سياسيون وأكاديميون يقاربون سؤال السياسة في علاقتها بالمسألة الديمقراطية وضرورة التنمية بالمغرب
قارب عدد من المتدخلين في الجامعة السنوية لحزب التقدم والاشتراكية التي التأمت بالرباط، السبت الماضي، والتي سير أشغالها باقتدار، الصحفي والإعلامي الزميل يونس مسكين، أزمة العمل السياسي بالمغرب وكذا مواصلة بناء المسار الديمقراطي والتنموي بالبلاد.
وأجمع المتدخلون، من قياديين حزبيين وفاعلين سياسيين وحقوقيين وأساتذة جامعيين، على وجود أزمة حقيقة على مستوى العمل السياسي، بالإضافة إلى وجود هوة في الثقة بين المواطنات والمواطنين والمؤسسات والأحزاب السياسية وبالممارسة السياسية عموما.
وشدد المتدخلون على أن هذه الأزمة ليست نتاج وضع وطني فحسب، بل تندرج ضمن أزمة تشهدها السياسة على المستوى العالمي، وفي مختلف التجارب الديمقراطية، إلا أنها بدرجات، مردفين أنها وصلت مستوى خطيرا في المغرب، وأصبحت تهدد البناء الديمقراطي، خصوصا مع الانكماش الذي يتهدد الحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير.
ودق المتدخلون ناقوس الخطر إزاء عدد من الممارسات التي طغت والتي تسعى إلى النكوص على عدد من المكتسبات المحققة في المسار الديمقراطي الذي راكمه المغرب، خصوصا مصادرة الرأي والاعتقال على هذا الأساس، وغيره من مظاهر ضرب الديمقراطية.
وسجل المتدخلون أن مثل هذه الممارسات تزيد من تعميق الهوة والثقة بين المواطنات والمواطنين والمؤسسات المنتخبة والأحزاب السياسية ومختلف المؤسسات الوطنية والهياكل التي ينص عليها البناء الديمقراطي، محذرين من كون اتساع هذه الهوة قد ينقلب بتعبيرات غير مؤطرة سياسيا من قبل الأحزاب أو الهيئات السياسية والمدنية الوطنية، من خلال تعبيرات عفوية واحتجاجات يفرزها الشارع.
عبد الحميد جماهري: السياسة هي حجر الزاوية في البناء الديمقراطي وآن الأوان للعودة إليها
في هذا السياق، قال عبد الحميد جماهري، القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي، إن ممارسة السياسة في المغرب كانت ولا تزال من إنجازات اليسار المغربي والحركة الوطنية، منذ معركة الدفاع عن استقلال المغرب أيام الاحتلال الفرنسي إلى مرحلة بناء الدولة عقب الاستقلال.
وزاد جماهري أن القوى الديمقراطية واصلت تحمل هذه المسؤولية حتى اليوم، بحيث أنها تواصل الدفاع عن الديمقراطية ومواجهة مختلف أشكال النكوص والتراجع، بما فيها تلك التي تطبع هذه المرحلة.
وقال جماهري إن الوقوف عند أزمة السياسة في الوقت الراهن يحيل على محطات مشابهة في السبعينات والتسعينات، متسائلا عن الأسباب التي تدفع للعودة لنفس السؤال بين مرحلة وأخرى، حيث لفت إلى وجود مد وجزر في مراكمة المكتسبات، بين مراحل تتقوى فيها الأحزاب السياسية والعملية الديمقراطية بالمغرب وبين فترات تعيش فيها هذه الديمقراطية على وقع التراجعات، أو على الأقل وضعية الجمود.
وبعدما طرح تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء الجمود في الوضع الحالي، سجل القيادي في الاتحاد الاشتراكي أن هذا الجمود لا يخدم إلا الأطراف التي لا تؤمن بالديمقراطية. وأوضح أن القول بـ “السياسة أولاً…”، كما يشير عنوان هذه الجامعة، يعني ضمنيا أن السياسة تغيب عمدا عن المشهد، مما يفسح المجال للفراغ الذي يسود حاليا، بينما ينبغي أن تكون السياسة في صميم كل عمل يسعى إلى التقدم في تحقيق المشروع التنموي الديمقراطي.
وشدد جماهري على أهمية إعادة الاعتبار للسياسة، مع التنبيه إلى أنها لا تشكل دائما أداة لإنجاح النموذج التنموي، إذ من الممكن أن تكون السياسة أداة للنجاح، وأيضا عقبة أمام عملية التنمية، مشيرا إلى ضرورة أن تتم هذه العودة بشكل منظم وليس بشكل عشوائي.
