المتحولون دينيا.. بين مطرقة الاعتراف وسندان التعايش

  لعبت العولمة والتطور التكنولوجي في السنوات الأخيرة دورا هاما في جعل ظاهرة التحول الديني تطفو على السطح، جاعلة إياها محط نقاش في الصالونات الثقافية والسياسة والحقوقية، مما يدل على ديناميكية وتحول وانتقال في الحقل الديني. ولعل هذا ما يفسر خروج العديد من المتحولين دينيا إلى العلن، كاسرين جدار الصمت والخوف في ظل مجتمع يرى في من غير معتقده الإسلامي مرتدا يقام عليه الحد.
يشهد المغرب في الآونة الأخيرة زوبعة واسعة وجدلا مستمرا حول حقوق الأقليات الدينية، إذ تعرف منصات التواصل الاجتماعي نقاشات وسجالات حول حرية الضمير والمعتقد، وهو ما دفع بنشطاء اللجنة المغربية للأقليات الدينية إلى تنظيم مؤتمرها الأول، بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط في نونبر المنصرم؛ ليتوج بإعلان الرباط الذي وجه انتقادات حادة للسلطات، داعيا إياها إلى الوفاء العاجل بالتزاماتها الدولية إزاء حريات ممارسة الشعائر الدينية، ووضح خطوات واضحة لتنفيذها وتنزيلها في الأجل القريب.
هي حرب باردة تدور رحاها بين الأقليات الدينية نفسها و مع الدولة أيضا، حيث رفضت السلطات المغربية استلام ملف تأسيس جمعية الأقليات الدينية، في حين دعا نائب برلماني عن حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى منع المؤتمر التأسيسي، واصفا الخطوة بأنها اختراق سياسي للمغرب عبر ملف الأقليات الدينية؛ بالمقابل رفض مسيحيون وأحمديون وشيعة أعضاء « منتدى حرية المعتقد والفكر في المغرب»، الانضمام إلى الإطار التنظيمي الجديد بسبب غياب الشفافية والوضوح وعدم إشراك من يهمهم الأمر، مما يؤشر على تعارض الرؤى في صفوف الأقليات الدينية بالمغرب.
اهتمامنا بهذا الموضوع هو استجابة لأسئلة كثيرة تدور في ذهن المغاربة حول من غير ديانته وكذا رغبة منا في تشريح ظاهرة تغيير المعتقد وتبديد سوء الفهم بين الطرفين. وقد شجعنا على القيام بهذا العمل وعينا بضرورة تسليط الضوء على الظواهر الاجتماعية الملاحظة ونقلها للقارئ بكل مهنية وتجرد.
ستحاول بيان اليوم من خلال هذا التحقيق الكشف عن الأسباب التي تدفع الفرد إلى تغيير ديانته، منطلقيين من فرضيات؛ هل القلق العقائدي قد يؤدي إلى تغيير المعتقد؟ أم أن الخطاب الديني هو من يدفع إلى التحول نحو دين آخر؟ أم أن الأسرة هي من تتحمل مسؤولية تحول الفرد نحو رسالة سماوية أخرى؟
من أجل ذلك، سنتطرق لمفهوم الأقليات الدينية كمرحلة أولى ثم نناقش حرية المعتقد والضمير في القانون المغربي مع الباحث والكاتب المغربي سعيد نشيد، بعدها نلتقي مع كل من عمر المسيحي ومحمد الشيعي ليحكوا لنا عن عن بداية قلقهما العقائدي وكيف انتقلا إلى المعتقد الآخر مع الأسباب الكامنة وراء ذلك، وأخيرا سنستكشف إمكانية تأثير الوسط الاجتماعي في المتحول دينيا وأيضا دور الخطاب الديني في هذا التحول.

