كم نحتاج لمن تمطرنا سحبه قبسات نور في أمسياتنا المعتمة.. ويثرثر يثرثر دون انقطاع
فقط.. من أجل أن يشعل في الروح قناديل هرمة ..
بدو أن ضرع السحابة جف، وتشرين حزم مزاريبه، والسواسن نامت بين طيات الذكرى. كنوارس دجلة الحزينة، أحلق في سماء العابرين وقلبي يرتدي ثياب اللهفة.
كنت أعتقد أن الأيام ستمضي وأتخطى عنادي، أتخطى أفكاري، فلسفتي وخسارتي، أتخطى، ثأري، هشاشتي وأشياء كثيرة تعود عليّ بالسوء لكن يبدو أنني التي أمضي وحيدة في بلاد ناعسة. أتخطاني، أتخطى موتي، ذاكرتي، صراخي وهدير ثرثرتي.
فأحن لصبح من الصباحات العتيقة، صباح يتوضأ بندى غيمة، وينثر ضفائره فوق أشجار الكالونيا، ليمد يده فيصافح أحباب الفجر ويشرّع وجنتيه ليقبلها مطر تشرين..
هكذا أنا دائما مائهة في دروب صدئة، أبتاعُ شرودا فاخرا وأُلقي بنفسي من طوابق شاهقة الوجع، ترتكتُ بيني وبين الأمس صفيحاً من الدهشة أصابتني في عمق أيامي، أيام رأيت فيها وجهك بوضوح حينما كانت المواعيد تتكفل بترتيبنا، حينما أشعلتُ أصابعي العشرة شموعا ورحتُ أملأ بك الدنيا، وأجيء بالليل في كلمات تستيقظ عندها كل المشاعر
في وقت ما..
جعلتك تزهر أينما كنت، خلقتُ لك حياة جديدة تشبه رحابة السماء حين تستقبل النجوم ليلا، حياة تناسب الخبايا النائمة داخل صدرك، تشبه الطيور حين تؤثث أحلامها على كتف شجرة، تشبه الأشياء الحالمة التي تنبت من خيبة، تشبهني حين تخطفني هالة من الحب نحوك،
لو أني توقفت تلك الليلة عن العبور لما كنتُ اليوم ها هنا أرمي عليك بقايا قلبي المعطوب وشظايا روحي المكلومة، لما كنتُ اليوم أستجدي الحنين في رسائل ليلكية وأُلقي بأضلعي المُجهَدة ع حافة ليل طويل وأتوّسد دموع مشاعر مُستهلكة.. لما كنتُ عصفور مسجون يبحث عن الحرية
عائدة من قاع لم يمنحك عكازا تواسي به ندوبك
عائدة من مواجع أبرحتك هزائم ومن قلق تكّفل بفرم صبرك
عائدة من هشاشة لا تؤدي بك إلى مهرب ومن أغوار لم تزدك إلا بأساً.
تلقفني صحوة المساء وتغادر بي إلى الهُناك حيث أنت وقمحك المنثور فوق وجهك المُتعب، مازلت أتذكر ارتباك عينيك حينما كانت تبحث عني وسط الفوضى التي أُضرِمت داخلك، تلك الفوضى التي استوقفتك كثيرا عند مداخل قلبي،
أتذكرك وأنت تركض وتلوح للحب داخل حقول السعادة
حين قلتَ للحب انتظرني !
