والبيت الذي كان يأوينا، أنا وأهلي، أصبح أثراً بعد عين! كل شيءِ دُمِّر، ولم يبق (إلا وجهُ ربِّك ذو الجلال والإكرام)!
وصمت قليلا، ثم أطرق يفكر، فانتهزتُها فرصةً لأسأله:
ـ ألا أجبني بصراحة: لو بقي صدام حيا، هل كان أحدٌ يجرؤ على هذا التدمير؟! هل كنت ستفقد بيتك وأهلك وصحبك وحزبك؟!
ـ إنّ الجواب عن سؤالك، تكشفه العلبةُ السوداءُ!
بادرتُه بلهفة:
ـ وما الذي سجّلتْه؟
أجابني بتحدٍّ، وكأنه لَمْلَمَ كلَّ قواهُ:
ـ لقد حانتْ ساعةُ الحقيقة، ولا نقدر أن نخفيها عن الحالمين بها، فكلنا أخطأنا الطريقَ بقدْرٍ ما، لكنْ، ليت مائةَ (صدام) ولا هؤلاء! كنا نريد أن نتخلّص منه، فتعاوننا مع (العم سام) على حياكة تُهْمةِ (أسلحةِ الدّمار الشامل) ولم نكنْ نظنُّ أنّنا نُدَمِّر البلدَ بأيدينا، وننحَتُ بها تِمْثالاً فَخْريّا لعدوِّنا صدام!
تأمّلْ معي: صباحا باكرا، فتح الضابط الأمريكي الباب الحديدي للزنزانة، وسأل صدّاماً:
ـ لم تبق إلا خمسُ دقائق ونعدمك، فماذا تطلب؟
ـ أنْ تحضر لي معطفي فقط!
اِستغرب الضابط من طلبه البسيط:
ـ ما الذي فكّرك به؟!
ـ الجَوُّ بارد في الفجر، ولا أريد أنْ أرتعش، فيظن شعبي أنّ فرائصي ترتعد خوفا من الموت!
وطأطأ رأسه، يُجْهِش بالبكاء:
ـ أجل، يا صديقي!..ليت مائةَ (صدام) ولا هؤلاء، وشَتّان ما بين الثَّرى والثُّريا!
بقلم: العربي بنجلون