حرية الضمير والمعتقد

أكد أعضاء منتدى حرية المعتقد والفكر في المغرب، والذي يضم مسيحيين وأحمديين وشيعة مغاربة في بيان صادر عنهم، تحفظهم على مصطلح «الأقليات»، إذ أكدوا على هويتهم كمواطنين مغاربة رغم اختلاف توجهاتهم الفكرية والعقدية، كما أوضحوا بأن بعض الجهات الأجنبية تحاول الترويج لهذا المصطلح في المغرب، محذرين من كون الهدف من ذلك «ضرب صف وحدة المغاربة».
الأقليات هي مجموعات بشرية ذات سمات وخصائص تختلف عن مثيلاتها في مجتمع الأكثرية، ولكل أقلية منها سمات قومية أو إثنية أو دينية مشتركة بين أفرادها. تختلف الأقليات فيما بينها نوعاً وهوية وانتماء، كما تأخذ تسميات مختلفة مثل: جالية أو فئة أو طائفة أو ملة أو فرقة أو مجموعة وغيرها من تسميات تدل في الغالب على جذور الأقلية وأصولها، وهويتها الاجتماعية والبشرية.
يعرف المفكر والباحث المغربي سعيد ناشيد الأقلية الدينية على أنها: «مفهوم نظري تبلور في غضون النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك في سياق حاجة الحضارة المعاصرة إلى مواجهة الأنظمة الشمولية (النازية الألمانية، الفاشية الإيطالية، الستالينية الروسية، إلخ)». مضيفا أن: «مفهوم الأقليات الدينية في واقع الأمر يدل على كل المجموعات ذات الصبغة الدينية أو المذهبية أو الطائفية والتي يمثل مجموع أعضائها أقل من نصف عدد السكان». ويزيد: «لكن التوجه الدولي اليوم أن هذا الشرط نفسه لا يكفي إلا حين يكون الأكثر من النصف الباقون يمثلون أكثرية دينية».
كمثال على ذلك، إذا كانت الديانة «أ» تمثل 40 في المئة، لكن 60 في المئة الباقية تتألف من ثلاث او أربع ديانات ولا تتعدى أي واحدة منها 20 في المئة مثلا، ففي هذه الحالة فإن الديانة «أ» رغم أنها تمثل أقل من نصف السكان إلا أنها ليست أقلية؛ مما يعني أن الأقلية الدينية لا يمكن تعريفها كأقلية إلا في مواجهة أكثرية دينية واضحة.
وعموما للأقليات الدينية حقوق تكفلها القوانين والمواثيق الدولية، وعلى رأسها حرية العبادة، على الرغم من ذلك ثمة أسئلة نظرية عالقة ولا يزال النقاش حولها مفتوحا: مثلا، الأقليات التي تعتبر ختان الفتيات واجبا دينيا أو نوعا من العبادة فهل نمنحها هذا الحق باعتباره مندرجا ضمن حرية العبادة؟ والأسئلة كثيرة بالطبع.
وعودة إلى المغرب، ينص الدستور في فصله الخامس والعشرين على أن «حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني مضمونة»، حيث يلاحظ على أنه ينص على حرية الفكر دون الإشارة الى كلمة «الضمير أو الدين»، على الرغم من أن بعض المسودات تضمنتها، إلا أنه تم حذفها من الدستور بسبب ضغوطا مورست من بعض الاحزاب والجهات التي تدين بدين معين.
وفي هذا الصدد يقول سعيد ناشيد: «فعلا ثمة ضغوط مارسها الإسلام السياسي من خلال حزب العدالة والتنمية وذراعها الدعوي حركة التوحيد والإصلاح قصد التراجع عن مستوى الحريات الدينية كما ظهر في أولى مسودات الدستور، وعموما فإن المغرب يعيش حالة من الهشاشة الحقوقية بفعل الضغط الدائم الذي تمارسه القوى المحافظ».
وإذا رجعنا إلى «الفصل 220» من القانون الجنائي المغربي، نجده يشير إلى أن «من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك ، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم»، و»يعاقب بنفس العقوبة من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أوالمياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات».
وإن كان الدستور لا ينص اليوم صراحة على حرية العقيدة، فإن القانون لا يمنع بشكل صريح تغيير أي مواطن مغربي للدين الإسلامي السني من تلقاء نفسه، بل يعاقب فقط كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، كما أن الفصل المذكور من القانون الجنائي يوحي في طياته بأنه يتحدث عن الأطفال بدرجة أولى والفقراء بدرجة ثانية ومحاولة استهدافهم لاعتناق دين آخر غير الإسلام.
هذا التحليل يؤكده الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بفاس سنة 2014، عندما حكمت ببراءة محمد البلدي، الذي كان متهما بزعزعة عقيدة مسلم بسبب اعتناقه للدين المسيحي، بعدما اتضح لهيأة المحكمة أن الشخص المذكور غير ديانته من تلقاء نفسه ولم يسعى إلى نشرها، وسجل حينها القاضي الطيب الخياري، رئيس غرفة الجنايات الاستئنافية بمحكمة الاستئناف بفاس، صاحب هذا الاجتهاد القضائي، سابقة قانونية تدعم حرية التدين وإظهار المعتقد في المغرب عبر اعتماد قراءة غير متشددة للفصل 220 من القانون الجنائي.