وسجل المتحدث أن مسألة العودة إلى السياسة وإلى مكانتها في المجتمع والدولة ضرورية على أن تتم بشكل منظم، مشيرا إلى أنه، على الرغم من كل المحاولات للتراجع على هذا المستوى، إلا أن “الشعور الوطني لا يزال قويا على مستوى التفكير ومقاربة هذا الأمر متى كانت الحاجة لذلك”.
وأكد جماهري أن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية استمر ولم يتوقف حتى خلال فترة الحماية وما بعدها، مبرزا أن هذه السيرورة تتواصل، في مسار البناء الديمقراطي، بالاعتماد على التوافقات وعلى القوى الوطنية، مذكرا بمحطة 2011، التي استطاع المغرب المضي، عبرها، قدما في مساره بالاعتماد على التوافقات المحققة.
إلى ذلك، توقف جماهري عند عدد من الممارسات غير الدستورية التي تضر بالمسار الديمقراطي، والتي لها أوجه عديدة، مؤكدا على أن الاكتفاء برفع الشعارات لا يساهم في حل الموضوع، كما هو الحال بالنسبة لتطبيق مفهوم الدولة الاجتماعية، الذي قال إنه للأسف، أُسند إلى من لا يؤمنون بجدوى هذا المشروع، داعيا الأحزاب اليسارية إلى مراجعة مواقفها والتخلي عن منطقة الراحة الأيديولوجية.
محمد حفيظ: المغرب تقدم في مناحي كثيرة وتأخر في السياسة
من جهته، قال محمد حفيظ القيادي بفيدرالية اليسار الديمقراطي، إن السياسة والديمقراطية مترابطتان بشكل وثيق، ولا يمكن الحديث عن السياسة في غياب الديمقراطية.
وتابع حفيظ أن المغرب، وبالرغم من امتلاكه لدستور متقدم منذ عام 2011، إلا أن تنزيل مقتضياته لم تتم بالشكل الذي يرسخ الديمقراطية والممارسة السياسية بالبلاد ويدفع في تجاه تثمين العمل السياسي.
وأوضح حفيظ أن الحديث عن الديمقراطية بالمغرب ارتبط دائما بالحديث عن “البناء” أو “المشروع”، أي أنه لم يصل بعد إلى مستوى الممارسة الواقعية كقاعدة، وأن هذه الديمقراطية لا تزال تعتبر مشروعا قيد الإنجاز.
وزاد القيادي في فيدرالية اليسار أن الديمقراطية تعني بالنسبة له أن الشعب هو من يحكم نفسه عبر ممثليه المنتخبين. مردفا أن المغرب وبالرغم من كونه يمتلك بنية تحتية متطورة، مثل قطار السرعة الفائقة (TGV) وغيرها من المشاريع الكبرى، إلا أن الديمقراطية فيه ما تزال تعد مشروعا، مشيرا إلى أن هذا الأمر يجعل الانتقال الديمقراطي يتعثر، على الرغم من الطابع المتقدم لدستور 2011.
وربط حفيظ بين هذا الجمود في المشروع الديمقراطي، وما يقع من تراجعات على مستوى الممارسة، حيث يتم تثمين العمل الذي تقوم به سلطات في منطقة معينة على سبيل المثال، على حساب تغييب أدوار المؤسسات المنتخبة في نفس المنطقة، كما هو الحال في مناطق عديدة، حيث يفتخر فيها بإنجازات الوالي بدون الإشارة إلى دور مجلس المدينة أو أي هيئة منتخبة.
وسجل حفيظ أن المغرب لم يدخل بعد إلى زمن الديمقراطية، وأن الأمر يتعلق بمشروع ومسار بناء لم يصل بعد إلى مستوى الحديث عن ديمقراطية حقيقية، مشيرا إلى أن الأرضية التي عرضها حزب التقدم والاشتراكية من خلال الجامعة السنوية تتضمن مطالب هي نفسها المطالب التي عبرت عنها الكتلة الوطنية في التسعينات، مضيفا في هذا السياق، أن هذا يعني غياب التقدم على هذا المستوى وأن نفس المطالب ما تزال قائمة.
إلى ذلك، خلص القيادي السياسي والأستاذ الجامعي إلى أن المشكل ما يزال مطروحا على مستوى فهم وممارسة الديمقراطية، مردفا أن المغرب حقق مكتسبات كثيرة في مجالات مختلفة لكنه بالمقابل تراجع في السياسية.
سارة سوجار: غياب حرية التعبير يعيق تطور المسار الديمقراطي
من جانبها، قالت الناشطة والفاعلة الحقوقية سارة سوجار إن هناك مشكلا في فهم الديمقراطية بالمغرب، مشيرة إلى أن الحديث عن عزوف المواطنات والمواطنين عن العمل السياسي غير صحيح، بل يمكن الحديث عن رفض هؤلاء المواطنات والمواطنين للعرض السياسي المقدم.
