الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 7-

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

  • التوسع في شبكات التجارة الدولية وبناء خطوط السكك الحديدية أدى إلى انهيار خطوط المقاومة الطبيعية ضد الأمراض

كانت هذه المجموعات السكانية التي تقطن بالمناطق الداخلية تملك مناعة قوية ضد الأنواع المختلفة من المالريا، والتي تأخذها عادة إما من لبن الأم أو من العدوى الخفيفة أو المتوسطة، فعندما تهاجر هذه المجموعات من مناطقها الأصلية فإنها تتعرض لأنواع جديدة من المالريا لا تملك أية مناعة لها. هذه المجموعات تعرضت للموت في بيئتها الجديدة في إفريقيا نتيجة للإصابة الشديدة بالأنواع الجديدة من السكانية المحلية التي لم تكن تعرفها من قبل.

وقد أدى التوسع في شبكات التجارة الدولية وبناء خطوط السكك الحديدية إلى انهيار شبكات التجارة القديمة، وإلى انهيار خطوط المقاومة الطبيعية ضد الأمراض المتوطنة نتيجة لانتقال مسببات الأمراض بسرعة كبيرة لا تمكن شعوب هذه المناطق من بناء مناعة على مدى فترة زمنية معقولة، كما كان الحال في السابق. فقد كان نظام حركة التجارة القديم يجری بنظام من التتابعات، حيث تحمل المنتجات عبر كل إقليم مجموعة عرقية ما بواسطة أفراد تلك المجموعة، ومن ثم عند الحدود يقومون بتسليمها لتجار من المجموعة العرقية المجاورة، وهكذا دواليك. فقد كانت قبائل الطوارق التي تنتشر على مساحة واسعة من جنوب الجزائر تعيش على تجارة الملح ونقله من سواحل الجزائر إلى المناطق الشمالية الداخلية لإفريقيا جنوب الصحراء، مثل مالي وإفريقيا الوسطى، في مقابل منتجات هذه المناطق مثل العاج وريش النعام والمعادن.

وكانت هذه الشبكات الداخلية للتجارة تملك خطوط دفاع طبيعية ضد الأمراض نشأت على فترات طويلة من الزمن. وقد أدى إنشاء الشبكات الجديدة للتجارة إلى اختراق هذا النظام القديم وتدميره. ومثال على ذلك، ففي عام 1907- 1909. تم بناء خط السكة الحديد بين لاجوس في نيجيريا ومدينة ايلورين التي تبعد 400 كلمتر شمالا. وهو ما أدى إلى توسيع جبهة الإصابة بأمراض جديدة لم تكن شعوب هذه المناطق قد تمكنت من بناء مناعة طبيعية ضدها بعد .

  • علم الأوبئة العربي في أوربا

كما بينا من قبل فالعنوان الأساسي لهذا الكتاب هو الأوبئة والتاريخ، وبذلك كان أحد الأهداف الأساسية للكتاب هو دراسة نمط الاستجابة للأوبئة في المجتمعات الأوربية التي أخذت بأساليب العلم الحديث، وفي المجتمعات القديمة (الهند والصين ومصر)، لسبعة من الأوبئة التي حصدت أرواح الملايين من البشر على مدى تاريخ امتد لستة قرون، فالجدري والإنفلونزا والحصبة والتيفوس والملاريا والجذام والكوليرا والطاعون الدملی کانت كلها أوبئة موجودة بالهند والصين منذ عهود بعيدة، ولكن نتيجة لحركة انتقال البشر السلمية (حركة التجار والتجارة) أو العدوانية مثل الغزو الاستعماري لإفريقيا والأمريكتين، أو حركة الانتقال القهري لعبيد إفريقيا – فقد انتقلت الأوينة إلى أماكن وشعوب جديدة لم تكن موجودة فيها من قبل، مثل إفريقيا والأمريكتين وأوربا نفسها، فشعوب جنوب وغرب أوربا عانت هي نفسها من هذه الأوبئة، كما عانت شعوب إفريقيا وآسيا والأمريكتين. فقد هاجم الطاعون أوربا كما هاجم مصر، وعانت الهند من الكوليرا كمرض متوطن كما عانت إنجلترا منه كوباء وعانت الصين من الجدري الذي انتقل إلى أوربا والأمريكتين، وعانت إفريقيا جنوب الصحراء من مرضى الملاريا والحمى الصفراء اللذين حصدا أرواح الملايين من الشعوب الأصلية في الأمريكتين. فالوباء كان على الجانبين، لكن الذي اختلف هو نمط الاستجابة في كلا المجتمعين، المجتمعات الحديثة (أوربا بالأخص والمجتمعات القديمة الهند والصين ومصر).

ويمكن القول هنا إن علم الأوبئة معني بالأساس بالتعامل مع حركة انتقال الكائنات الحية: وبهذا فهو يتعامل مع نوعين من هذه الكائنات، أحدهما هو الكائنات الحية المسببة لهذه الأوبئة، وهي كائنات حية صغيرة جدا غير محسوسة وغير منظورة، أما الكائنات الأخرى فهی کائنات محسوسة ومنظورة تحتل حيزا في المكان. وهم البشر ضحايا هذه الكائنات الأولى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فعلم الأوبئة يتعامل مع حركة هذه الكائنات الحية بنوعيها من حيث هي أعداد كبيرة، فأعدادها لا نهائية في حالة مسببات الأمراض، أو هي الحشود أو الجمهور أو القبائل أوالشعوب في حالة الكائنات البشرية.

وفي معرض نمط الاستجابة للأوبئة في كل من المجتمعات الأوربية الحديثة والقديمة، فقد طورت المجتمعات الأوربية مجموعة من النظم والمؤسسات والإجراءات للتعامل مع هذه الكائنات الحية بنوعيها، اختلفت تماما عن مثيلتها في المجتمعات القديمة. فبعد كارثة الطاعون الأولى في أوربا عام 1397م، وفي خلال مائة عام طبقت إجراءات وقائية للحد من انتشار الطاعون، وبحلول عام 1450 م طبقت مدن الشمال الإيطالي الحجر الصحي بإجراءاته الخمسة، وهي:

  • تحديد انتقال البشر باستخدام الحجر الصحي.
  • دفن إجباري للموتی بالطاعون في حفر خاصة وتغطيتها بالجير الحى والتخلص من متعلقاتهم الشخصية.
  • عزل المرضى بالطاعون في مستشفيات الأمراض المعدية.
  • فرض ضرائب من قبل الوحدات المحلية لتقديم خدمات صحية.
  • تقديم المعونة لهؤلاء الذين تضررت حياتهم من الوباء.
  • > إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top