رحلة القلق العقائدي

ذكر تقرير حديث صادر عن الخارجية الأمريكية أن غالبية سكان المغرب مسلمون بنسبة 99 بالمائة، في حين يمثل الشيعة 0,1 بالمائة، ونسبة أقل من واحد بالمائة تضم مسيحيين ويهود وبهائيين. حيث يبلغ عدد اليهود بالمغرب ما بين 3000 إلى 4000 يهودي، يقيم منهم 2500 بمدينة الدارالبيضاء، فيما يتوزع الآخرون بكل من الرباط ومراكش ومدن أخرى، بينما يصل عدد المسيحيين بحس التقرير إلى ما بين 2000 و6000 مواطن مسيحي، على الرغم من أن رجال الدين يؤكدون أن عددهم يصل إلى 50000 مسيحي.
أما الشيعة فيرجع التقرير عددهم ما بين 1000 و2000 شيعي مقيم، أغلبهم يقطنون بشمال المغرب وينحدرون من بلدان لبنان، سوريا والعراق، أما فيما يخص الديانة الأحمدية فيؤكد التقرير أن لهم حضورا في الساحة الدينية المغربي، إذ يقدر عددهم بـ 600 فيما يصل منتسبو الطائفة البهائية إلى ما بين 350 و400 عضو موزعين غلى المملكة.
يعرف الدكتور محمد المهدي أستاذ الطب النفسي القلق العقائدي بـ”الفترة الانتقالية التي يتخلى الإنسان فيها عن المسلمات والمعتقدات الدينية التي أخذها عن والديه ولكن في نفس الوقت لم يكون بعد مفاهيم ومعتقدات خاصة به باستخدام قدراته العقلية التجريدية وهنا تحدث فجوة ربما تستمر عدة شهور أو عدة سنوات وخلال هذه الفترة يعاني المراهق من حالة من الخلخلة وعدم الاتزان في الجانب الديني وربما تساوره بعض الشكوك أو حتى يصل إلى حالة من إنكار الثوابت التي تلقاها من والديه ومن مجتمعه لفترة من الوقت أو إلى تغيير المعتقد كليا”.
عمر، 35 عاما، من مواليد مرس السلطان بمدينة الدارالبيضاء، مستخدم بشركة خاصة وحاصل على شاهدة الماستر في الدراسات الإسلامية من جامعة الحسن الثاني، تحول إلى الديانة المسيحية منذ العام 2000 حين كان عمره وقتها 17 عاما. نشأ في أسرة بين الإسلام واللادين تهتم بالفكر والدين، تأثر بأخيه الأكبر الدارس لأصول الدين الإسلامي، فهو أول من تحدث عن الدين المسيحي مع العائلة عكس عمر الذي كان متحفظا، كمل أن غالبية أسرته الصغيرة الآن مسيحية بالإضافة إلى الأسرة الكبيرة التي تتألف من 35 مسيحي ومسيحية.
وافق عمر على الالتقاء بنا والتحدث لجريدة بيان اليوم بوجه مكشوف، لنضرب معه موعدا بأحد مقاهي عين السبع بالدارالبيضاء، حيث أتى مصحوبا بابنته «ربيكا» أو «رفقة» باللغة العربية، فشرع في الإجابة عن أسئلتنا دون حرج حاكيا لنا عن تحوله الديني. منذ اعتناقه للمسيحية وهو يمارس طقوس التعبد بالبيت (الكنيسة البيتية) حتى سنة 2009؛ بعدها بدأ في ممارسة شعائره الدينية بالكنسية الرسمية كل يوم أحد من الساعد الحادية عشر إلى الساعة الواحدة بعد الزوال، مصحوبا بزوجته وأطفاله وبعض أصدقائه المسيحيين، في حين أن أغلب المغاربة يفضلون التعبد البيت أو الكنيسة البيتية.
