الشاعر إدريس الملياني لبيان اليوم بمناسبة صدور روايته الجديدة «كازا نفا»

> حاوره: عبد العالي بركات

وقع الأديب المغربي إدريس الملياني روايته الجديدة «كازانفا» برواق دار النشر العين، بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، بالمناسبة كان لبيان اليوم حوار معه حول الجوانب الموضوعية والفنية لهذه الرواية، وظروف انتقاله من الكتابة الشعرية إلى السرد الروائي.
> صدرت لك رواية، مع العلم أنك معروف بكونك شاعرا، هل تم هذا الانتقال من الشعر إلى الرواية بشكل سلس؟
< سبق لي في أكثر من مقام ومقال أن تحدثت عن الترحال الإبداعي على منوال الترحال السياسي، في العقود القليلة الماضية لاحظ الرأي العام الثقافي هجرة كثيرين من المبدعين من جنس إبداعي إلى آخر، خاصة من الشعر إلى الرواية، ومنها إلى التشكيل مثلا، هذه الملاحظات سبق أن نشرتها في كتابي “سنديانة الشعراء”، خاصة عن تجربة القاص أحمد بوزفور، وكذا في دراسة مضمنة بكتاب جديد صادر هذه السنة عن اتحاد كتاب المغرب بعنوان: “من ثمار براري النثر وبحار الشعر”، في هذه الدراسة الطويلة، حاولت أن أكشف عن الشعر في قصص بوزفور، حيث يوجد بالفعل كثير من المقاطع الشعرية واضحة للعيان، وفي ثنايا أقاصيصه أيضا، من المعروف نقديا أن لغته، تمتاز من بين ما تمتاز به، باللغة الشعرية. اقتنعت خلال هذه المرحلة أن هذا الترحال الإبداعي إيجابي ومفيد للجنس الذي يسكنه المبدع، ليس لأي كاتب إلا مسكن واحد، أو عنوان واحد، أو بالتعبير الشعري: حب واحد. ما عدا ذلك ليس هناك سوى الكتابة الموازية التي تغني تجربته الشعرية. وسقت على ذلك أمثلة كثيرة، فإبراهيم نصر الله راكم تجربة روائية متميزة عربيا، ولكنه يبقى دائما شاعرا، كذلك سليم بركات، أعماله الروائية معروفة كثيرا ولكنه ذو تجربة شعرية متميزة، وكذلك الشاعران سعدي يوسف وأمجد ناصر كتبا الرواية، ولكنهما يظلان شاعرين، حتى في المغرب عرف محمد الأشعري شاعرا وسيبقى شاعرا، رغم أنه كتب الرواية، حسن نجمي سيبقى هو كذلك شاعرا وإن كتب الرواية وهكذا، فإذن ليس للكاتب إلا عنوان واحد، أو وطن يسكن فيه، فمسكني وموطني الأساسي هو الشعر، وكل ما عدا ذلك، سواء ترجمت أو كتبت محكيات، ولدي بالفعل محكيات صادرة عن اتحاد كتاب المغرب، بعنوان “فتاة الثلج”، أو كتبت الرواية، فهذا بالنسبة إلي، لا يغني إلا تجربتي الشعرية، وفعلا الشعر حاضر في جميع هذه الأعمال التي أصدرت لحد الآن، فاتجاهي إلى كتابة الرواية هو عشق وحب للإبداع بصفة عامة، وطبعا الرواية ليست ضرة للشعر، إنها عشق ويبقى الكاتب عاشقا للإبداع في أي سماء حلق أو على أي أرض حط.

> نود أن تقربنا من محتوى روايتك الجديدة “كازانفا”، ما هي الإشكاليات الموضوعية التي تطرحها؟          
< هذا عملي الروائي الثاني، أما العمل الروائي الأول فهو بعنوان “ماتريوشكات عرائس روسية”، واضح من عنوانه أنه تجربة يمكن أن تكون سيرة روائية لتجربة الحياة التي أمضيتها في موسكو، كنت قد كتبتها  ليس تحديا لكاتب روائي عربي معروف هو صنع الله إبراهيم، الذي كان قد كتب رواية جميلة بعنوان “الجليد”، وأشار علي بقراءتها الناقدان القمري بشير ونور الدين صدوق، ولكن عندما قرأتها اكتشفت أن فضاءها موسكوفي فعلا، أجواؤها كلها تدور في موسكو خلال حرب أكتوبر، ولكن إذا جاز لي القول، شعرت بنوع من التحدي، كيف أنني أعرف فضاء موسكو أكثر مما في هذه الرواية، وعشت تجربة غنية فيها، ولم أكتب عنها، فانتابني إحساس بضرورة أن أعبر عن هذه التجربة الاجتماعية والإبداعية التي عشتها في موسكو، وأن لا أحرمها من الحياة، فكان هذا العمل وهو صادر عن منشورات دال السورية، لكن مع الأسف لم توزع لحد الآن في المغرب، فلم أتوصل منها إلا بنسخة واحدة.

