نظم المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، نهاية الأسبوع الذي ودعناه، بمقره المركزي بالرباط، دورة جديدة لجامعته السنوية التي اختار لها موضوع: “السياسة أولاً.. لإنجاح المشروع الديمقراطي التنموي”، وذلك بمشاركة ثلة من القيادات السياسية الوطنية والأطر الجامعية والحقوقية.. وبهذه المناسبة، أعدت قيادة الحزب ورقة تأطيرية بمثابة أرضية فكرية للجامعة، ارتأت جريدة بيان اليوم نشرها لتعميم الفائدة، وفيما يلي نص الأرضية:
راكمت بلادنا، خلال مسارها من أجل بناء الدولة الوطنية الحديثة بديمقراطية فعلية ومؤسساتٍ قوية وعدالة اجتماعية وترابية حقيقية، مكتسباتٍ كبرى تجعلها، اليوم، مؤهَّلة للقيام بانعطافٍ إصلاحي نوعي في مسيرها من أجل تحقيق تنمية شاملة، تَضمن تقدُّمًا يَستفيد منه كافة المغاربة وجميعُ المجالات الترابية على قَدَم المساواة، وتكفُلُ الارتقاء بمكانة المغرب في عالَمٍ تتسارعُ فيه المتغيرات وتتعاظم التحديات، ويتصاعد فيه التنافسُ على مختلف الأصعدة.
فعلاً، لقد تميز المسارُ الوطني بنجاحات بيِّــــنة، في محطاتٍ مضيئة، من أبرزها تحقيقُ مصالحاتٍ تاريخية مع مختلف المكونات الغنية للهوية الوطنية؛ وإنجاز مسلسل عدالةٍ انتقالية لطيِّ صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ وإطلاق سياسات عمومية هامة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ والتعامل الاستباقي مع لحظة الربيع الديمقراطي من خلال اعتماد دستور متقدم، بنَفَسٍ ديمقراطي وحقوقي بارز، وبهندسةٍ مؤسساتية متطورة، في كنف مَلَكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية.
وقد تسنى تحقيقُ كل هذه المكتسبات، وغيرها، بفضل توافُق تاريخيٍّ، خلاَّق ومتين ومُنتِج، بين المؤسسة الملكية والقوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية، وما أحدثه ذلك من تعبئة قوية في صفوف كل مكونات شعبنا وقواه الحية، في مرحلة تاريخية ارتفعت فيها وتيرةُ الإصلاحات، وتوهجت فيها “السياسة”، وحَضَرَ فيها النَّفَسُ الديمقراطي بقوة، واتسعت فيها هوامشُ الحرية التي تذكي حماسَ المجتمع وتُحرِّرُ طاقاته، خدمة لتقدم وطننا ورفاه شعبنا. ولا ريب في أن هذا الفضاء السياسي الإيجابي ساعد كثيرًا على إطلاق إصلاحات اقتصادية واجتماعية هامة كان لها وقع مؤكد على أوضاع بلادنا وعلى ظروف عيش مختلف فئات مجتمعنا وعلى درجة تملُّــــكِ مواطنينا للمشروع التنموي الوطني والانخراط فيه.
وفي سياق معاكِس لهذا المناخ الواعد، فإن الأوضاع العامة التي تحیاها بلادُنا، اليوم، تؤشر على واقع الانحباس، بما يهدد المكتسباتِ بالاستنزاف، من خلال تواتُر التعثرات وتفاقُمِ الصعوبات، على أكثر من صعيد.
ففئاتٌ عريضةٌ من جماهير شعبنا تکابد من أجل توفير أساسيات العيش الكريم؛ والصعوباتُ الاقتصادية تُرخي بظلالها تحت عنوان اللايقين؛ والتوترات المهدِّدة للسلم والاستقرار الاجتماعيين أضحت العنوان الأبرز للمرحلة، في وقتٍ يعرفُ فيه الفضاءُ السياسي ضُعفاً وإضعافاً واضحيْن، ويُعاني أكثر فأكثر من الفساد والإفساد، وتعرف الحياةُ الديمقراطية وممارسةُ الحريات واقعًا مُقلقًا،مِمَّا يُعمِّقُ من وضعية الفراغ والانحسار التي يَشهدها المسلسلُ الديمقراطي، ويزيد من فقدان الثقة في الفعل السياسي وفي الفاعل السياسي، ومن تراجُع مصداقية العمل المؤسساتي، في مقابل تنامي أشكال تعبيرية مختلفة وإفرازات عفوية بعيدة عن أدوات التأطير المجتمعي.
