إن السلطة القضائية وحتى وقت قريب كانت لا تخضع لقواعد المسؤولية إلا استثناء في الحالات التي ينص فيها المشرع على ذلك، حيث كانت السلطة العامة غير مسؤولة عن نشاط المرفق القضائي، ذلك لرسوخ فكرة جوهرية مفادها “القاضي لا يمكن أن يخطئ” باعتبار القاضي يجسد الحقيقة والعدالة، ومبدأ العصمة هذا كان يرى على جميع الأعمال القضائية.
لقد شكلت القضايا التي طرحت على القضاء الإداري بعد صدور الدستور الجديد، فرصة لتلمس بوادر اجتهاد قضائي ينسجم مع روح الدستور من خلال بعض القرارات والأحكام التي صدرت بمناسبة بت المحاكم الإدارية في موضوع الاختصاص النوعي للنظر في قضايا المسؤولية عن الخطأ القضائي.
ولاشك أن تحديد الجهة القضائية المختصة بالنظر في المنازعات القضائية عموما، يكتسي أهمية بالغة اعتبارا لعلاقته بمبادئ دستورية وحقوقية، من قبيل الحق في المحاكمة العادلة والسريعة وفي آجال معقولة، فليس أدعى للشك في عدالة أي نظام قضائي من تعذر تحديد الجهة المختصة بسبب اللبس الذي قد ينتج عن غموض النص القانوني أو اختلاف القضاء في اعتماد معايير مضبوطة عند تحديد طبيعة الخطأ والجهة المسؤولة عنه وعدم الحسم في تنازع الاختصاص في ظل غياب محكمة للتنازع على غرار الأنظمة القضائية التي تعرف نظام ازدواجية القضاء والذي تسير بلادنا قدما نحو تحقيقه.
وقد أصبح القضاء المغربي في ظل إقرار هذا المبدأ دستوريا مدعوا إلى تحديد موقفه بخصوص هذا النوع من القضايا، وأول ما طرح عليه بهذا الصدد هو تحديد الجهة المختصة نوعيا بالفصل فيها، إذ أن أول دفع يثار بصدد عرض هذه القضايا على القضاء الإداري هو الدفع بعدم الاختصاص النوعي استنادا إلى نفس المبررات التي كانت تثار في العهد السابق على تطبيق أحكام الدستور الجديد، والتي تستند إلى كون العمل القضائي لا يخضع للمساءلة وأن مسؤولية القضاة منظمة في إطار مسطرة المخاصمة مع وجود جهة قضائية موكول لها أمر البت فيها وأن الخطأ المرتكب في إطار مرفق القضاء ليس خطأ مرفقيا تسأل عنه الدولة.
يمكن القول بأن القضاء الإداري ممثلا في المحاكم الإدارية بعد صدور الدستور الجديد، أصبح لا يتردد في قبول النظر في دعاوى المسؤولية عن الخطأ القضائي بعد أعمال المقتضيات القانونية المحددة لتوزيع الاختصاص.
نطاق اختصاص القضاء الإداري من خلال بعض صور الخطأ القضائي:
ونتولى فيما يلي إبراز حالات مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي، مع التركيز على تحديد الجهة المختصة نوعيا بالبت بحسب حالات المسؤولية، مستنيرين ما أمكن الأمر، باجتهاد القضاء المغربي بهذا الخصوص.
أولا: مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي اثر صدور حكم لاحق بالبراءة بعد حكم جنائي بالإدانة
يعد التعويض عن الخطأ القضائي اثر صدور حكم لاحق بالبراءة بعد حكم جنائي بالإدانة استثناء من القاعدة السابقة التي كانت تقر مبدأ عدم مسؤولية الدولة عن أعمال القضاء، وبموجبه يحق للمتضرر من قرار قضائي قضى بإدانته وثبتت براءته فيما بعد، حق المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي لحقه جراء هذا الخطأ القضائي.
