انطلقت أول أمس الأربعاء 30 أكتوبر، بمدينة باب الصحراء، فعاليات الدورة السابعة لمهرجان كلميم لمسرح الجنوب الذي تنظمه جمعية أدوار للمسرح الحر، تحت شعار “شعرية المسرح والذاكرة”، والذي سيستمر إلى غاية الثالث من شهر نونبر الجاري..
“وحده المسرح لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت، لأنه ولد بعمر الأسطورة، حيث ميلاد الأبدية..”.. بهذه الكلمات ذات الدلالة العميقة، أعلن الفنان المسرحي الشاب إبراهيم بن الرايس افتتاح الدورة السابعة لمهرجان كلميم الدولي لمسرح الجنوب وسط حشد جماهيري غصت به قاعة العروض التابعة للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين… وواصل منشط حفل الافتتاح باقتدار ومهنية البرولوغ التقديمي بذات الشاعرية والثقة في النفس، مسترسلا: “وحده المسرح الذي خلد أساطير الحياة منذ زهرة الخلود ورموز الحب والبغض والخير والشر والخصب، وظلت معينا لرؤانا ورؤيانا في المسرح حتى يومنا هذا والأيام التي لم تأت بعد.. وحده المسرح المتنوع المتعدد فينا، إلى حد يوشك أن يكون كل انفعال أو فعل في تفاصيل جوارحنا أو حياتنا نوعًا من أنواع المسرح.. وحده المسرح الذي لا ينتظر بيتا أو مأوى كي يعيش ويحيا.. وحده المسرح يجمعنا اليوم ووحدها جمعية ادوار للمسرح الحر تصنع حدثا لذلك…”، ثم شرعت موسيقى وأصوات منبثقة بشكل حي من خلف الكواليس في إعطاء الضوء الأخضر لولوج الخشبة من طرف شباب من المؤدين ليقترحوا علينا مشاهدة لوحات راقصة أعدت خصيصا لتأثيث فضاء حفل الافتتاح برونق وبهاء في فرجة فنية قصيرة من توقيع الممثل والمخرج الفنان حمادة أملوكو، فرجة استطاع مخرجها أن يتمثل الهوية الخاصة والمتميزة لمهرجان مسرح الجنوب القائمة أساسا على قيم التنوع والغنى والتعدد التي تسم جغرافية الجنوب، بأمازيغيتها العريقة، وبحسانيتها الشاعرية، وبدارجتها المبهجة، وبعمقها الإفريقي بمختلف ألوانه وإيقاعاته… وبأبعادها الحضارية والتاريخية والثقافية..
بعد ذلك جاء دور جمعية أدوار المنظمة للمهرجان، ليصعد للمنصة أحد قيدومي الحركة المسرحية بكلميم والصحراء المغربية، الكاتب والمخرج والمدبر الأستاذ عبد اللطيف الصافي، الرئيس المؤسس لمهرجان مسرح الجنوب، وواضع تصوره الفني والفكري، الذي لم يستطع، خلال كلمته الافتتاحية، إخفاء مشاعر التأثر الممزوجة بأحاسيس الفرح، مرحبا بضيوف المهرجان وجمهوره الواسع والوفي.. معتبرا في ذات الوقت أن هذه الدورة “تكتسي أهميتها أولا من الدعم المتميز الذي حظيت به من عدد من المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي والفني”، وخص بالذكر وزارة الثقافة والشباب والاتصال قطاع الثقافة ومجلس جهة كلميم وادنون اللذين، وفق تعبيره، “يعتبر دعمهما لهذه التظاهرة وحجم هذا الدعم، مؤشرا على مصداقية المهرجان ودوره في ترسيخ الممارسة المسرحية الجادة وإشعاع الجهة..”. كما أن تعاون عدد من الفاعلين المحليين ومساهماتهم القيمة وتجاوبهم مع انتظارات المهرجان، يقول عبد الطيف الصافي، “يجعلنا نتفاءل بتطوير هذه التجربة وإغنائها”؛ شاكرا بهذه المناسبة كل من المجلس البلدي لكلميم، والأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين، والمديرية الجهوية للثقافة، والمديرية الجهوية للشباب، والمديرية الإقليمية للتعليم ومن خلالها مؤسسة التفتح الفني والأدبي، والفرع الإقليمي لجمعية تنمية التعاون المدرسي وباقي الشركاء والمتعاونين خصوصا إدارة المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين وإدارة المعهد العالي للتكنولوجيا.
