لم تعد الهجرة السرية باتجاه أوروبا عبر “قوارب الموت” مجرد ظاهرة موسمية، بل أصبحت جزءا من مأساة مغربية يعاني منها الشباب الباحث عن الكرامة التي تبدو بالنسبة له، أنها فقدت بريقها، ولم يعد في اعتقاده وجود أي دافع للتشبث بالعيش في وطنه الأم. هذه المغامرة التي يخوضها الآلاف من الشباب ليست عبثية ولا مجرد هروب من ظروف صعبة؛ بل هي انعكاس لواقع اجتماعي واقتصادي خانق، ومأزق وطني يترتب عليه تداعيات تتجاوز الأفراد لتشمل المجتمع ككل. لكن، ألم نتساءل؟ لماذا يُقبل الشباب على مخاطرة الحياة والموت في سبيل الهروب؟ ولماذا أصبح هذا “الحلم المميت” ملاذا لأجيال من الشباب؟
لم تعد الهجرة السرية خيارا عشوائيا بقدر ما أصبحت تشكل صرخة عميقة تعبر عن واقع مرير تتخبط فيه نسبة كبيرة من الشباب، وفي حالات أخرى حتى أولائك الذين تجاوزوا هذه الفترة العمرية. وبلا شك، أنكم شاهدتم صورا متنوعة لأمهات يحملن أطفالهن في اتجاه قوارب الموت، يعتقدن أنهن سيعبرن بهن إلى “الفردوس الأروبي”، إلى الضفة الأخرى التي سوقوا عنها صورة مثالية، على أنها ضفة الديمقراطيات التي تضمن الحريات والحقوق وتوفر العيش الكريم. ولربما هذه الظاهرة أصبحت تعكس أزمة انتماء وشعور جماعي بالخذلان. فحين يتخذ الشباب قرارا بعبور البحر في قوارب الموت، فإنه لا ينطلق من فراغ؛ بل من إحساس ثقيل بانسداد الأفق وفقدان الفرص. فتصبح هذه القوارب بالنسبة إليه ليست مجرد وسيلة لعبور البحر؛ بل حلم غارق، صرخة صامتة، وانفجار لمشهد مؤلم يعكس الصراع بين الحاجة للكرامة واليأس من واقع محدود. هنا يختارون قوارب الموت رغم إدراكهم لخطورة الرحلة. كل موجة تبتلع روحا، وكل شاطئ ينتظر الضائعين وكأنه ملاذ للموتى قبل الأحياء، مع ذلك كله، يتسابقون إليه، كأنهم يسعون وراء مخرج لم يعد موجودا في الداخل.
بين فخ التهميش وقسوة التهميش: كيف يبتلع اليأس أجيالا كاملة؟
في زوايا المغرب المنسية، تبدو وجوه الشباب حائرة، تتأمل في مستقبل ضبابي فقدوا فيه الثقة بقدرة الوطن على احتضان طموحاتهم. لربما بعد سنوات من التعليم، وبعد معارك من أجل النجاح لم تترجم إلى فرص تضمن لهم حياة كريمة؛ وجدوا أنفسهم أمام سياسات اقتصادية واجتماعية تبقيهم على الهامش، في انتظار مستقبل لا يأتي. هم شباب مغاربة وطنيون أبناء الوطن، يعانون من ضعف فرص العمل وانعدام العدالة الاجتماعية، مما يخلق حالة من التهميش والإقصاء. إذ تبدو المسارات المتاحة أمامهم محدودة ومحاصرة بمشكلات بطالة مزمنة وسياسات حكومية ضعيفة لا ترقى إلى تطلعاتهم. محبطون من فشل كل المحاولات الدائمة لإيجاد مكان لهم في مجتمع يضعهم أمام خيارين: الاستسلام لواقع الحياة، أو الهروب نحو “أمل” غامض في بلاد الغربة، حيث يعتقد أنه قد يحقق ما فشل في الحصول عليه في وطنه. وهذا التهميش ليس مجرد إحصائيات؛ بل إنه تجسيد يومي لواقع يعيشه الشباب الذين يشعرون بأن وطنهم قد تخلى عنهم في أبسط حقوقهم الإنسانية.
صورة “الفردوس الأوروبي”: بين الإعلام والتصورات المغلوطة
الإعلام لم يكن يوما بعيدا عن هذه الأزمة؛ بل يعد في بعض الأحيان محفزا غير مباشر للهجرة، إذ يسهم في تشكيل ما يمكن تسميته “الحلم الأوروبي”، الذي يبدو نقيضا حادا للواقع المعيشي في الداخل. حيث تتناقل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي صورا وأخبارا تركز على الجوانب الإيجابية للحياة في أوروبا، كالتقدم التكنولوجي، والرعاية الصحية المتطورة، وفرص العمل الواسعة. هذه الصور المثالية تصنع في أذهان الشباب المغربي تصورا مفاده أن الحياة في أوروبا تحقق الكرامة وتضمن الحريات الفردية والاجتماعية التي يصعب عليهم الحصول عليها في أوطانهم.
ولكن في المقابل، يتجاهل هذا النوع من المحتوى الإعلامي، في كثير من الأحيان، الصعوبات التي تواجهها الجالية في دول المهجر، مثل تحديات الاندماج، وصعوبات اللغة، والتمييز الذي قد يواجهه بعض المهاجرين، ناهيك عن القيود القانونية التي تحد من حرية الحركة والعمل للمهاجرين غير الشرعيين، والتي في الغالب ما تقودهم في نهاية المطاف نحو التشرد والعيش في الشارع. وسبب ذلك راجع لغياب التوعية الحقيقية، إذ يجد الشباب أنفسهم متأثرين بصورة زائفة عن الحياة في أوروبا، ولا يدركون أن الواقع مختلف، وأن الصورة الوردية التي يروج لها قد تكون خادعة بقدر ما هي مغرية.