> وبالنسبة لعملك الروائي الجديد “كازانفا” الذي حظي بالوصول إلى القارئ المغربي؟    
< هذه الرواية الثانية مهداة إلى القائدين الشيوعيين الشهيدين: ليون سلطان، أول أمين للحزب الشيوعي من سنة 1943 إلى 1945، والذي استشهد في جبهة القتال، في أوربا ضد النازية، وعاد للنقاهة وتوفي في الحرب العالمية الثانية سنة 1945. الشخصية الثانية المهداة إليه الرواية: المفكر الزعيم السياسي شمعون ليفي، هذا الإهداء ليس اعتباطا، ولكنه يرتبط كذلك بعالم الرواية، فالرواية إذا صح لي هذا التعبير، ذات تيمتين: الأولى هي كازانفا، كما يشير إلى ذلك عنوانها، كازابلانكا زائد أنفا التي كانت في تامسنة البورغواطية المعروفة، وهذه الكازانفا تحدثت عنها بحنين إلى ماضيها، كأنها كتابة سيرة ذاتية لكازانفا، للدار البيضاء كيف سميت بلونها الأبيض عندما أبادها البرتغاليون وأبادها في ما بعد حتى أقاربها، مثل الملك اللمتوني يوسف بن تاشفين، فعلا أباد تامسنا عن آخرها، من أم الربيع إلى أبي رقراق، هذا الخلاف الديني والطائفي بين المرابطين والبورغواطيين موجود في الرواية، الرواية احتفاء بالدار البيضاء، كيف كانت متعاقبة الولادة والإبادة، مرت عليها فترات بقيت أرضا خلاء، فيها البوم والأسود والثعالب والحشرات فقط، إلى أن جاء بعض سلاطين المغرب وأحيوا ميناءها وبعض الدور فيها، إذن الرواية تحكي عن كازانفا، كيف ولدت، كيف كانت ترابا وخلاء، وكيف نشأت فيها حياة جميلة، الرواية تحتفي بين الدار البيضاء القديمة والحديثة، بالتيمة التالية وهي اليهود المغاربة، كيف عاشوا آلاف السنين، وهم أمازيغيون أيضا، سواء اليهود الأصليون من هذه التربة المغربية، أو الذين هاجروا في عهد سليمان أو النازحين من البرتغال  ومن الأندلس إلى المغرب، كانوا يعيشون بأمن وسلام، مع الأمازيغين وهم أنفسهم أمازيغيون، وأسسوا ممالك كثيرة، أشرت إلى البعض منها التي أسسها بعض الشخصيات اليهودية المغربية، سواء في الأطلس أو في مختلف مناطق المغرب القديم، على كل هذه التيمة الثانية هي الأساسية، لأنها تطرح فكريا، لماذا اليهود مضطهدون عبر التاريخ، من جميع الآلهة إذا جاز التعبير، ومن جيمع الشعوب، هم دائما يعيشون هذه الدياسبورا، هذا الرحيل، مع أن الرحيل لم يدم إلا أربعين سنة، وليس إلى الأبد، وما يتهم به اليهود من غش تجاري وغير ذلك من السلوكات، وهذا مذكور في الرواية، ينطبق على غيرهم من الأجناس الأخرى، فإذن الرواية تحاول أن تطرح هذا السؤال الإشكالي وتجيب عنه. أولا اليهود المذكورون في هذه الرواية، هم من غير الصهاينة، اليهود المغاربة والرابطة اليهودية منذ البداية كانوا معادين للدعايات الصهيونية في ذلك الإبان، حين ظهور الحركة الصهيونية وإسرائيل في الأربعينات، لكن الحركة الوطنية وزعماءها، وأنا أذكر بعض الاستشهادات في الرواية، بعض زعماء الحركة يعترفون بتقصيرهم في كسب اليهود المغاربة إلى صف الحركة الوطنية، ونتيجة هذا العداء للسامية، وهذا الاجتثاث، اضطر اليهود المغاربة إلى الهجرة إلى إسرائيل، ومع ذلك الحج إلى المغرب لليهود المغاربة لا ينقطع، أسبوعيا يوميا شهريا سنويا يحج اليهود المغاربة بقداسة إلى المدن المغربية للترحم على موتاهم أو للقاء أقاربهم وأصدقائهم. الرواية إذن تحكي عن لحظات من التاريخ التي اضطهد فيها اليهود، وكل ذلك منقول من كتب توثيقية دون الإشارة إليها، فما من رأي وما من مشهد وما من صورة لهذا الاضطهاد، إلا وأضع بين مزدوجتين بعض الاستشهادات عنها من التاريخ.

