تخليد معركة لهري المجيدة في ذكراها العاشرة بعد المائة

تجسيد لأروع صور التضحية دفاعا عن المقدسات وذودا عن حمى الوطن وحياضه وحوزته

يشكل تخليد ذكرى معركة الهري التاريخية مناسبة لاستحضار الملاحم البطولية وتضحيات شهداء النضال الوطني من أجل الوحدة الوطنية وكرامة الوطن. هذه الذكرى المجيدة  تجسد خير مثال على الوطنية والاستماتة وروح التضحية والقيم الإنسانية والمواطنة التي أبان عنها رجال ونساء الأطلس المتوسط، وعلى رأسهم البطل موحى أحمو الزياني الذي يعد واحدا من أكبر المقاومين بالمنطقة الذين سجلوا اسمهم في التاريخ بحروف من ذهب لما أسداه من أعمال بطولية وروح قتالية عالية في معاركه ضد قوات الاحتلال الذين أرادوا بسط سيطرتهم على السيادة المغربية. موحى أحمو الزياني ورجاله المجاهدين من ساكنة خنيفرة وأغلمان أزكزا وتاملاكت تمكنوا من هزم قوات الاحتلال التي، بالرغم من أنها أعدت كل الوسائل الحربية وحشدت عدد كبير من الجنود لتحقيق النصر في هذه المعركة إلا أنها عانت من مقاومة موحى أحمو الزياني ورجاله الذين ألحقوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والعتاد في هذه المعركة التاريخية التي ستبقى محطة بارزة في سجل المقاومة الوطنية، وصفحة وضاءة من ملامح الكفاح الوطني ضد الاحتلال الأجنبي.

بكل مظاهر الاعتزاز والإكبار، وفي غمرة أجواء الحماس الوطني الفياض والتعبئة المستمرة واليقظة الموصولة، تخلد أسرة المقاومة وجيش التحرير وساكنة إقليم خنيفـرة، يوم الأربعاء 13 نونبر 2024، الذكرى العاشرة بعد المائــة لمعركة لهري المجيدة، التي جسدت أروع صور الكفاح الوطني الذي خاضه المغاربة في مواجهة حملات تسرب الجيوش الأجنبية الغازية لبسط سيطرتها على منطقة الأطلس المتوسط سنة 1914، هذه المعركـة التي انتصبت معلمة وضاءة في تاريخ الكفاح الوطني وبرهنت بجلاء عن مدى صمود الشعب المغربي في مواجهة الوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري على إثر فرض عقد الحماية في 30 مارس 1912.

فبعدما تم احتلال ما كان يسمى حسب “ليوطي” ب “المغرب النافع”، السهول والهضاب والمدن الرئيسية؛ وبعدما تمكن الجيش الفرنسي من ربط المغرب الشرقي بالجناح الغربي من الوطن عبر تازة في ماي 1914، توجهت أنظار الإدارة الاستعمارية نحو منطقة الأطلس المتوسط، وبالضبط صوب مدينة خنيفرة لتطويقها وكسر شوكة مقاومتها، في أفق فتح الطريق بين الشمال والجنوب عبر هذه القلعة الصامدة، التي شكلت إحدى المناطق التي اتخذها المقاومون ساحة للنزال والمواجهة مع المستعمر الأجنبي.

 وقد تأكدت هذه الخطورة من خلال التصريح الذي أدلى به المقيم العام “ليوطي” حيث قال يوم 2 ماي 1914: “إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط، وإن هذه المجموعة الهامة في منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة، يشكل خطرا فعليا على وجودنا. فالعصاة المتمردون والقراصنة مطمئنون لوجود ملجإ وعتاد وموارد وقربها من الجيش ومناطق الاحتلال جعل منها تهديدا دائما لمواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا، هو إبعاد كل الزيانيين بالضفة اليمنى لأم الريع”.    

في حمأة هذه الظروف العصيبة، انطلقت أولى العمليات العسكرية، وأنيطت مهمة القيادة بالجنرال “هنريس” الذي اعتمد في سياسته على أسلوب الإغراء، حيث حاول التقرب من القائد المجاهد موحى وحمو الزياني، الذي كان يرد بالرفض والتعنت والتصعيد في مقاومته. حينئذ، تبين للفرنسيين أن مسألة زيان لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق استخدام القوة. وبالفعل، فقد بدأت سلسلة من الهجومات على المنطقة، وفوض “ليوطي” للجنرال “هنريس” كامل الصلاحية واختيار الوقت المناسب لتنفيذ هجوماته وعملياته العسكرية.