وقد جاء في المادة 573 من قانون المسطرة الجنائية ما يلي: “يمكن استنادا إلى المقرر الجديد المترتبة عنه براءة المحكوم عليه وبناء على طلبه الحكم له بتعويض عن الضرر الذي لحقه بسبب الإدانة”.
إذا كان ضحية الخطأ القضائي قد توفي انتقل الحق في رفع طلب التعويض حسب نفس الشروط إلى زوجه وأصوله وفروعه ولا يمكن أن يؤول هذا الحق لأقارب آخرين أبعد صلة إلا إذا أدلوا بما يبرر أن ضررا ماديا لحقهم من العقوبة المحكوم بها.
ثانيا: قبول طلب التعويض في سائر مراحل مسطرة المراجعة
تتحمل الدولة ما يحكم به من تعويضات على أنه يحق لها الرجوع على الطرف المدني أو الواشي أو شاهد الزور الذين تسببوا بخطئهم في صدور العقوبة وتؤدى التعويضات كما تؤدى مصاريف القضاء الجنائي.
ويشكل هذا النوع من الأخطاء الصورة المثلى والواضحة للخطأ القضائي المطلوب التعويض عنه، إذ تقوم في هذه الحالة مسؤولية الدولة أيا كان مرتكب الخطأ والمرحلة التي تم خلالها ارتكابه، إذ أن العملية القضائية مركبة بدءا من مرحلة البحث التمهيدي أو التحقيق الإعدادي إلى غاية إصدار الحكم.
ويمكن القول بأن أساس هذه المسؤولية هو نص القانون من خلال قانون المسطرة الجنائية غير أن البت في التعويض عن الضرر الناجم عنه اثر صدور حكم المراجعة تنازعه اتجاهان وفق ما سيأتي بيانه.
إذ أن القضاء المغربي اختلف في تحديد الجهة المختصة بالبت في طلب التعويض، فذهب اتجاه قضائي إلى منح الاختصاص حصرا للغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى باعتبارها صاحبة الاختصاص للبت في طلب المراجعة وفقا للمادة 568 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أن طلب المراجعة يحال إلى الغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى، وكذا المادة 573 من نفس القانون التي تنص في الفقرة الثالثة على أن طلب التعويض يقبل في سائر مراحل مسطرة المراجعة.
ثالثا: مسؤولية الدولة عن أخطاء القاضي
يعتبر خطأ القاضي أكثر صور الأخطاء القضائية إثارة للجدل بالنظر لخصوصية المهمة المنوطة به ألا وهي تطبيق القانون، وهو تطبيق قد يتجاوز حدود النص القانوني تأويلا وتفسيرا واجتهادا، كما أنه قد يلجأ فيه إلى استعمال السلطة التقديرية الممنوحة له قانونا، الشيء الذي يعرض القاضي للنقد، من طرف كل من لم يرقه الحكم الصادر عنه، ويزيد من حالة الاستياء التشكيك الدائم والممنهج من طرف بعض وسائل الإعلام في مصداقية القضاء بسبب حالات فردية بالرشوة والفساد فتتأثرا سلبا صورة القضاء الوطني لدى المتقاضين وتهتز ثقتهم به.
إن الدستور الجديد اعتبر في الفصل 109 منه أن كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد يعد خطأ مهنيا جسيما بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة، وهو توجه يحتم على المشرع المغربي استلهام روح الدستور وتنزيل هذه المقتضيات بالشكل الصحيح الذي يحقق خضوع الجميع للمساءلة والمحاسبة دون أي استثناء.