ليس هذا وحسب؛ بل تؤدي هذه الصورة إلى تأثير نفسي عميق يجعل الشباب يشعرون بالخذلان تجاه أوطانهم، إذ يعتقدون أن وطنهم قد فشل في توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة، بينما تقدم أوروبا كبديل لا يعترف بالعقبات. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى الأخبار العالمية، يتزايد هذا التباين بين الصورة المثالية والواقع المحبط، ويصبح البحر، بكل ما يحمله من مخاطر، بابا مفتوحا نحو “الفردوس” الموعود.
الهجرة كحركة احتجاجية صامتة: صرخة يائسة في وجه السياسات الفاشلة
قد تعكس الهجرة السرية في عمقها حركة احتجاجية صامتة تهز أسس الثقة في السياسات العمومية، إذ لم يعد قرار الهروب إلى الضفة الأخرى مجرد مغامرة فردية، بل رسالة جماعية تنبئ بعدم الرضا. فعندما يختار الشباب المخاطرة بحياتهم في قوارب الموت، فإنهم بذلك يقدمون احتجاجا صريحا على واقع متأزم، مفاده أن الحلول التي توفرها الحكومة باتت غير كافية، وأن التحديات التي يواجهونها قد فاقت قدرتهم على التحمل. هؤلاء الشباب لا يهربون فقط من صعوبات الحياة، بل من منظومة يعتقدون أنها أغلقت أمامهم أبواب المستقبل، وتركتهم بين معاناة يومية وآمال أصبحت حلما مستحيلا.
إن هذا الاحتجاج الصامت يمثل تراكما لشعور عميق بالخذلان تجاه الوعود التي لم تتحقق، والإصلاحات التي لم تلامس واقعهم، مما يخلق فجوة واسعة بين الشباب وصناع القرار.
ورغم محاولات الحكومة لطرح مبادرات تركز على قضايا التشغيل والتنمية الاجتماعية، إلا أن السياسات القائمة تعاني من نقص في الشمولية والجدية، حيث لم تصل هذه الإصلاحات إلى جوهر المشكلة. ونتيجة لذلك، يجد الشباب أنفسهم أمام خيارات محدودة، بين مواجهة واقع غير قابل للتغيير وبين المخاطرة بعبور قد تكون فيه الحياة أو الموت.
ومن زاوية أوسع، تترتب على هذه الظاهرة تداعيات عميقة تطال المجتمع بأسره، حيث يحذر المحللون من أن استمرار الهجرة السرية دون معالجة جذور الأزمة يشكل تهديدا للأمن الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي. فقد تتسع الهوة بين طبقات المجتمع، ويزداد شعور شريحة كبيرة من الشباب بالإقصاء، ما ينعكس في النهاية على قدرة المجتمع ككل على التقدم. ولا يمكن لأي مجتمع أن يحقق استقرارا مستداما ونموا حقيقيا إذا كانت فئة كبيرة من أبنائه تعيش حالة من الاغتراب والتهميش داخل وطنها، وتجد في الهروب ملاذا أخيرا لتحقيق الحد الأدنى من الكرامة والعيش الكريم.
من المسؤول؟ وهل من سبيل لإعادة الثقة؟
في ضوء هذا المسار المؤلم، يبدو البحر كملاذ أخير للهاربين من واقع محبط، وكأن الوطن قد أدار ظهره لطموحاتهم. هنا يطرح سؤال محوري: من المسؤول عن إفراغ الوطن من آمال شبابه؟ هل هي السياسات العمومية التي تعجز عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين العاطلين عن العمل؟ أم أن الخلل يكمن في ضعف الإرادة السياسية التي تركز على حلول جزئية لا ترقى إلى مستوى التحديات؟
قد يكون المشهد أشد تعقيدا من أن تختصره الإجابات السريعة؛ إذ تلقى المسؤولية على عاتق مجموعة من العوامل المترابطة، تشمل غياب استراتيجيات طويلة الأمد لتحفيز التنمية، وتجاهل الاحتياجات الأساسية للمناطق الهامشية، إضافة إلى نظام تعليمي يعاني من فجوات عميقة تفصل بين مؤهلات الشباب وسوق العمل. وهو ما يفرض على صانعي السياسات العمومية ضرورة مراجعتها، مع تبني مقاربات شاملة تركز على تهيئة فرص حقيقية للشباب، ليستطيعوا تجسيد طموحاتهم داخل وطنهم.
لكن، هل ما زال من الممكن استعادة ثقة الشباب؟ قد يكون تحقيق ذلك ممكنا إذا ما توافرت الإرادة الجادة لإجراء إصلاحات عميقة. فبناء الثقة يتطلب رؤية استراتيجية تضع حاجيات الشباب في صميم اهتماماتها، بدءا من توفير بيئة اقتصادية محفزة تتيح فرص العمل، مرورا بسياسات تعليمية تعزز القدرات الحقيقية، وانتهاء بمنظومة قانونية تحفظ حقوقهم وتضمن لهم العيش بكرامة.
إن استعادة ثقة الشباب في وطنهم ليست مجرد ترف، بل هي حاجة حيوية لبناء مجتمع أكثر استقرارا. فالأمل لا يزال قائما، والوطن قادر على احتضان طموحات أبنائه، إذا نجح في الإصغاء إليهم واستجابت سياساته لآمالهم، ليصبح البحر، أخيرا، ممرا لحياة كريمة لا للبحث عنها.
بقلم: محسن الأجرومي
دكتور باحث في القانون العام والعلوم السياسية