وتمكنت القوات الاستعمارية من احتلال مدينة خنيفرة، بعد مواجهات عنيفة. إلا أن التفوق العسكري الذي أظهرته لم يمكنها من احتواء موحى وحمو الزياني الذي عمد إلى تغيير استراتيجية مقاومته، وإخلاء المدينة المحتلة تفاديا للاستسلام والرضوخ للإرادة الاستعمارية، وسعيا للاعتصام بالجبال المحيطة بخنيفرة، وبالضبط بقرية لهري قرب نهر اشبوكة، وفي انتظار أن تتغير الظروف، خاصة وأن أجواء الحرب العالمية الأولى غدت تخيم على أوروبا.

في خضم هذه الملابسات، تلقى المقيم العام “ليوطي” برقية من الحكومة الفرنسية جاء فيها: “ينبغي في حالة الحرب أن تبذلوا جهودكم للاحتفاظ في المغرب بعدد من القوات لا يمكن الاستغناء عنها، إن مصير المغرب يتقرر في “اللورين”. وينبغي أن يقتصر احتلال المغرب على موانئ الشواطئ الرئيسية إذا كان ممكنا على خط المواصلات خنيفرة، مكناس، فاس، وجدة” .

وما أن ذاع خبر وصول موحى وحمو الزياني إلى قرية لهري حتى سارعت القيادة الاستعمارية إلى تدبير خطة الهجوم المباغت على المجاهدين، غير آبهة بالأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء. وفي هذا الوقت، قرر الكولونيل” لافيردير ” القيام بهجوم على معسكر المجاهدين، وكان ذلك ليلة 13 نونبر 1914.

لقد تم الإعداد لهذا الهجوم بكل الوسائل الحربية المتطورة، وبحشد عدد كبير من الجنود. وفي هذا السياق، يشير الأستاذ محمد المعزوزي إلى قيام المحتل الأجنبي بتنفيذ خطته يوم 12 نونبر 1914 حيث تحرك بأربع فرق تضم 1300 جنديا، معززة بالمدفعية، وتوجه إلى معسكر لهري حيث قام بهجوم مباغث على الدواوير ومناطق المجاهدين. 

لقد كان الهجوم على معسكر القائد موحى وحمو الزياني عنيفا، حيث بدأ في الساعة الثالثة صباحا، وتم تطويق المعسكر من أربع جهات في آن واحد، ليبدأ القصف العنيف، حيث قذفت الخيام المنتصبة التي تضم الأبرياء، وقام الجنود بأمر من “لافيردير” بمهاجمة القبائل المحيطة بالقرية، فيما اغتنم البعض الآخر الفرصة للاستيلاء على قطعان من الأغنام والأبقار ولاختطاف النساء متوهما بذلك الانتصار على المجاهدين الأشاوس.

وانتشرت الآلية العسكرية للقوات الاستعمارية، وقامت باكتساح الجبل لتمشيطه من المقاومة، وبذلك تحولت منطقة لهري الى جحيم من النيران، وسمعت أصوات الانفجارات في كل المناطق المجاورة، وظن قائد الحملة العسكرية المنظمة على لهري أن النصر صار حليفه، وأنه وضع حدا لمقاومة موحى وحمو الزياني والمجاهدين من قبائل زيان والقبائل المجاورة. 

غير أنه أصيب بخيبة أمل حينما فوجئ برد فعل عنيف من قبل المجاهدين، ليدرك أنه ألقى بنفسه وبقوته في مجزرة رهيبة وحلقة مغلقة لا سبيل للخروج منها.  

وبالفعل، فقد كان رد المقاومة عنيفا وأشد بأسا حيث زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية والمجـاورة لها وهـي قبائــل اشقيـرن، آيت اسحـاق، تسكـارت، أيت احند، ايت يحيى، آيت نوح، آيت بومـزوغ، آيت خويا، آيت شارط وآيت بويشي، وتم استخدام كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وفؤوس، وقد تحمست كل هذه القبائل لمواجهة المحتل للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، وأبانت عن روح قتالية عالية. ومما زاد من دهشة القيادة الاستعمارية، الحضور التلقائي والمكثف والسريع للقبائل رغم المسافات التي تفصل بينها. 