وأفادت سارة سوجار بأن المواطنين، وخاصة الشباب، يعزفون بشكل متزايد عن السياسة، لرفضهم الأسلوب الحالي في ممارستها، موضحة أن هذه الفئة ترفض السلوكيات السياسية الحالية، داعية إلى احترام قيم الحرية، والصدق، والمسؤولية، التي تتعرض لتجاهل متزايد، خاصة منذ عام 2011.
وترى سوجار أن النقاش حول القيم ضروري لاستعادة قيمة السياسة والديمقراطية، مؤكدة أنه لا يمكن أن توجد ديمقراطية حقيقية بدون قيم وفي مقدمتها القيمة الأسمى للممارسة الديمقراطية وهي الحرية.
وسجلت المتحدثة وجود تراجعات خطيرة في الحرية والحق في ممارسة الديمقراطية والتعبير، وذلك من قبيل اعتقال العشرات بالمغرب على خلفية تدوينة فقط على مواقع التواصل الاجتماعي حول رجل سلطة.
وشددت سوجار على أن الوضع الراهن يتسم بانعدام حرية التعبير؛ حيث قد يُلاحق الشخص لمجرد تغريدة على وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرة إلى أن هذا الأمر خطير ويزيد من تعميق الهوة والفجوة في الثقة بين المواطنات والمواطنين والعمل السياسي في شكله الحالي.
وأردفت الناشطة الحقوقية أن المواطنين يمارسون السياسة من خلال أشكالهم التعبيرية المختلفة بما فيها العزوف أو رفض الشكل الحالي، منبهة إلى مخاطر عدم رد الاعتبار للسياسة والتي قد تدفع في تجاه أشكال غير مؤطرة واحتجاجات.
وذكرت سوجار باحتجاجات جرادة وحراك الريف، التي قالت إنه لم يتم التفاعل معها بالشكل الذي يلزم، مقابل العمل على مصادرة حقوقهم في التعبير واعتقالهم، معتبرة ذلك لا يستقيم في المسار الديمقراطي وأن هناك ضرورة لإطلاق سراح المعتقلين على خلفية حراك الريف وجميع الاحتجاجات والتعبيرات التي يتم من خلال الدفاع عن المطالب الاجتماعية.
وخلصت سوجار على أنه لا يوجد أي مبرر لسلب أي شخص حريته بسبب التعبير عن رأيه، مشيرة إلى أن غياب حرية التعبير يعيق تطور المسار الديمقراطي. وأعربت عن أسفها للتعامل المتعالي للمسؤولين مع التظاهرات، سواء بتجاهلها أو بمحاولات قمعها.
كما أوضحت سوجار أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق بدون أحزاب سياسية ديمقراطية ومستقلة قادرة على التعبير عن مواقفها بطرق حضارية. وشددت على ضرورة أن تقدم الأحزاب السياسية برامج ديمقراطية مقنعة للمواطنين، مذكّرة بأن التراجع الديمقراطي ليس ظاهرة محلية فحسب، بل هو ظاهرة عالمية.
عبد الحفيظ أدمينو: الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية تتكاملان وهناك حاجة لتخليق العمل السياسي
من جهته، قال عبد الحفيظ أدمينو الأستاذ الجامعي في القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية تعززان بعضهما، وأن فهم الديمقراطية وعلاقتها بالتنمية يختلف.
وأوضح أدمينو أن الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية تتكاملان بشكل يعزز كل منهما الآخر، مشيرا إلى أن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية تختلف في الفهم، بين من يرى أن الديمقراطية تعد شرطا أساسيا للتنمية، وبين من يعتقد بخلاف ذلك، أي أن الديمقراطية ليست شرطا أساسيا للتنمية.
وقدم أدمينو تجربة الصين كنموذج في فهم تصور من يعتقد أن الديمقراطية ليست شرطا للتنمية، كدليل على إمكانية تحقيق التنمية في غياب الديمقراطية، موضحا أن المغرب اختار في النهاية نموذج الديمقراطية كشرط للتنمية، وقد تبنى هذا الخيار.
وأضاف الأستاذ الجامعي أن هذا النموذج الذي اختاره المغرب، والمستند إلى مبادئ الليبرالية، لم يحقق النتائج المرجوة، وذلك لأسباب تتعلق بالبيئة المؤسسية التي أنشئت بموجب دستور 2011.