> ما هي الرسالة التي رغبت إيصالها من خلال الاحتفاء باليهود على وجه الخصوص؟
< الرواية تحتفي بالغناء اليهودي الجميل جدا والأصيل وغير المسبوق، من قبيل ما يسمى بالغناء الشكوري، كما تحتفي بالدور التاريخي الذي لعبه اليهود المغاربة عبر التاريخ، في المجال التجاري والحضاري والثقافي والفني والإعلامي، صور كثير للدور الحضاري الذي لعبوه. القسم الأول من الرواية يحمل عنوان “وابيضاوا وابيضاوا واش الحب كيداوا”، وهو مقطع من أغنية مشهورة، هذا القسم هو رحلة سياحية قام بها السارد برفقة زوجته إلى اسطنبول، وكما هو معروف فإن الطائرة المغربية الذاهبة إلى اسطنبول عادة ما تكون غاصة باليهود المغاربة الذاهبين إلى إسرائيل، فحقائب هذه الرحلة السياحية حملها خطأ اليهود الإسرائيليون ولم يتم استعادتها.
القسم الثاني من الرواية حمل عنوان “لم تعش في أرض ميلادك ولم تمت في أرض ميعادك”، ومن هنا واضح إشكالية أنه إذا كان اليهودي المغربي أو غير المغربي، لا يستطيع أن يعيش عزيزا كريما في مسقط رأسه، ولا يستطيع أن يموت أو أن يذهب إلى أرض الميعاد، ففي أي أرض سيعيش؟ المهم أن هذه الرواية تطرح إجمالا مشكلة الأقليات، اليهود في الرواية ليسوا طائفة ولا أقلية، ولكنهم بصريح العبارة، يهود مغاربة، لهم ما للآخرين وعليهم وما على الآخرين، هذه هي المواطنة، فإذا كان من ضرورة لحل مشكلة الأقليات، فيكمن ذلك في المواطنة الكاملة الحقوق، هذا معروف من الناحية السياسية، ولكن الرواية تحاول أن تقول ذلك بشكل حكائي روائي غير مباشر، من خلال مذكرات وجدها السارد صديق العائلة اليهودية. بوطبول أهداه صندوقا صغيرا اكتشف فيه صورا جميلة لكازانفا القديمة ولكن وجد فيه أجمل من ذلك، مذكرات بعنوان كازانفا بار، لماذا بار، لأن هذا السارد غير المعروف هو أخو بوطبول إسحاق، أو كاتب مجهول يكتب ويقرأ عن اليهود المغاربة واليهود بصفة عامة عبر التاريخ، ويدون ما يشبه مذكرات، ولكن هذه المذكرات، يكتب كل فصل منها في بار من البارات والبراسريات المغربية القديمة، التي نشأت في عهد الحماية، كل فصل من القسم الثاني مكتوب في بار، يحكي فيها عن معاناة اليهود، وعن الدار البيضاء من جهة ثانية، كيف نشأت وبنيت، ومن هم بناتها؟ بناتها هم اليهود والأمازيغيون أي السوسيون المعروفون بامتهان التجارة. اليهود المغاربة هم المؤسسون الأوائل لجميع الحرف، ولجميع الأزياء والحلي والطبخ وتقاليد الأعراس.. كل ذلك آت من التقاليد والطقوس اليهودية.

> لننتقل إلى الجانب الفني في الرواية، فباعتبارك شاعرا، هل هذا يعني أن هناك غلبة للأسلوب الشعري، أم أنك راعيت الفروق القائمة بين ما هو نثري سردي وما هو شعري؟
< ليس ادعاء مني إن قلت لك إن العديد من الأصدقاء المبدعين يلاحظون علي أن أسلوبي النثري ذو مسحة شعرية، فعلا أنا لا أتصنع ذلك، بل يأتي عفو الخاطر، ففي هذا العمل الروائي وفي غيره من نصوصي النثرية، أحاول المزاوجة بين النثر الفني والشعري، هناك حضور لمقاطع شعرية كثيرة، بل هناك قصائد وأغاني روسية مترجمة، وكذا مقاطع شعرية كنت قد كتبتها بالروسية. يمكن القول إنني أحتفي بالشعر والغناء المغربي اليهودي في هذه الرواية، هناك حضور لمطربين من قبيل: زهرة الفاسية، ريموند البيضاوي.
الرواية ليست حكاية فقط، وإن كان الحكي عنصرا أساسيا في الرواية، لكنها بناء لغوي قبل كل شيء، لا ينبغي كتابة الرواية بأي أسلوب، مثلما تحكي الجدات، بل لا بد من حضور عمق فكري، ولغة إيحائية، محملة برموز وعناصر جمالية.
 مع ذلك، يبقى بيتي الأول هو الشعر، أنا وفي له، ولن أبدله بأي ضرة، سواء كانت محكيات أو نقد أو ما إلى ذلك. إننا نوزع جسومنا في جسوم كثيرة بحب وعشق. لقد ذهبت بمحبة صادقة إلى الرواية وليس منافسة أو غيرة أو تحديا. لن أبتعد عن الشعر.

> هل عملك الإبداعي القادم سيواصل شق دروب الرواية، أم أن الحنين سيشدك للمسكن الأول: القصيدة؟  
< في الحقيقة كدت أنهي ثلاثية روائية بعنوان “الدار الحمراء” وهي تدور في فضاء البادية سنوات الجوع والأوبئة والأمراض الفتاكة إبان الأربعينيات من القرن الماضي، فحين نمر بالطرق السيارة نشاهد دورا عبارة عن أطلال وأحجار لدور كانت فيها حياة، والثلاثية هي بمثابة استعادة لهذه الحياة ولأهلها.     

Related posts

Top