الكاتب والباحث محمد أمسكان: الأمازيغ اليهود يرجع وجودهم في المغرب إلى ما قبل الإسلام وهناك شواهد تاريخية على ذلك

هو قليل الظهور، لا يحب الحديث مع الصحافة، يشتغل كثيرا ولكن في صمت. لا يمكن أن تبحث في ثقافة المغاربة اليهود دون الاعتماد عليه كمرجع، خصوصا في الجانب الموسيقي. محمد أمسكان، كاتب وباحث وصحفي، هو أحد أهم الأقلام الجيدة التي تكتب باللغة الفرنسية في المغرب، وهو ملم بثقافة المغاربة اليهود. التقت جريدة “بيان اليوم” بأمسكان أثناء حضورها لتغطية فعاليات مهرجان الأندلسيات الأطلسية بالصويرة، ولم تفوت فرصة إجراء حوار معه، للحديث عن المهرجان، الذي كان يشغل منصب مدير فني له، وكذا عن المغاربة اليهود وأهمية الحفاظ على ذاكرتهم.

< أستاذ أمسكان حدثنا قليلا عن تاريخ مدينة الصويرة في باب التعايش والانفتاح؟
> مهرجان الأندلسيات الأطلسية هو مهرجان متميز، وتحتضنه مدينة من المدن المتميزة عالميا، ولديها تاريخ عريق، ومعروفة بالتعايش وانفتاحها على العالم، وذلك منذ تأسيسها من طرف السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله. إذن فالصويرة هي بامتياز مدينة الفن والثقافة، والصويريون متميزون من بين سكان المغرب بالانفتاح على الآخر والمرح والحيوية.. والمدينة منذ تأسيسها وتاريخها يشهد لها بذلك.

< أنت دائم الحضور لمهرجان الأندلسيات الأطلسية الذي يقام بمدينة الصويرة، وقد كنت مديرا فنيا للمهرجان. حدثنا قليلا عن هذا الحدث الثقافي الفني؟
> هناك من يعتقد أن الصويرة لا علاقة لها بالموسيقى الأندلسية، وحينما تأسس المهرجان، مجموعة من الأشخاص استغربوا، على اعتبار أن المهرجان يجب أن يكون في فاس أو الرباط أو تطوان.. المدن المعروفة باحتضانها للموريسكيين وبالموسيقى الأندلسية. لكن القارئ لتاريخ الصويرة أو أسفي مثلا، سيجد أن للموسيقى الأندلسية تاريخا كبيرا في هاتين المدينتين، وكان لديهما شيوخ كبار ومنهم شيوخ من المغاربة اليهود مثل دافيد إفلاح الذي كان حاخاما في مدينة الصويرة، وكانت مجموعة من أسماء أخرى أو يمكن القول مدرسة للموسيقى الأندلسية في الصويرة. هذا المهرجان، يرد الاعتبار لهؤلاء الأشخاص ولهذا التاريخ ويستقبل فنانين لهم علاقة بالموسيقى الأندلسية. فالصويرة تنحدر منها أسماء وازنة في المجال الموسيقي مثل الفنان عبد الرحيم الصويري الذي كان والده مؤذنا وكانت له علاقة بمجموعة من الفنانين من الطائفة اليهودية. المهرجان، أيضا، يدعو فنانين لهم علاقة بالموسيقى الإسبانية الفلامنكو، وكما تعرفين المغرب له علاقات تاريخية مع إسبانيا بالرغم من المشاكل التي تقع بين الفينة والأخرى.

< هل يمكن أن تحدثنا عن بدايات اهتمامكم بثقافة المغاربة اليهود؟
> يمكن أن أحدثك ساعات عن هذا الأمر (يبتسم). في الحقيقة، هذا الاهتمام بدأ منذ الطفولة، لأنني خلقت في بيئة عشت فيها مع اليهود، وكنا نتقاسم مع بعضنا البعض كل شيء، بداية من منطقتنا في ورزازات، وهنا أقصد الأمازيغ اليهود، في كل دوار من الدواوير كان هناك ملاح يعيش فيه أمازيغ يهود، يلبسون مثل الأمازيغ المسلمين ويغنون مثلهم. يوم السوق مثلا، لا يمكن أن تفرق بين اليهودي والمسلم. حتى أن أغلبية اليهود لم يكونوا يعرفون العبرية، فقط الحزان من كان يعرفها قليلا. اشتغل والدي، أيضا، مع مجموعة من اليهود حينما انتقلنا للعيش في مراكش، وكانت تأتينا “السخينة” كل يوم سبت (يوم الشبات).. في الدار البيضاء، أيضا، كنت أعيش في مكان وسط المدينة كان فيه يهود كثر، كل العمارات كانت فيها عائلات مغربية يهودية. لم نكن نتساءل حينها، هل هذا يهودي وهذا مسلم. أذكر أنه حينما ذهب جدي إلى الحج عام 1954، وعند عودته نزل في الدار البيضاء، والسيارة التي أتى بها من الدار البيضاء إلى مراكش كانت سيارة لمغاربة يهود نعرفهم، وحينما وصل مراكش استقبلته النساء اليهوديات بالزغاريت.. وظلت علاقتي مع اليهود إلى يومنا هذا علاقة احترام وصداقة. أحب أن أوضح أنه لا علاقة لي بإسرائيل، ولم أذهب لها يوما ولن أذهب. أنا مهتم وأبحث بذاكرة المغاربة اليهود والجانب الثقافي الخاص بهم (الكتابة، الغناء، الطبخ..).

