شهدت كليات الطب والصيدلة في المغرب عام 2023 حدثًا تاريخيًا غير مسبوق، حيث اندلعت واحدة من أبرز الحركات الاحتجاجية الطلابية التي عرفتها المملكة، بدأ هذا الإضراب الشامل في 16 ديسمبر 2023 واستمر حتى 7 نوفمبر 2024، ليصبح أطول حركة احتجاجية في تاريخ القطاع. وقام الطلبة بمقاطعة الدروس النظرية والتداريب الاستشفائية في جميع كليات الطب والصيدلة بالمغرب، في خطوة تصعيدية تعكس حجم استيائهم من القرارات الحكومية التي تم اتخاذها دون استشارة أو إشراك ممثليهم.
القرارات التي كانت موضع الجدل اتسمت بالطابع الأحادي، مما أثار مخاوف عميقة لدى الطلبة بشأن مستقبلهم الأكاديمي والمهني. وعبر الطلبة عن رفضهم القاطع لهذه السياسات عبر تنظيم احتجاجات سلمية ومقاطعة شاملة، مؤكدين أن هذه الإجراءات تهدد جودة التكوين الطبي بالمملكة وتفتح الباب أمام الغموض حول مستقبلهم، وقد خلف هذا الإضراب حالة من التوتر داخل القطاع الصحي، حيث ألقى بظلاله على التكوين الطبي في المغرب وأثار تساؤلات عديدة حول كيفية تعامل الحكومة مع المطالب المشروعة للطلاب. وفي الوقت الذي يطالب فيه الطلبة بحوار حقيقي يفضي إلى حلول مرضية، لا تزال الأزمة تراوح مكانها دون أفق واضح للحل.
كانت النقطة المحورية التي فجرت هذا الغضب الطلابي هي قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بتقليص مدة الدراسة الطبية من سبع سنوات إلى ست سنوات، دون توفير خطة واضحة لتعويض السنة المحذوفة، ودون مسوغات كافية تبرر هذا التغيير الذي يراه الطلبة متسرعًا وعشوائيا. وعلى الرغم من تصريح الوزير السابق عبد اللطيف ميراوي بأن هذا التغيير يهدف إلى زيادة أعداد الأطباء في المغرب لتحقيق التغطية الصحية الشاملة، إلا أن هذا التفسير لم يكن كافيًا لإقناع الطلبة الذين رأوا فيه إجحافًا وتهديدًا لجودة تكوينهم.
وقد أدى هذا القرار إلى إثارة العديد من التساؤلات بين الطلبة الذين طالبوا بتوضيح تفاصيل التنفيذ وملاءمته مع المعايير التعليمية والطبية، خاصة في ظل غياب القدرة الاستيعابية الكافية بالمستشفيات الجامعية وندرة البنيات التحتية اللازمة، خصوصًا في مدن مثل أكادير، العيون، كلميم، بني ملال، والراشيدية. كما عبر الطلبة عن استيائهم من الوضعية القانونية غير المهيكلة للمناوبات الليلية وتعويضاتها الزهيدة، والتي لم تتجاوز 630 درهمًا شهريًا لطلاب السنوات الثالثة إلى السادسة، و2000 درهم للطلبة في السنة السابعة.