يحكي عمر عن مرحلة انتقاله من الإسلام إلى المسيحية، بأن في السنوات العشرين الأولى من عمره كان متمكنا من الدين بحكم الوسط الذي عاش فيه، ويروي لنا بلسانه: « كان أبي سيتقبل كل يوم خميس ضيوفا في البيت بينهم شيوخ للنقاش في الدين والفكر وكان يبعدني عن تلك النقاشات التي تدور بينهم بحكم صغر سني، كان يدور بذهني أسئلة كثيرة وهنا أتذكر حادثة أبوح بها لأول مرة؛ كان أبي وضيوفه يقرؤون سورة النمل وعند تلاوة آية (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، أحسست بشعور غريب».
ويواصل الحكي قائلا: «بعدها سألت والدي عما إذا كان باستطاعة سليمان أن يكلم النمل؟ فأجاب بنعم، وروى على مسامعي قصة سليمان المعروفة ليقف تساؤلي عند هذا الحد دون أن أبحث عن تفسير منطقي»، مثل هذه الأسئلة كبرت مع عمر إلى سن السابعة عشر تقريبا، حينها قرر أن يعود إلى نفس السؤال ويبحث عن معنى الآية في طبعة تفسير ابن كثير التي تعود إلى سنة 1982».
ويضيف: «هذه الطبعة تقول إن النملة التي تكلم معها سليمان اسمها «حدس» أي لها اسم وتعيش في منطقة اسمها شيصان بالعراق وكان حجمها حجم ذئب، هذه الرواية جاءت على لسان راوي اسمه ابن عساكر، وبالتالي فهي رواية صحيحة وثابتة، إلا أن التفاسير التي تبعتها لم تذكر هاته التفاصيل لأكتشف أنها حذفت عمدا».
هذا كان مدخلا من المداخل التي جعلت عمر يشك في المنظومة الثقافية الأسرية التي كان ينتمي إليها، ففي مثل هذا الوقت سنة 1996 كان مسلما متدينا متكبرا ومتحجرا ينتقد المسيحية وهو ليس على علم بها، انتقاد جاء من الوسط الإسلامي، فكان يجادل في المسيحية ويضحد أفكار أصدقائه المسيحين الذين يقرون بذلك، حسب تعبيره.
مرحلة الانتقال هاته لم تكن باليسيرة، حيث عاش فترة بيضاء قبل مروره إلى الدين المسيحي، فكان يقابل أصدقائه المسيحيين دون الغوض في مجادلات حول الدين وذلك لمدة ناهزت السنة ونصف، منزويا على نفسه وعاكفا على دراسة المعتقدات كل مساء، ليقرر بعدها أن المسيحية هي الحق.
توجهت عائلة أحد أصدقائه المسحيين بدعوته إلى بيته وسط أسرته الصغيرة، فقبل الدعوة. قبل مباشرة الطعام بدأ أفراد الأسرة بالصلاة وبدأ ابن رب الأسرة يبكي من أجله في صلاته لينخرط جميع أفراد الأسرة في البكاء خوفا عليه وهم يتلون دعوات هداية له؛ فأثر هذا الموقف فيه كثيرا، واصفا الموقف: «كيف يبكي طفل من أجلي لا تربطني به أي علاقة؟»، هنا حسم قراره باعتناق المسيحية بصفة رسمية.