وغفلتني ورُحتَ تجدف أمواج قصائدي، تعرّضتَ لخلوتي واقتحمت انكماش شغفي، جهّزت مواعيدا عابرة وحاصرْتني بمشاعر انتفضت داخل أضلعي، بحثْت عن سجل حياتي فوجدته مجبولا بلحظات الصبا، مخضب بتفاصيل ملوّنة بالحب والدفء،
إنها المرة الأولى التي يصقعني أحدهم وأنا مشغولة بصقل درج أحلامي
إنها المرة الأولى التي أعرف فيها ما معنى معاناة
إنها المرة الأولى التي أزور فيها الجحيم، لقد فردت مشاعري أمام حماقة الحب واستهلكتني في محض هراء لا يناسب قلبي، وها أنا اليوم أعض أصابعي ندما
فقدتني في ركن متاح يركض إليه الحمقى وأنا التي لا يناسبني ما يتهافت عليه الجميع، لقد عدت أدراجي لكن بعد ماذا؟
صدقني لم تعد تعنيني في شيء، كنت ساذجة وقتها لما رفعتك بلغتي إلى مكان كبير جدا عليك، مكان لم تجد فيه نفسك فتعاليت وتماديت حتى سقطت عنك گل الوجوه المزيفة التي ارتديتها.. وها أنا اليوم أرى وجهك بوضوح تام، أرى وجهك كما لم أراه من قبل
وأردد في نفسي أحقا أنا أحببت هذا؟
لا أدري أين كان عقلي وقتها لا شك أنه كان يتجول في أماكن محظورة.
..
كما لو أني لا أعرف كيف يتنفس المرء هكذا أحببتك، ما أبعدني عن الشعور بالطمأنينة في خضم هاته اللحظات البعيدة التي تُغرقني في صوتي الداخلي، صوت يقول أني ملطخة بالحيرة، بتخيلات فنتازية لا أساس لها من الممكن، صوت يجعلني أذهب وأجيء بين التيارات المتناوبة التي تشّد ع قلقي ع خوفي وع انفعالاتي المشتعلة، تساورني الكثير من الشكوك حول كل هذا الوقت الذي أصرفه في التفكير بك، في السؤال كيف تبدد أيامك المُتعبة؟
أيعقل هذا؟ كيف لغائب ملطخ بالغدر أن يكسب كل تلك الأهمية؟
كيف لصراع داخلي أن يكون مهلك هكذا؟
..
أنا متعبة جدا من استخدام الكلمات، نص واحد لا يكفي ليخلصني من هذا الثقل، أبجدية واحدة لن تُسعف هذا الكم الهائل من الحزن الذي يسير في كل الاتجاهات، أغنية واحدة قد تعيدني إلى منفى مرصع بالذكرى، تعيدني إلى أمس متقّلب الأهواء جعلني أتخبط بين الحبّ واللاحب بين الوعي واللاوعي يحشرني في زاوية ملغومة
..
تفاصيل كثيرة كان لها تأثير زمني عميق على أيامي، مشاهد غزيرة التقطتها بأجنحة قلبي سوف تخبرك يوماً عن العطب السميك الذي أحدثته بها،
تحاصرني عيونك الحائرة حيث أخطو وتلك الأحاديث التي تدور في صمت بيننا تمتص وميض حبّنا المنطفئ،
هل لك أن تدرك كيف لحديث قلب مبتور أن يكون الأخطر على الإطلاق؟
..
لم تعد صباحاتي تلمع كما في السابق حين كنت تستدير بعيدا عن الحياة وتأتيني على أجنحة غيمة لتجعلني أفضل، لتملأ يومي بضحكات تحمل كل أحلام العالم، لتكون العمود الفقري الذي يمنحني التوازن، لتعيرني كل الانتباه حين تورطني في شعور مختلف تماماً
كأنك لازلت لم تدرك بعد أنك الشيء الجميل الذي كان يحدث في كل صباحاتي؟
ماذا لو ..؟
ماذا لو جعلتَ هذا الصباح يمطر؟
ماذا لو كنتَ لي ربيعاً وشتاء في آن واحد؟
ماذا لو خطونا معاً وأشرقنا من صدفة سعيدة؟
ماذا لو حوّلت أحزاني إلى شجرة كرز؟
ماذا لو كانت الحياة عادلة وخاطبتنا بالحبّ؟
ماذا لو ابتكرنا شعور جديد لا يعيشه سوانا؟
تسحرني فكرة أن نلتقي مرة أخرى بين كلمات منسية بين خطيئة قديمة وعواطف تملؤها الوحشة، المهم أن نلتقي ولو في حيوات أخرى
لطالما كنتُ متهورة للغاية وغير مهذبة حين يتعلق الأمر بالكتابة وأظنني لازلت وسأظل ..
هند بومديان