ومن خلال هذا المسلسل النضالي، لطالما طرح الطلبة التساؤل التالي: كيف يعقل لوزير أن يتخذ قرارات مصيرية في مستقبلنا الأكاديمي دون إشراكنا؟ في ضرب صارخ للمبادئ الدستورية الديمقراطية وللأعراف العلمية لتنزيل السياسات العمومية.. وفي نفس الوقت الذي يتم فيه ترهيب الطلبة واعتبار أنه من سابع المستحيلات تحقيق مطالبهم، نجد أن إرادة الطلبة وعزيمتهم قادرة على تغيير هذا “المستحيل” إلى واقع حقيقي. لكن يبقى السؤال المستهلك ذا راهنية: كيف يمكن أن تعاد بناء الثقة بين الحكومة والمؤسسات، من جهة، وبين الشباب والطلبة، من جهة أخرى، في ظل هذه الانتكاسة التي عرت ضعف الحوار وتجاهل صوت الفئة التي تمثل المستقبل الصحي للبلاد؟
أدت هذه المطالب إلى تدخل العديد من وسطاء الصلح الذين بذلوا جهودًا حثيثة لإنهاء الأزمة. كان من أبرز هؤلاء الوسطاء مؤسسة الوسيط، إلى جانب تدخلات فعالة من الفرق والمجموعات النيابية البرلمانية التي عملت على تقريب وجهات النظر. كما لعب حزب التقدم والاشتراكية وقطاعه الطلابي دورًا محوريًا في دعم الطلبة، حيث نظم اجتماعات مستمرة بين ممثلي الحزب واللجنة الوطنية لطلبة الطب والصيدلة. وتوجت هذه الجهود بندوة وطنية مشتركة نظمها الحزب وقطاعه الطلابي، هدفت إلى لعب دور الوساطة وتقديم توضيحات للطلبة والرأي العام حول الأزمة، وتعزيز الحوار بين مختلف الأطراف.
ومع التعديل الحكومي في 23 أكتوبر 2024، بدأت تظهر بوادر انفراج الأزمة. حيث عقدت عدة اجتماعات بين اللجنة الوطنية لطلبة الطب والصيدلة وكل من وزارة التعليم العالي ووزارة الصحة، ومؤسسة الوسيط. وأسفرت هذه اللقاءات عن تقديم مقترح جديد يتسم بالجدية، يشمل إعفاء طلبة السنوات الأربع الأخيرة من تطبيق قرار تقليص مدة الدراسة إلى ست سنوات، مع اعتماد تطبيق تدريجي لهذا القرار بدءا من دفعة السنة الجامعية 2023-2024. ورغم أن هذا المقترح حمل بوادر أمل لحل الأزمة، إلا أنه لم يحظَ برضى كامل من جميع الطلبة، حيث اعتبرت بعض الفئات الطلابية أن المقترح يكرس التفرقة بين صفوفهم ويهضم حقوق مجموعات منهم، مما يجعل الأزمة لم تغلق بالكامل بعد، ويعكس استمرار الحاجة إلى حلول أكثر شمولية وعدالة.
تضمن المقترح الحكومي رفع تعويضات الطلبة المتدربين لتصبح 1200 درهم شهريًا لطلاب السنوات الثالثة حتى الخامسة، و2400 درهم شهريًا لطلاب السنة السادسة والسابعة. كما شمل إلغاء العقوبات التي كانت قد فُرضت على ممثلي الطلبة، ومنح مكاتب الطلبة المحليين مهلة تصل إلى ستة أشهر لتقنين أوضاعهم، بعدما قام الوزير السابق بحل هذه المكاتب بشكل مثير للجدل. إلى جانب ذلك، تضمن المقترح إعادة تنظيم الامتحانات والتداريب، وهو ما يطرح تحديات إضافية تتعلق بكيفية تدبير هذا الأمر وأخذ 11 شهرًا ضائعة في الحسبان. هذا الفراغ الزمني الذي عاناه الطلبة خلال الإضراب يعيد فتح النقاش حول كيفية ضمان جودة التكوين واستكمال المقررات الدراسية دون التأثير سلبًا على الجاهزية المهنية للطلبة أو على مواعيد التخرج والاستحقاقات القادمة.
ورغم أن هذه التغييرات قد تمنح الطلبة بصيصا من الأمل، يظل السؤال الأبرز مطروحًا: لماذا تأخرت الحكومة في اتخاذ هذه الخطوات؟ وهل كان من الضروري أن تهدر على المغرب هذا الزمن التنموي الذي كان بالإمكان استغلاله لتحسين جودة التكوين الطبي وتعزيز المنظومة الصحية؟ يبدو أن غياب الحوار الفعال والاستجابة السريعة لمطالب الطلبة منذ البداية يعكس ضعفا في آليات التفاعل الحكومي مع الأزمات، مما يظهر الحاجة إلى مراجعة شاملة للنهج المتبع في إدارة الملفات الحساسة المتعلقة بالشباب والمستقبل الأكاديمي.
بقلم: أسامة عروب
طالب السنة السابعة بكلية الطب والصيدلة الدار البيضاء