عندما سألنا عمرعن الأسباب التي دفعته إلى أن يعيد تفكيره في المعتقد قال: «السؤال الحقيقي هو هل كنت أعتقد أصلا أم لا، إذا كانت الإجابة بنعم فهذا يعني أنه وجد خللا ما في معتقده فبحث عن معتقد آخر كبديل، وعلى العموم وحسب تقديري فإن غالبية الأشخاص الذين غيروا إلى المسيحية هم أشخاص قاموا بدراسات وأبحاث عن هذا الدين فوجدوه أقرب إلى منطقهم وبالتالي آمنوا به».
يرى الأستاذ ناشيد منطق عمر صحيحا: «عندما يفكر الفرد في تغيير عقيدته فهذا يعني أن عقيدته الأصلية لم تعد تقنعه، أو على الأرجح أن الطريقة التي قدمت له بها هي التي لم تعد تقنعه. فالأمر يتعلق بتجربة شخصية تختلف ملامحها من شخص لآخر، فحين يختار أي فرد ترك ديانة النشأة أو الولادة، واختيار ديانة جديدة لم يفرضها عليه القانون أو السلطة أو الأهل أو المجتمع، فإنه يشعر في ذات الوقت بأنه يحقق نوعا الفردانية، وسرعة التحول الديني تفسرها ثلاث متغيرات اجتماعية حديثة العهد: قوة النزوع إلى الفردانية، قوة تأثير العوالم الافتراضية، وضعف الإجابات الدينية التقليدية أمام وثيرة التقدم العلمي لا سيما في مجال البيولوجيا الحديثة.
أما محمد، البالغ 30 عاما، شيعي مغربي، والذي يحضر حاليا دكتوراه في موضوع هيكلة الحقل الديني بالمغرب؛ التقيناه بحي البرنوصي وحكي لنا أن انفتاحه على المذهب الشيعي كان من بوابة التاريخ، كونه من عاشقي الكتب التاريخية، الشيء الذي خلف لديه نوعا من الشك وبدأت تدب في ذهنه أسئلة حول قضايا خلافية ومحطات صادمة كحادث السقيفة ومعركة الجمل التي دارت بين الصحابة وأيضا كيف تحولت الخلافة الإسلامية إلى ملكية .
وعلى عكس عمر، فبالنسبة لمحمد مرحلة الانتقال لم تكن صعبة فهو لحد الآن يصلي مع السنة في المسجد ولا يجد مشكلة في ذلك، ويروي عن تشيعه أو استبصاره كما يقول الشيعة: «كنت من المنتسبين لجماعة العدل والإحسان، حيث أشار الشيخ عبد السلام في إحدى كتبه عن الثورة الخمينية وبعض أئمة أهل البيت وهي أسماء غائبة في الفكر السني، كما كان ينادي بالتقريب بين المذاهب ولا أنكر أن الرجل أثر في كثيرا».
يرى محمد أن سبب تشيعه هو صدمته عند اطلاعه على التاريخ الإسلامي، إذ حكى لنا أنه دأب في السابق على بيع الكتب الدينية قرب المسجد، وكان هناك شخص شيعي ينتقد الكتب التي يبيعها فيدخل معه في حوارات ونقاشات إلى أن تطورت العلاقة وأصبح يأتي له بكتب دخلت من العراق ولبنان لسنة تحولوا إلى شيعة ككتاب» ثم اهتديت» و»لأكون مع الصادقين»، من هنا بدأ الانفتاح والاطلاع على بعض التناقضات خصوصا كتاب» السيف والسياسة» الذي يتكلم عن أبرز محطات الخلفاء والأمويين وكيف تم اضطهاد آل البيت.