<بصفتكم باحثا في ثقافة المغاربة اليهود، حدثنا عن خصوصية المكون العبري وسط المجتمع المغربي؟
> في الحقيقة، ليس هناك فرق بين المغاربة اليهود والمغاربة المسلمين، المغاربة اليهود جزء لا يتجزأ من الشعب المغربي، طقوسهم ولباسهم وغناؤهم ومخيالهم، يبقى الفرق في الأكل، يجب أن يكون اللحم مذبوحا من طرف الحزان.. لكن فقط بالنسبة لليهود المتدينين والملتزمين، وأيضا، الجانب الديني وطقوسه، وكذلك الغناء الديني للكنس اليهودية التي هي عبارة عن مجموعة من الأشعار الدينية تغنى في الأعياد وفي “الباكاشوت” والسبت صباحا (يوم الشبات) وهي أغان كلها بالعبرية ولكن على أوزان الموسيقى الأندلسية. فعندما نرى مغربيا مسلما ومغربيا يهوديا يغنيان بالعربية والعبرية لن نستطيع التفريق بينهما، لأن الميزان والوزن و”الصنعة” هي واحدة. هناك مؤرخ مغربي يهودي صويري، رحمه الله، وهو من أكبر المؤرخين الذين ردوا الاعتبار للثقافة المغربية اليهودية وهو حاييم زعفراني، من بين الأعمال التي قام بها، اشتغل على شعر ديني خاص بعيد “بيسح”، واكتشف بأن يهود منطقة تدغة ونواحي ورزازات وتنغير.. كانوا يغنون هاته القصيدة بالأمازيغية، يعني أن المغاربة اليهود كانوا يصلون بالعربية، ويغنون بالأمازيغية، أيضا، في فن الروايس وأحواش.. وهؤلاء هم الأمازيغ اليهود، الذين يرجع وجودهم في المغرب إلى ما قبل الإسلام وما قبل مجيء العرب، وهناك شواهد تاريخية على ذلك.

< هل ترون أن الجيل الجديد من المغاربة اليهود ما زال محافظا على هويته؟
> نعم، فهناك مجموعة من الكتاب مغاربة يهود، مثل أحد الشباب الذين يعيشون في فرنسا، ويدعى روبن باروك، وقد كتب كتابا يحكي فيه قصة جدته بوليت التي لم ترد الخروج من المغرب، وما زالت تعيش في مراكش. ويمكن أن أقول نفس الشيء عن كتاب أخت جاد المالح، جوديت المالح، التي كتبت قصة عائلتها التي أتت من دمنات. بالنسبة لي هذا جانب مهم من الكتابة المغربية التي يكتبها المغاربة اليهود، خصوصا أنهم خرجوا من المغرب لسنوات وسنوات ولكن أولادهم يكتبون، يعني أنهم ما زالوا متشبثين بالمغرب. والشكل الذي ذهب به المغاربة اليهود إلى إسرائيل فيه نقاش “ماتقولش ليا مشاو بخاطرهم”، فقد بيع لهم الوهم بالحملة الصهيونية التي أحدثت حينئذ، وحينما ذهبوا إلى هناك، أخذوا منهم أوراقهم لكي لا يرجعوا وحاولوا أن يجعلوا منهم يهودا أشكيناز. حاولت النخبة الإسرائيلية التي كانت من بولونيا والاتحاد السوفياتي أن تجعل منهم أوربيين، يسمعون الموسيقى الكلاسيكية ويأكلون بالشوكة والسكين ولكنهم ظلوا يهودا مغاربة. والغريب والعجيب أن الجيل الثالث والرابع حاليا يحافظ على ثقافة أجداده. في إسرائيل هناك مدن بها مغاربة فقط مثل أشدود، والمغاربة اليهود يعيشون هناك على الطريقة المغربية في اللباس والموسيقى والأكل.. ويلعبون أدوارا في الحفاظ على الأغنية المغربية، ربما نحن في المغرب لم نفعل مثلهم. لديهم قنوات وإذاعات تذيع الأغنية المغربية القديمة ولديهم أجواق للموسيقى الأندلسية وأعراسهم أعراس على الطريقة المغربية بـ “النكافة”. وكل اليهود لديهم صورة محمد الخامس في منازلهم، لسبب بسيط، هو أنه في الحرب العالمية الثانية، اتخذ محمد بن يوسف موقفا جريئا ضد النازية، وقال بأن اليهود أولاده ومثلهم مثل المسلمين ولا فرق بينهم.