وتوجه رئيس المهرجان بتنويه خاص على الدعم والتنسيق المثمر مع دار الشعر بمراكش التي ستكون حاضرة في هذه الدورة من خلال الندوة الفكرية التي ستحتضنها واحة تغمرت.
وكشف عبد اللطيف الصافي في كلمته أن جمعية أدوار وإدارة المهرجان قررتا إحداث “جائزة حسن لحمدي للنص المسرحي للشباب” لتواكب فعاليات المهرجان في دوراته القادمة، والأستاذ حسن لحمدي الذي تحمل الجائزة اسمه، والذي اختطفته يد المنون منذ أقل من شهرين، كان، رحمه الله، أحد الأعضاء المؤسسين للجمعية وأحد فاعليها الأساسيين، لذا ارتأت الجمعية والمهرجان تكريمه بهذه المبادرة الثقافية والتربوية تخليدا لذكراه وعرفانا لما قدمه للمسرح عموما ولما أسداه من خدمات لفائدة الجنوب وشبابه وثقافته وفنونه..
من جانب آخر، أكد المتحدث أن هذه التظاهرة “دأبت، منذ تأسيسها، على استقطاب فنانات وفنانين ومؤطرات ومؤطرين من عالم الفن المسرحي بكل مكوناته الفنية والفكرية والجمالية، سواء من داخل الوطن أو من خارجه، مشهود لهم بالكفاءة والجدية والسخاء اللامحدود في البذل والعطاء.” متوجها إليهم بالتحية والتقدير قائلا: “إنني إذ أحييهم تحية إجلال وتقدير فإنني أعبر لهم عن اعتزاز أسرة أدوار للمسرح الحر بهذه العلاقة الفنية والأخوية الصادقة التي ما فتئت تترسخ وتتوسع دائرتها مع كل تظاهرة جديدة، فمرحبا بهم بين أحضان وادنون”..
وفي سياق آخر، قال مدير المهرجان كلمته الافتتاحية، “لقد حاولنا أن تكون هذه الدورة معبرة عن واقع التعدد اللغوي والتنوع الثقافي الذي يميز بلادنا، لذلك اخترنا عروضا مسرحية حسانية وأمازيغية وبالدارجة المغربية، وهي عروض حققت نجاحا باهرا في الساحة المسرحية الوطنية.”.
هذا وذكر المتحدث أن جمعية أدوار للمسرح الحر بكلميم، سعت، منذ تأسيسها، “للانفتاح على كل أوجه التنوع الثقافي المغربي وكل الاتجاهات الفنية والمسرحية، والتي من شأنها تعميق الاشتغال الفني والجمعوي والمدني للجمعية، بما يحقق أهدافها التي تسعى من خلالها لتحقيق التنمية، كرافد أساسي من خلال الممارسة الثقافية والوعي الفني الإبداعي والتكويني والفكري، في ارتباط بتنمية الوعي الجمعي والرقي بأساليب التكوين والانخراط الفعلي للنهوض بالمجال الثقافي في الجنوب”.
ولتحقيق هذا المسعى، يؤكد الصافي، تعمل جمعية أدوار للمسرح الحر على تكثيف جوانب اشتغالها الفني، وتنويعه، عبر ملاءمة أساليب وبرامج البحث والتكوين الملازمة على حضور مختلف الأنشطة المسرحية محليا وجهويا ووطنيا ودوليا، والعمل على تنظيم وتأطير ملتقيات وتظاهرات وطنية كبرى، تسهم بالدرجة الأولى في ترسيخ ثقافة الفن وفن الثقافة، والنهوض بالسياحة الثقافية والحفاظ على الذاكرة الثقافية المتنوعة لواد نون.”..
والمناسبة شرط، حيث تصادف هذه الدورة احتفالات الشعب المغربي بالذكرى 49 للمسيرة الخضراء المظفرة، لم يفوت مدير المهرجان الفرصة للتعبير عن تجديد جمعية أدوار للمسرح الحر بكلميم الإعراب عن “اعتزازها بما جسدته هذه الملحمة التاريخية من ترابط وثيق بين العرش والشعب، وعن إشادتها بالانتصارات الدبلوماسية والاعترافات الدولية التي تراكمت خلال السنوات الأخيرة والتي من شأنها خلق الشروط الكفيلة بإنهاء هذا النزاع المفتعل على صحرائنا الغربية المغربية”.