دور الأسرة في تغيير الفرد لمعتقده

قبل عامين، أقدم مغاربة مسيحيون «متحولون» على نشر فيديوهات لهم على المواقع الإلكترونية بوجوه مكشوفة قصد الدفاع عن حقوقهم باعتبارهم أقليات دينية. خطوة أعادت الجدل بشأن حرية العقيدة، حيث ذكر تقرير الخارجية الأمريكية حول الحالة الدينية بالمغرب أن الحكومة اعتقلت واستجوبت بعض المغاربة المسيحييت حول اعتقاداتهم واتصالاتهم وضغطت على آخرين للتخلي عن معتقداتهم، بالإضافة إلى التضييق على الشيعة والبهائيين، الأمر الذي اضطر هؤلاء إلى عقد اجتماعاتهم وممارسة شعائرهم في سرية وخوف.
«تغيير الفرد لديانته هو في حد ذاته المظهر الأكثر حدة في التعبير عن استقلال الفرد عن أسرته. لأن الأسرة لا تقبل في العادة غير ديانة الولادة وديانة المنشأ. لذلك من الطبيعي ألا ترحب معظم الأسر بقرار أحد أبنائها بتغيير ديانته».
عمر المسيحي تحدثت لنا عن دور الأسرة في التحول الديني، قائلا: «أنا لا أفرض على أبنائي أي معتقد وهم صغار ولكن سأترك لهم حرية الاختيار، فالسليم هو أن تربي أبنائي على أسس الثقافة الدينية، والدليل على كلامي، لو ولدت في الهند سأكون اليوم إما هندوسيا أو بوذيا لا مسلما ولا مسيحيا لذا أقول إن أغلبية المسلمين اليوم هم مسلمون بحكم الجغرافيا لا باعتقادهم بالإسلام».
محمد الشيعي يشدد على أن الأسرة لها دور كبير في التأثير في التنشئة الاجتماعية للفرد، غير أن بالنسبة لحالته فأسرته لا تناقشه في معتقداته كون والديه أميين، فهو مسؤول عن نفسه ويتحمل مسؤولية قراراته، معترفا بأن الأسرة قد لا تكون هي السبب في التحول الديني لأبنائها، لكنها بعدم اكتراثها بهم وقضاء الوقت اللازم معهم ومحاولة سد احتياجاتهم والتعامل مع مشكلاتهم، خصوصا في مرحلة المراهقة، فهي بذلك تهيئ الظروف المناسبة لتحولهم، فهي لا تسيطر على كافة المدخلات الفكرية والإيديولوجية التي يتعرض لها الأبناء.

سلطة الخطاب الديني

للخطاب الديني مقومات وشروط ينبغي التحلي بها ليكون خطاباً صحيحاً سليماً مثمراً، في المقابل هناك مهددات وأمور سلبيَّة تسيء إليه وقد تشوِّهه، وهي ذات العوامل التي قد تحرف الشخص عن طريق الوسطية والاعتدال، وتزجُّ به في متاهات الإفراط أو التفريط.
«الخطاب الديني المتشدد ساهم في خلق اضطراب عقائدي لدى الكثير من الشباب، خاصة التيار السلفي الوهابي الذي رمى بالعديد إلى براثين التطرف سواء الإرهاب أو الإلحاد أو تغيير المعتقد والمذهب، بما يتميز به هذا تيار من جمود وعدم اكتراث بالابداع والتفكير وقدف المختلف بالكفر، وأيضا حنينه إلى الماضي وكرهه الحاضر وخوفه من المستقبل؛ وبالتالي هذا الانغلاق والتشدد أدى بكثيرين إلى ردة عكسية» يقول محمد الشيعي.
الأستاذ ناشيد أكد بدوره على أن الخطاب الذي يصنعه شيوخ الإسلام وقادة الإسلام السياسي والذي يحرض الناس على الدخول في خصام مع الحياة، هو في حد ذاته نقطة الضعف التي تدفع بالكثير من الشباب نحو الخروج عن الإسلام، والبحث عن بدائل دينية تمنحهم السلام الذي يبحثون عنه، السلام مع الذات، مع الجسد، مع العقل، مع الفرح، مع الفنون الجميلة، ومع العالم المعاصر برمته.