لقد كانت أرض لهري من أكبر المقابر العارية لقوات الاحتلال، حيث قدرت خسائر القوات الاستعمارية ب: 33 قتيلا من الضباط، و580 قتيلا من الجنود، و176 جريحا، وغنم المقاومون 3 مدافع كبيرة، و10 مدافع رشاشة، وعددا كبيرا من البنادق، كما قام موحى وحمو الزياني في16 نونبر 1914، أي بعد مرور ثلاثة أيام على معركة الهري بتصديه بفرقة مكونة من 3000 مجاهد لزحف العقيد “دوكليسيس” الذي كان قادما من تادلة لنجدة وإغاثة ما تبقى من الجنود المقيمين بخنيفرة، فكبده المجاهدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.  

هكذا، جسدت هزيمة لهري نقطة سوداء في وجود الاستعمار الفرنسي شمال افريقيا، في حين خلفت بصمات مشرقة في تاريخ المغرب المعاصر. وفي هذا الصدد، أورد الجنرال “كيوم”، أحد الضباط الفرنسيين الذين شاركوا في الحملة على الأطلس المتوسط في مؤلفه “البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط 1912 – 1933″، أن القوات الفرنسية “لم تمن قط في شمال إفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة”.

وإن أسرة المقاومة وجيش التحرير وهي تستحضر بفخر واعتزاز  فصول هذه الملحمة التاريخية الغنية بالدروس والعبر والطافحة بالدلالات والمعاني والقيم، لتجدد وتؤكد التعبئة المستمرة والتجند الموصول لسائر فئات وشرائح المجتمع والقوى الحية والشعب المغربي قاطبة وراء جلالة الملك محمد السادس من أجل الترافع عن قضيتنا الوطنية الأولى، قضية الوحدة الترابية، والتي دعا جلالته إلى الانتقال بها “من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير” مشدداً على أنها “القضية الأولى لجميع المغاربة”. كما أكد جلالته في خطابه السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024، في نفس المضمار: “لقد قلت، منذ اعتلائي العرش، أننا سنمر في قضية وحدتنا الترابية، من مرحلة التدبير، إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف. ودعوت كذلك للانتقال من مقاربة رد الفعل، إلى أخذ المبادرة، والتحلي بالحزم والاستباقية”

كما تثمن عاليا الانتصارات الدبلوماسية المتتالية التي حققتها بلادنا في الآونة الأخيرة تحت القيادة الحكيمة والمتبصرة لجلالته الذي يقود بحكمة واقتدار وتبصر وبعد نظر مسلسل تسوية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، حيث توج هذا المسار باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية واسبانيا ومؤخرا باعتراف كل من فرنسا وفنلندا الاسكندنافية ودولة الدومينيكان وغيرها من الدول بسيادة المغرب على كل ربوع الأقاليم الجنوبية المسترجعة. وقد أثمرت هذه الانتصارات الدبلوماسية فتح العديد من الدول قنصليات وتمثيليات لها بمدينتي العيون والداخلة بالصحراء المغربية، والتي وصل عددها إلى 30 قنصلية وتمثيلية منها 17 بمدينة الداخلة كان أخرها فتح قنصلية عامة لدولة تشاد تزامنا مع تخليد الذكرى 45 لاسترجاع إقليم وادي الذهب يوم 14 غشت 2024.

واحتفاء بهذه المناسبة التاريخية الغراء بما يليق بها من مظاهر الاعتزاز والإكبار، وإبرازا لدلالاتها التاريخية وإشاعة لقيمها النبيلة في أوساط الشباب والناشئة والأجيال الجديدة، ستنظم المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يوم الأربعاء 13 نونبر 2024 على الساعة العاشرة والنصف صباحا، بالجماعة القروية لهري بإقليم خنيفرة، مهرجانا خطابيا، ستلقى خلاله كلمات وعروض وشهادات، تستحضر الدلالات الرمزية والأبعاد التاريخية لهذه المعركة المفصلية في مسيرة الكفاح الوطني الطافحة بروائع النضالات من أجل الحرية والاستقلال والوحدة الوطنية.

كما ستجري مراسم تكريم صفوة من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وتوزيع إسعافات اجتماعية على عدد من أفراد هذه الأسرة المجاهدة الجديرة بموصول الرعاية وشامل العناية.

ومعلوم أنه ستقام في سائر جهات وعمالات وأقاليم المملكة برامج أنشطة وفعاليات بالمناسبة، ستشرف عليها النيابات الجهوية والإقليمية والمكاتب المحلية وفضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير، من ندوات ومحاضرات، بما فيها عرض إصدارات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وكذا تنظيم زيارات لفائدة الفئات العمرية على اختلافها، لفضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير البالغ تعدادها 104 وحدة-فضاء، مفتوحة عبر ربوع التراب الوطني.

Top