حول أعمال الفنان التشكيلي سليمان الدريسي

ابراهيم الحيسن
على منوال «اللوحة- الجدار» التي ظهرت كنتيجة لاختبار المادة، لكن بأسلوب صباغي مستقل ومختلف لما توصل إليه كل من إميل شوماخر وكار فردهمان وفانونتر في ألمانيا، حين عمدا منذ خمسينيات القرن الماضي إلى وضع صباغة سميكة وكثيفة على السند للحفر عليها بواسطة أدوات حادَّة قبل إضافة ألوان أخرى متعدِّدة لتتحوَّل اللوحة إلى ما يشبه الجدران القديمة، يُبدع الفنان سليمان الدريسي لوحات صباغية برائحة التراب حيث يذوب اللون في لجة المادة، وذلك بأسلوب تشكيلي يكثر فيه الإمحاء والتغرية والصبغات العجينية التي تمنح اللوحة هوية مادية ذات تأثير على المتلقي لاسيما على مستوى الملمس والحياكة، وكأنه بذلك يوقع أركيولوجيا اللوحة وذاكرة الجدار بحس تشكيلي ينمُّ عن خبرته في البناء والتوليف.
في هذه اللوحات يبدو الفنان مثل عالم الآثار تستهويه كل الأشياء والقطع العتيقة، إذ ينسج أفكاراً عبر «شكلانية مادية» ذات طابع إنشائي قديم قائم على التضاد اللوني الملمسي، وفيها -اللوحات- يخبئ ألواناً شذرية بتفصيلات لها معان ودلالات مبثوثة في جلد السند من الأزرق الأغمق إلى البني بدرجات ضوئية مغبرة، إلى الرمادي الملون والألوان الترابية بميسمها الطبيعي. من ثم يصير للأثر الفني بقايا وتركيبات طيفية خاصة يتساوى فيها الفراغ والامتلاء..أثر يفتح أبواب التامل والتلقي بمعانيه ومبانيه، وذلك ضمن علاقة تلازمية تحيا داخل مراحل التجريد في اللون والشكل.
هكذا، وبواسطة الأكريليك والرمل والصلصال ومسحوق الرخام ومواد التغرية والخامات المهملة والمهجورة يشيِّد الفنان لوحاته التشكيلية ويبنيها متخلصاً في ذلك من كل القيود الزمانية والمكانية، غايته الأولى التعبير عن الأثر بنوع من المداعبة الإبداعية، الأثر الفني الصامت الذي «يتعدَّى الخيال والفكر» على حَدِّ تعبير برغسون. من هذه الوجهة، تمسي اللوحة حاضنة الأثر بشفافية ذائبة داخل ألوان ومواد مكثفة متحوِّلة بقوة الإمداد ومصاغة بلا أسلوب تتعايش فيه الأصابع والفكر في آن.
ولأن «كل فن هو لغة تعبير»، كما يقول سنغلير، فإن الفن في تجربة الفنان سليمان الدريسي تعبير خالص عن الأثر بتاريخه المتقلب والمتغيِّر الذي يرسم بصمات الزمن وتحوُّلاته في تاريخ الإنسان، لذلك تغدو لوحاته عامرة بخدوش لونية وتخطيطات مبهمة وكتابات تجريدية وأرقام وتواريخ لا يدرك دلالاتها وسياقاتها الزمنية سوى الفنان. الكثير من هذه الآثار والمتروكات الغرافيكية تتعاقب عليها الألوان والمواد والخامات لتمحيها تارة، ولتلبسها تارة أخرى هوية جمالية مختلفة ذات أصداء واسعة ممتدة داخل ثنايا اللوحة.

Related posts

Top