جدل الاعتراف

السلطات المغربية نفسها تتعرض لضغوط دائمة ويومية من طرف القوى السلفية والمحافظة داخل المجتمع، والتي أصبحت تمثل نوعا من اللوبيات داخل دواليب الدولة وهذا ما يجعل الوضع متأرجحا على الدوام بين القابلية للتقدم والقابلية للتراجع.
عمر المسيحي صرح لنا أنه في فترة انتقاله من الإسلام إلى المسيحية مارست السلطات المغربية ضغوطا على المتحولين دينيا، حيث تملك أغلب المسيحيين المغاربة هاجس من ممارسة شعائرهم الدينية في الكنسية الرسمية خوفا من المضايقات، علاة على طلبها منه أثناء دراسته الجامعية أن يمارس طقوسه المسيحية بكل حرية شريطة ألا يقترب من طلبة الجامعة، مؤكدا أن الوضع اليوم تغيير وأًصبح هامش الحرية أكبر.
كما شدد ذات المتحدث على ضرورة الدفاع عن حرية المعتقد لتكوين شخص صالح سواء أكان مسلما أو مسيحيا أو غيره، لأن دور الدين هو تفعيل الأخلاق والقيم، ورافضا اعتبار المسيحين أقلية، فهم يتقاسمون أرض هذا الوطن مع الجميع، أما معتقدهم فهو شيء يخصهم ولا دخل لأي أحد فيه.
بالنسبة لمحمد الشيعي فيؤكد على أن المغاربة متسامحون مع الجميع ولا يجد مشكلة في ممارسة طقوسه لأن الشيعي ليس أقلية بل هو مسلم مثله مثل السني، إضافة إلى أن أهل البيت لهم مكانة خاصة في قلوب المغاربة، مستطردا في قوله: «أنا أصلي في مساجد السنة دائما، وكشيعي مغربي لا أرى ضرورة في إحداث حسينيات شيعية، فكلنا مسلمون نستظل بإمارة المؤمنين».
لعل من الأهمية في ختام هذا التحقيق أن نرصد أهم النتائج التي توصلنا إليها، أولها أنه من الخطأ اعتبار الملحدين واللادينين أقليات دينية. لأن الأقلية الدينية يجب أن تكون دينية، بمعنى لابد من رموز ودلالات من طبيعة دينية تدل على الأقلية الدينية. لكن بعض الدول تعتبر اللادينيين طائفة قائمة الذات لها حقوقها الخاصة، مثل العلمانيين في بلجيكا والذين يُعتبرون بمثابة الطائفة السادسة في البلد بجانب البروتستانت، والكاثوليك، والمسلمين، وإلخ. غير أن اعتبارهم طائفة لا يعني أنهم طائفة دينية، بل طائفة اجتماعية من حيث حفظ حقوقها في نظام يعتبر أن العلمانية معناها أن تتعامل الدولة على قدم المساواة مع كل الأديان، خلاف العلمانية الفرنسية التي تعني الفصل التام بين الدولة والأديان.
ثانيا من خلال المقابلات مع المشاركيين في التحقيق اتضح لنا أن الأسرة لها دور كبير في تغيير الفرد لديانته كمثال على ذلك المسيحي الذي ماانفك يطرح أسئلة تقلقه على والده منذ صغره دون أن يجد إجابة شافية الأمر الذي دفعه إلى البحث في ديانة أخرى عما يرضي فضوله، أما الخطاب الديني المتشدد فكان له تأثير عكسي فلم يؤدي إلى هداية الناس إلى الطريق المستقيم كما يعتقد أصحابه بل هناك من ألحد بسببه أو تحول إلى مذهب مغاير كما حدث مع الشيعي الذي «استبصر» وهو مصطلح يستخدمه الشيعة للدلالة عن من كان سنيا وأصبح شيعيا.
ثالثا، أجمع المشاركون في التحقيق على أن مرحلة التحول الديني لديهما كانت طويلة ودامت لسنوات ولم تكن بين ليلة وضحاها ولا باليسيرة، حيث كانت الرحلة عبارة عن بحث مضن ودراسة مكثفة من أجل الوصول إلى راحة روحية سبقها إبحار في أمواج مجلدات وأمهات الكتب، ليصلوا بعد لأي إلى ما هم عليه الآن.
كانت هذه أهم نتائج التحقيق، وللإشارة لم نكن نتخيل كأشخاص أن هؤلاء المتحولون دينيا متعصبون أو أفظاظ في حين لمسنا فيهم أناس مستعدين للحوار، منفتحين على الآخر ومتحمسين للقاءات في المستقبل، يأملون في أن يتقبل المجتمع الاختلافات الدينية المتغيرة بتغير الاحتياجات المجتمعية لأن الدين لله والوطن للجميع.

> إنجاز: أنس البشارة (صحافي متدرب)

Related posts

Top