إنها إحدى الطالبات، كانت تقرأ جريدة في المقهى وهي تشرب الحليب، كانت تبدو مشوشة، لا تكاد تقرب سندويشها، تلامس بعصبية طرف أذنها، تحرك رأسها.. يا الله، ماذا يقع؟ عند التقاء نظرها بي، أومأت إلي:
– سيدي، سيدي..
اقتربت وأنا أجاهد للحفاظ على توازن كوب الشاي الذي تعلوه قطعة بسكويت. أظهرت لي الآنسة مقالا بأصبع مرتعش غضبا:
– أنظر إلى هذه. إنها حديقة الحيوانات بغزة. أنظر كيف يتم التعامل مع هذه الحيوانات المسكينة.
كانت عيناها تترقرقان بالدموع.
– هذا الأسد الهزيل، هذه .. هذه الظباء؟ التي تموت من الجوع.. هذا الدب الصغير.. يكاد يختنق. وهذه الأقفاص.. أنظر إلى أي حد هي صغيرة.
نظرت إلى الصور. حقيقة إنها صادمة. ماذا بإمكاننا أن نعمل؟ مارتي – لنسمها هكذا- تبدو طافحة بالأفكار. توأمة حديقة الحيوانات هاته بحديقة الحيوانات الغنية بأمستردام، تبني كل حيوان بغزة من طرف أوروبي متطوع يقوم بتمويله عن بعد، اعتماد جزء من ميزانية المساعدة على التنمية لأجل الحيوانات الغزوية، عقد ندوة دولية..
مع ذلك، شيء ما يحيرني. جلست بالقرب من الطالبة.
– ماذا تعرفين عن غزة يا مارتي؟ قولي لي.
أجابت بتردد: إنها في مكان ما بالشرق الأوسط.. هناك الحرب، أو على الأقل اضطرابات.. حماس، توجد هناك، أليس كذلك؟ هؤلاء الأشخاص الذين يتسكعون في الشوارع.. ليس هناك أي كلام عن الحصار الذي يتمدد، عن اليأس، عن حمى الحصار التي تضني الجسد والروح.
حسنا، هيا. أحاول أن أشرح مصدر هذه المأساة، لماذا تبدو بدون نهاية؟ الدور الكارثي لترامب منذ عدة سنوات، تهاون أو عجز الدول العربية.. وأستنتج:
– إذن كما ترين، مأساة الأسود، هي أنهم داخل أقفاص موجودة داخل قفص أكبر بعض الشيء، حيث يسكن مليون فرد، محرومون من كل شيء. ينبغي كذلك التفكير فيهم.
مارتي لم تعد تنبس بأي شيء. وطرحت على نفسي سؤالا: كيف يحصل أن طالبة لا تعرف سوى القليل عن هذه القضية؟ ألا تشاهد التلفاز؟ ألا تقرأ الجرائد؟ أم أن هناك شعورا بالضجر العام أمام هذا النزاع الذي يدوم منذ قرن؟ هل حصل إشباع من الأخبار التي تجعلنا لا نعود نميز أي شيء في هذا الالتباس الشامل؟
خرجت وأنا في حالة اكتئاب من المقهى. ماذا ينبغي على هؤلاء الغزويين أن يفعلوه لكي يتم الاهتمام جديا بمصيرهم؟ أن يتخفوا في أجسام الأسود؟ أن يلبسوا جلد الحمير؟ أن يزحفوا على التراب مثل الأفاعي في الحضيرة؟
بقلم: فؤاد العروي
ترجمة: عبد العالي بركات