< كيف يمكن الحفاظ على ثقافة المغاربة اليهود داخل المغرب؟
> حينما خرج اليهود من المغرب، اندثر هذا الجانب من الثقافة اليهودية، وبقي فقط المهتمون والباحثون في الجامعات يشتغلون على هذا الموضوع، لكني أرى أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا كبيرا في إعادة إحياء هذا التواصل، فقد صار المغاربة المسلمون يتواصلون مع المغاربة اليهود أينما كانوا، وبدأت الموسيقى تظهر، والمغاربة يكتشفون ما يسمى بـ “الشكوري”، الذي دائما يغنى لكن لا نعرف من يغنيه.. كانت مجموعة من الأسماء المغربية تلعب هذا الدور من بينها محمد بنعمر الزياني.. لكن الجيل الثاني والثالث من المغاربة اليهود في إسرائيل بدؤوا يهتمون بهذا الموضوع.

< في نظركم لماذا المغربي أينما ذهب يظل محافظا على هويته؟ هل يعتبرها كدرع يحميه من الضياع الهوياتي وسط هويات أخرى؟
> أولا حينما نقول مغربي لا يجب أن نقول هذا مسلم وهذا يهودي، هو مغربي فقط، المغربي اليهودي مثله مثل المغربي المسلم، حينما يهاجر لن ينسى “الدواز” و”أتاي” و”الطنجية”، وأعتقد أن الهجرة تجعلك تكتشف بلدك أكثر، وتشعل الحنين بداخلك أكثر.. اليهودي في كندا يرتدي “الفوقية” و”الدراعية” ويجلس على “السداري” ويشرب “الأتاي” ويسمع الموسيقى الأندلسية أو “العيطة”… لأنه يجد فيها ذاته.

< كيف يمكن التفرقة بين الصهيونية التي تقود حاليا حرب الإبادة في غزة وبين الثقافة المغربية اليهودية؟
> في المغرب، لم يكن هناك مشكل بين المسلمين واليهود، هناك بعض الحالات الاستثنائية تاريخيا في فترات الفوضى. ولكي نكون واضحين، المشكل افتعلته إسرائيل، وأيضا تيارات القومية العربية لعبت دورا في التجييش. حينما أخذنا الاستقلال في المغرب عام 1956، سنجد أن أهم مناصب الدولة المغربية أخذها اليهود، فقد كانوا الأوائل في كل ميدان سواء في الطب أو المحاماة.. وهذا ليس لأنهم أذكياء بل لأنهم درسوا قبل المسلمين، لأن الرابطة الإسرائيلية أحدثت مدارس عصرية في المغرب وأولها في تطوان في القرن التاسع عشر، فمن الطبيعي أن يأخذ اليهودي المناصب الأولى لأنه درس مبكرا. للأسف، أعتقد أن المغرب خسر هاته الكفاءات وهاته النخبة الكبيرة حينما رحلت، ويلزملنا دراسات تاريخية تميط اللثام عن هذا الموضوع لنعرف أكثر قيمة النخبة التي رحلت في ذلك الوقت. هاته النخبة لم تذهب إلى إسرائيل، بل إلى فرنسا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، ومن رحل إلى إسرائيل هم المغاربة اليهود العاديين لكي يموتوا، فقد كانوا في الصفوف الأمامية في الحروب.. هؤلاء اليهود كانوا يعيشون بخير يغنون أحواش.. ثم فجأة تم ترحيلهم ورميهم في صحراء قاحلة، وكثير منهم لم يستطيعوا التأقلم مع الوضع هناك، وما قالوه لهم مجرد دعاية من الصهاينة. لكن المغرب لعب دورا كبيرا في الحفاظ على ذاكرة المغاربة اليهود، كان هناك عمل جبار من طرف صاحب الجلالة في هذا الإطار، من خلال ترميم مقابر اليهود والأولياء وكذلك إنشاء متاحف خاصة بالثقافة اليهودية. اليهود حينما يرون بأن بلادهم لم تتنكر لهم وما زالت محافظة على قبور أمواتهم وذاكرتهم، ازداد العطف أكثر من ناحيتهم اتجاه بلدهم المغرب. وكنا ننتظر بعد التطبيع مجيء العديد من المغاربة اليهود إلى المغرب.. حاليا الكثير من الأمور تعقدت بسبب الحرب في غزة، وأظن أن المغرب خسر في هاته الحرب، لأنه خسر نقاش التعايش، فمن الصعب الحديث عن هاته الأمور في ظل الأوضاع الحالية.

< حاورته: سارة صبري

Top