وأشار أدمينو إلى أن الأحزاب السياسية، على وجه الخصوص، تفتقر إلى الثبات في معتقداتها، مما يجعلها عرضة للتحول إلى مجرد كيانات تسعى للفوز بمقاعد دون تحقيق أهدافها السياسية الأعمق.
وأكد أدمينو أن السباق للفوز في الانتخابات يمكن أن يحول أهداف الأحزاب السياسية إلى هدف أساسي هو الانتصار الانتخابي، داعيا إلى ضرورة تخليق العمل داخل الأحزاب السياسية، لضمان احترام القوانين والالتزام بالمبادئ القانونية، ولتمكين هذه الأحزاب من أداء دورها الأساسي في تعزيز المشهد السياسي وتحقيق التغيير المنشود.
سعيد فكاك: ضرورة توحيد جهود اليسار لمواجهة التحديات الراهنة
بدوره، قال سعيد فكاك، عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، إن المسار الديمقراطي في المغرب يعرف تقلبات كثيرة منذ السبعينات وصولا إلى المرحلة الجديدة التي شهدت مسارا ثابتا.
وزاد فكاك أن الأحزاب المغربية تتأثر بهذه التحولات وتؤثر فيها، مبرزا أن فترات التوافق دائما ما كانت تعرف مكتسبات اجتماعية وتقدم للبلاد، وكذا دينامية مجتمعية ووطنية ونقاشا واسعا، عكس فترات الانحسار والانكماش التي يسود فيها الفراغ.
وسجل فكاك أن الأخطر بالنسبة لهذا الأمر هو طريقة التفاعل لبعض المكونات التي لا تمارس السياسة، والتي تدبر الشأن العام كما هو الحال بالنسبة للحكومة الحالية التي قال غنها إنها تفتقر للخطاب السياسي وإلى التقدير السياسي لعدد من الملفات.
وأوضح فكاك أن غياب هذا التقدير السياسي تنتج عنه أشكال مختلفة من التعبيرات غير المؤطرة والاحتجاجات، كما هو الحال في الفترة الحالية التي تواجه فيه الحكومة الحالية سلسلة من الانتقادات والاحتجاجات.
وسجل عضو المكتب السياسي لحزب “الكتاب” أن هناك مشكلا يتعلق بالممارسة السياسية والتي تتمثل في مظاهر الفساد واستعمال المال المفرط في الانتخابات، مشيرا إلى أن الأحزاب الوطنية لا تستطيع مواجهة هذا المد، بالنظر لكون استعماله يؤثر على العملية برمتها وينتج نموذجا من ممثلي الأمة أو المنتخبين الذين تؤدي ممارساتهم إلى إعطاء صورة سلبية عن العمل السياسي وتوسع الهوة بين المواطنات والمواطنين وبين العمل السياسي والممارسة الديمقراطية برمتها، وتسهم بالتالي في فقدان الثقة في السياسة ومن يمارسها من أفراد ومؤسسات..
وأشار فكاك إلى أن المسار الديمقراطي الحالي يتسم بصراعات طبقية وأزمات تضخمية، وعجز الحكومة عن التعامل معها، إلى جانب التحديات المرتبطة ببناء الدولة الاجتماعية. مشيرا إلى أن هذه المرحلة تأتي مثل مراحل عديدة ترتبط بمرحلة الانتقال الديمقراطي ومواصلة مسار ترسيخ هذه الديمقراطية.
وشدد فكاك على أن مواصلة هذا الترسيخ الديمقراطي ينطلق بتقوية الأحزاب الوطنية، وبضرورة أن تلعب الأحزاب دورها كاملا، وأن يتم إعادة النظر في عدد من المقتضيات والقوانين التي تؤطر العملية الانتخابية.
وفيما يتعلق بالاستحقاقات المقبلة، أكد فكاك على أهمية توحيد صفوف اليسار حول برنامج مشترك لمواجهة التحديات التي يفرضها الواقع الراهن. ويرى أن الحكومة الحالية تعاني من ضعف بسبب غياب سياسات واضحة وشفافة، ويعزو هذا الأمر إلى أن بعض أعضائها لا ينتمون إلى مدارس سياسية معروفة.
وخلص فكاك إلى أن حضور السياسي ضروري وحاسم في تحقيق التنمية والوصول إلى الدولة الاجتماعية وإلى تحقيق النموذج التنموي الديمقراطي، داعيا مختلف مكونات القوى الديمقراطية واليسارية إلى البحث عن بدائل في الممارسة السياسية، أساسا ما يتعلق بالانتخابات ومواجهة الفساد وتفشي المال عن طريق تكتل يدفع في تجاه ترجيح كفة الأحزاب الوطنية والديمقراطية.