وتكون مسؤولية الدولة عن الخطأ المنسوب للقاضي في غالب الأحوال مسؤولية غير مباشرة في حال ثبوت المسؤولية المدنية الشخصية للقاضي اثر دعوى المخاصمة المقامة في مواجهته. فكما هو معلوم نظم المشرع المغربي مسؤولية القاضي المدنية عن الإخلال بمقتضيات منصبه في الفصل 81 من قانون الالتزامات والعقود حيث نص على ما يلي: “القاضي الذي يخل بمقتضيات منصبه يسأل مدنيا عن هذا الإخلال في مواجهة الشخص المضرور في الحالات التي تجوز فيها مخاصمته”.
وبذلك يكون المشرع قد أقر مبدأ المسؤولية المدنية الشخصية للقاضي عن الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها أثناء قيامه بأداء مهام وظيفته غير أنه قصرها على الحالات التي يكون فيها محل لمخاصمته، وهي الحالات التي تعرض لها الفصل 391 من قانون المسطرة المدنية.
وتخضع مسؤولية القاضي عند ثبوت حالات المخاصمة لقواعد اختصاص استثنائية، فقد منح المشرع المغربي اختصاص البت في دعوى المخاصمة للمجلس الأعلى سابقا محكمة النقض وفق التسمية الجديدة حيث نص في الفصل 395 منه على ما يلي: ترفع مخاصمة القضاة إلى المجلس الأعلى سابقا.
ونرى أنه ما دام أن المشرع المغربي لم يدرج الخطأ المهني الجسيم ضمن حالات المخاصمة فيبقى بالإمكان عند تحقق صور الخطأ المهني الجسيم وفق التحديد المشار إليه، تحميل المسؤولية للدولة باعتباره خطأ إداريا يرتبط بالسير المعيب لمرفق القضاء إن كان يخرج عن نطاق حالات المخاصمة، على أساس أنها مسؤولة عن سوء اختيار قضاتها وكذا عن عدم توفير ظروف العمل المواتية التي من شأنها الحد من حالات الأخطاء الناجمة عن كثرة القضايا وعدم توفير الموارد البشرية والمادية الكافية للبت في القضايا المتزايدة المعروضة على أنظار القضاة بمختلف المحاكم.
ومن جهة أخرى نص الدستور الجديد في الفصل 109 منه على أن كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد يعد خطأ مهنيا جسيما بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة، وهو توجه يحتم على المشرع المغربي استلهام روح الدستور وتنزيل هذه المقتضيات بالشكل الصحيح الذي يحقق خضوع الجميع للمساءلة والمحاسبة دون أي استثناء مع توفير كافة الضمانات القانونية لحماية استقلالية القاضي وتجرده.
وختاما يمكن القول بأن الخطأ القضائي المقصود في النص الدستوري يشمل كل الصور المرتبطة بسوء سير مرفق القضاء على اعتبار أن العملية القضائية هي عملية مركبة وتتداخل فيها عدة أجهزة تساهم كل منها في جودة الحكم القضائي وقانونيته وعدالته، خلافا للفهم الذي رسخ لدى البعض من خلال قصره على خطأ القاضي في تطبيق النص القانوني المجسد من خلال الحكم القضائي، في حماسة شديدة لا تبالي بعواقب التوسع غير المبرر في نسبة المسؤولية للدولة عن أخطاء القاضي، التي يبقى الأصل فيها هو مسؤوليته المدنية الشخصية، حماية للأمن القانوني والقضائي، إذ لا ينبغي أن تخضع مسألة هامة كهذه لأي شكل من أشكال المزايدات أو التنازلات إرضاء لجهات قد يكون سندها حقوقي بامتياز لكنها تغفل عن آثار وعواقب مثل هذه التوجهات التي تؤثر في النهاية على مصداقية الجهاز القضائي وتمس باستقلاليته، مما يستوجب من القضاء التحلي بروح المسؤولية وهو بصدد تنزيل أحكام الدستور على القضايا المعروضة عليه، ومن المشرع الإسراع ببلورة المبادئ الدستورية في شكل نصوص قانونية تواكب التطورات التشريعية الحقوقية الدولية.
بقلم: مراد علوي