وفي ختام كلمته توجه مدير المهرجان بتحية التقدير والعرفان لكل فريق العمل من شباب جمعية أدوار للمسرح الحر والمتعاونين معهم الذين سهروا على كل صغيرة وكبيرة لتخرج هذه الدورة في أبهى صورة ولتعكس فعلا ما تزخر به هذه المدينة من مواهب متمرسة وكفاءات عالية في مختلف المجالات المرتبطة بالصناعات الثقافية والفنية.
بعد هذه الكلمة، عاش الجمهور المتتبع لحظات قوية، ملؤها التعاطف والمحبة، اتجاه الفنانة الكاميرونية مكرمة هذه الدورة، الممثلة والدراماتورج ماسان أبيروكو، التي حظيت بتقدير خاص من قبل المنظمين والمهرجانيين على حد سواء. حيث تسلمت درع المهرجان التكريمي من يد الدراماتورج المغربي الحسين الشعبي، كما تسلمت شهادة عرفان تقديرية من يد قيدوم جمعية أدوار الفنان والمربي الأستاذ عبد العزيز نافع، وباقة ورود من يد بعض مستشاري ومنتخبي الجماعة الترابية لمدينة كلميم.. وبدورها عبرت الفنانة الكاميرونية عن اعتزازها وسعادتها بهذا التكريم معتبرة أنها لحظة عاطفية مليئة بالأحاسيس الصادقة و”تجعلني، تقول الفنانة المكرمة، أشعر أن لي بيتا في كلميم، وأنني أصبحت بنت هذه المدينة التي تفضلت بتكريمي وتثمين مساري الفني بحب وسخاء”.. وبعد هذا البوح اللطيف، توجهت بكلمة خاصة للشباب المسرحي الصاعد، وهي تقترب من سن الثمانين، قائلة: “إياكم والانسياق وراء الإغراءات والمال، فالمسرح كائن يأبى الخضوع، لكنه يعول على تضحيات مهنييه وعشاقه.. ورأسمالنا الحقيقي، نحن الممثلين، هو الجمهور وحبه لنا وتتبعه لأعمالنا.. ولكم أن تتصورا إحساس الممثل على الخشبة عندما تتقاطر عليه تصفيقات الجمهور، إنها حرارة إنسانية لا تقدر بالمال وليس لها ثمن…”.
هذا وكانت الفنانة الممثلة والدراماتورج ماسان أبيروكو، بمجرد صعودها للخشبة، قد وجهت للجمهور تحية من نوع خاص حيث بادرت إلى أداء وتشخيص مقطع من مسرحيتها الفردية متقاسمة مع الحاضرين حكاية شيقة من أعماق أدغال إفريقيا.
يشار إلى أن الفنانة ماسان أبيريكو تعد من أبرز الوجوه الحاضرة بقوة في المشهد المسرحي والسينمائي الكاميروني، تتمتع بكفاءة عالية وقدرات متميزة وحضور وازن، استطاعت على مدى حياتها المهنية التأثير في أجيال من الفنانين المعاصرين بالكاميرون وعلى صعيد إفريقيا..
ظهرت في أعمال كبرى وأبهرت في أدائها، نذكر منها على سبيل المثال: Confidences / Le Blanc d’Eyenga/ Le Président/ Harraga / Refuge….
العرض الأول: المسرح الحساني يفتتح فسيفساء المهرجان
ومباشرة بعد حفل الافتتاح، كان للجمهو موعد مع العرض المسرحي الأول المبرمج ضمن شبكة عروض الدورة، وهو بعنوان “الشر جر” باللغة الحسانية، من إنتاج الجمعية المضيفة “أدوار للمسرج الحر”.
المسرحية أعدها وأخرجها المبدع عبد اللطيف الصافي، عن المسرحية العالمية “فصيلة على طريق الموت”، للكاتب الإسباني ألفونصو ساستري؛ وقام بأداء أدوارها بإتقان وروعة ومهنية عالية كل من: حمادة أملوكو، أيوب بوشان، مصطفى أكادر، وأحمد سالم رحال؛ بينما السينوغرافيا كانت من توقيع الفنان محمد زركان؛ اما الإضاءة والموسيقى فأدارهما الفنان مروان لحلو؛ وكانت المحافظة العامة لابراهيم عجاج؛ فيما تدبر شؤون الإعلام والعلاقات العامة الإعلامي والمسرحي عبد الحق ميفراني؛ وكان في تدبير وتسيير إدارة الإنتاج القيدوم الفنان عبد العزيز نافع.