وفي مُواجهة هذا الوضع المُحيِّر، يَتواصل التعبير الغريبُ عن الانتشاء والزَّهْوِ بما يتوهمه البعضُ انتصاراتٍ انتخابية، لكنها في واقع الأمر نتائجُ تُخفي حقيقةً مخيفَةً تتعلق بِنِسَب مشاركة متدنية بصورةٍ كارثية. كما يَستمر اعتمادُ مقاربة تقنوقراطية تُغَيِّب السياسة، وتَتجاهُلُ نبضَ المجتمع وأصوات قواه الحية الفاعلة، وتتغاضى عن تفاعلات واقتراحات الفاعلين المجتمعيين، بمن فيهم الفاعلون السياسيون، بل تلجأ حتى إلى تحقير ملاحظاتٍ صادرةٍ عن مؤسساتٍ وطنية رسمية تقوم بأدوارها.
ويظل هذا التوجُّهُ غير مكترثٍ بما تعيشه أوساطٌ مجتمعية عديدة من غليان وسخط، ومن قلقٍ وحيرة وغضب، مُغذيًّا بذلك الشعورَ العام باليأس وانسداد الآفاق. وما يزيدُ الوضعَ خطورةً هو وُجودُ عددٍ من المظاهر والتجليات التي تنطوي على تضارُب المصالح، والسُقوط في ممارساتٍ فاسدة ترتبط بالشأن العمومي، والارتباط بقضايا فسادٍ خاصة وشخصية يتداولها الرأيُ العام على نطاقٍ واسع. إنها تمظهراتٌ تُسهمُ في الإجهاز على ما تبقى من نُبل السياسة، وفي تكريس تبخيسها والنفور منها، وفي تعميق التوجُّه القائم على مقاطعة كل أشكال الالتزام السياسي والمشاركة المواطِنة.
إن عدم الاكتراث بما يعتمل داخل المجتمع من تفاعلات، والاقتصار على الوصفات التقنوبيروقراطية، لا يعني عدم ممارسة السياسة، بل يعني، بالأحرى، مقاربة الإشكالات والقضايا المطروحة بخلفية سياسية إيديولوجية تقوم على إمكانية، بل تفضيل، فصل السياسة عن التدبير الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما يؤشر على الفشل الذريع لهذا التوجُّه، بل ويهدد بِوَضْعِ مسارنا الوطني، التنموي والديمقراطي، في مَهَبِّ الريح.
ولتلك الأسباب، فإن الحاجة ماسَّة، اليوم، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، إلى تغيير التوجُّهات والمقاربات والممارسات، وإلى إجراء الإصلاحات التي تحتاجها بلادُنا بشكلٍ حيوي، مُلِحٍّ ومستعجَل.
إن المنطلق الأساس في ورش بناء الدولة الوطنية الحديثة يظل هو توطيدُ وتعميقُ الديمقراطية، في ارتباط وثيق بالاختيارات والممارسات السياسية التي تنبثق عنها الاختياراتُ الاقتصادية والاجتماعية.
- فكيف يُنظر إلى السياسة اليوم؟ وكيف تُمارَسُ من قِبَل مختلف المتدخلين في تدبير الشأن العمومي وطنيا ومحليا؟
- وهل الخلل يوجد في الإطار القانوني والمؤسساتي، أم في ممارسة هؤلاء الفاعلين؟
- وما هي المعيقات الحقيقية التي تعرقل استكمال البناء الدستوري والمؤسساتي وتعميق الممارسة الديمقراطية؟
- وفي ظل أيِّ شروط ومقومات يتم إفراز المؤسسات المنتخبة والنخب المشكِّلة لها وطنيا ومحليا؟
- وما هي مسؤوليات مختلف الأطراف المعنية في هذه الوضعية، سواء في جانب الدولة، أو في جانب القوى المجتمعية الحية وفي مقدمتها الأحزاب السياسية الجادة، في ظل تراجع تأثيرها وتشرذمها وتقوقعها على نفسها، في وقت تتطلب فيه موازين القوى ضرورة توحيد جهودها ونضالها وتقوية اصطفافها في صف انتظارات المجتمع؟
- وكيف نجعل من استعادة نبل السياسة ومصداقيتها مدخلاً لتجاوز أعطاب ممارسةٍ ديمقراطية هجينة، ولتمتين مقومات ديمقراطية تمثيلية فعلية تفتح آفاق تفعيل الديمقراطية التشاركية التي أقرها الدستور؟
على أساس هذه المساءلات وغيرها، وسعيا وراء تشريح واقع الممارسة السياسية، في تجلياته ومفارقاته، باستحضار أدوار ومسؤوليات مختلف الفاعلين، ومحاولةً للإحاطة بالأسباب الرئيسية المؤدية إلى الوضع الراهن، وإسهاماً في بلورة الرؤى الكفيلة بتجاوزه، ينظم حزب التقدم والاشتراكية جامعته السنوية حول موضوع: “السياسة أولاً.. لإنجاح المشروع الديمقراطي التنموي”، وذلك بمساهمة ثلة من الفاعلين والمهتمين بالشأن السياسي الوطني.