مسرحية “الشر جر” تحكي قصة مجموعة من الجنود محكوم عليهم بالإعدام نتيجة لسلوكهم المتمرد أو الإجرامي، فيتم إرسالهم في مهمة انتحارية. إلا أن المعاملة الاستبدادية للعريف / لاجودان تدفع الجنود لقتله، وبموته تتفكك المجموعة ويدب الخلاف بين أعضائها الذين أصبحوا وحدهم بلا معالم، أحدهم ينتحر بينما الآخرون ينتظرون شن هجوم. لكن الهجوم لا يأتي. يتملكهم اليأس حيث يكتشفون في الأخير أنهم معزولون وعليهم مواجهة مصيرهم وذواتهم.
****
الرؤيا الإخراجية للفنان عبد اللطيف الصافي في عرض “الشر جر”
بخصوص الرؤيا الإخراجية لهذا العرض، يقول المخرج عبد اللطيف الصافي في ورقة أعدها خصيصا لهذا العرض:
“عندما صادفت هذا النص الدرامي المنشور ضمن سلسلة المسرح الإسباني المعاصر (الجزء الأول) للكاتب المسرحي والناقد الإسباني ألفونسو ساستري، تملكني للوهلة الأولى إحساس بأنني أمام النص الذي أبحث عنه. ذلك أنني وجدت نفسي في مواجهة مع ما أعتبره أساسيا في حياتنا كبشر، وفي نفس الوقت وجدت صدى لما هو ضروري في حياة المسرح: الاهتمام بالإنسان وبمصائره وبكل العناصر التي تبني شخصيته وتوجه كينونته وتحدد مساراته في الحياة.
تكمن أهمية هذا العمل في أن له علاقة كبيرة باللحظة الحالية حيث عالمنا اليوم متشنج ويعيش حالة صراع مدمر لا يتوقف. الأمر الذي يحفزنا على أن نفكر في من نحن وماذا نفعل هنا وما الذي يتعين علينا القيام به.
لا يخرج اشتغالي على هذا النص عن دائرة انشغالاتي الفكرية والجمالية السابقة التي تحثني على الاستمرار في البحث عن كل ما يمكن أن يجعل المسرح بشكل عام يخترق الثقافة الحسانية سواء عبر إدماج الثالوث المهيمن عليها والمتمثل في الموسيقى والحكاية والشعر ومختلف التعبيرات التي تحفل بها ذاكرة الإنسان الصحراوي أو من خلال دراماتورجيا تستحضر المشترك الإنساني والتناسج الثقافي الذي لا يلغي الخصوصيات المحلية في أبعادها الثقافية والنفسية والاجتماعية. وسنعمل على تكييفه وفق رؤية منفتحة على مختلف الأفكار التي ستتولد عن النقاش بين كل مكونات العرض المسرحي من ممثلين وتقنيين وأصدقاء مواكبين لتجربتنا. هناك أيضا اللهجة الحسانية التي سنجتهد في أن تكون واضحة وقريبة من الممثلين والجمهور على حد سواء، لكن التحدي الأكبر الذي سنواجهه يتمثل في المعالجة الدرامية لمختلف المشاعر والعلاقات الإنسانية المكثفة والبحث في الشكل الذي سيمكننا من إيجاد التوليفة الناجعة بين الأضداد والتناقضات واستكشاف الفضاء المتخيل والدقة في رسم حركة الجسد.
ينتمي الفونسو ساستري إلى جيل الواقعية الاجتماعية بإسبانيا الذي شكل أعضاؤه الأركان الرئيسية للتجديد المسرحي الإسباني في النصف الثاني من القرن العشرين. ويقدم في أعماله مواقف يجد فيها الفرد نفسه في مواجهة مع مصيره المأساوي. وكما سنرى في هذه المسرحية التي تعتبر إحدى الروائع العشر للأدب الإسباني في القرن العشرين، فإن العزلة التي وجدت الشخصيات نفسها فيها، وحالة الانتظار المستمر، ستظهر أحلك ما فيها من مشاعر ولكن أيضا ستظهر مشاعرها الأكثر إنسانية. سيكون هناك عنف وقسوة وتوتر، ولكن سيكون هناك أيضًا صداقة وتعاطف ومودة”.
كلميم: مولود الوادنوني