أثارمشروع قانون جديد للمسطرة المدنية أعدته وزارة العدل مؤخرا جدلا واسعا داخل المغرب، بالنظر إلى المستجدات التي تضمّنها، والتي تروم تحيين الإطار القانوني المنظم للتقاضي في المجال المدني، وملاءمته مع المستجدات الدستورية بعد إحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية واستقلال النيابة العامة عن وزارة العدل.
ويشمل هذا المشروع تعديل أزيد من 400 مادة من القانون الحالي وإضافة 145 مادة جديدة وإدماج 45 أخرى، ومن بين أهم المستجدات التي تضمنها المشروع الجديد تقليص مجال الحق في الطعن في الأحكام بهدف تخفيف عدد القضايا المعروضة أمام القضاء ومواجهة مشكل الخصاص، فضلا عن توسيع مجال القضايا التي يمكن التقاضي فيها بدون مساعدة محامي، وهو ما اعتبرته هيئات المحامين مسا بحقوق الدفاع وبالحق في الولوج المستنير الى العدالة.
مستجدات مشروع قانون المسطرة المدنية
بحسب مذكرة التقديم، راهن مشروع قانون المسطرة المدنية على توسيع دور القاضي المدني في تجهيز القضايا، من أجل تقليص حالات صدور الأحكام بعدم القبول، وتمّ تخويل المحاكم صلاحية اعتماد المعلومات المتوفرة بقاعدة معطيات بطاقة التعريف الوطنية لحل مشكل التبليغ، مع إحداث مؤسسة جديدة وهي قاضي التنفيذ، كما تمّ تخويل محاكم الاستئناف ومحكمة النقض صلاحيّة التصدّي في الجوهر في حالة إلغاء أو إبطال الحكم المطعون فيه.
وعلى مستوى حماية حقوق المتقاضين، تمّ التنصيص على عدم إمكانية التصريح بعدم قبول الدعوى في الشكل في حالة انعدام الأهلية أوالصفة أو المصلحة أو الإذن بالتقاضي إن كان ضروريا، إلا بعد إنذار المعني بالأمر لتصحيح المسطرة داخل أجل محدّد، مع فرض غرامات لفائدة الخزينة العامة على حالات التقاضي بسوء نيّة من أجل تقليص عدد القضايا الكيدية، بغضّ النظر عن التعويضات التي قد يحكم بها لفائدة المتضررين.
وعلى مستوى تنزيل مبدأ وحدة القضاء أدمج المشروع المقتضيّات المتعلقة بقضاء القرب والمحاكم المتخصصة والمحاكم العادية في نص واحد، كما تمّت ملاءمة عدد من النصوص مع مستجدّات الدستور تجسيدًا لاستقلال السلطة القضائية من خلال نقل بعض الصلاحيات التي كانت لوزير العدل للمؤسسات القضائية.
مقتضيات إجرائية مقلقة في مشروع قانون المسطرة المدنية
اتجه مشروع قانون المسطرة المدنية إلى تقليص نطاق المقررات القضائية القابلة للطعن بالاستئناف، وقصرها على القضايا التي تتجاوز قيمة الطلبات بشأنها أربعين ألف 40000 درهم، كما قصر إمكانية الطعن بالنقض على الأحكام الصادرة في الطلبات التي تتجاوز قيمتها 100000.00 درهم وذلك لتخفيف الضغط عن المحاكم، كما اتّجه إلى الرفع من مبالغ الغرامات المالية المقررة لفائدة الخزينة العامة في حالة ممارسة المتقاضين لبعض الطعون، دون الأخذ بعين الاعتبار مدى ثبوت خطأ المتقاضي أو سوء نيته أو تعسفه.
من جهة ثانية عمد المشروع إلى توسيع نطاق القضايا التي لايلزم فيها الأطراف بضرورة تنصيب محام، من دون أن يحدّد معيارًا واضحًا للتمييز بين القضايا التي يجوز فيها للأطراف الدفاع عن أنفسهم بدون مؤازرة محامٍ والقضايا التي يشترط فيها ضرورة تنصيب الدفاع.
وتطرح هذه المقتضيات إشكاليات تمس مبدأ الحق في الولوج إلى العدالة والمساواة أمام القانون بخاصّة أن إعفاء الأطراف في بعض القضايا من شرط التمثيل القانوني لا ينبغي أن يؤثّر سلبًا على حقّ الفئات الهشّة في الانتصاف الفعّال، كما أنّ تخفيف الأعباء على المحاكم لا ينبغي أن يتمّ على حساب الحقّ في الولوج إلى العدالة الذي يبقى حقّا دستوريّا تكرسه الاتفاقيات الدولية.
مطالب باحترام حقوق الدفاع وتفعيل مبدأ التشاركية
انتقد نادي قضاة المغرب غياب المقاربة التشاركية في إعداد هذا القانون، باكتفاء وزارة العدل باستشارة المؤسّسات الدستورية، وتغييب الجمعيات المهنية القضائية والحقوقية من نطاق المشاورات، معتبرا أن مبدأ الديمقراطية التشاركية المنصوص عليه في الفصل 12 من الدستور، هو مبدأ ملزم لا يقبل التراجع أو التجزئة. ويطالب نادي قضاة المغرب بضرورة ترشيد العمل القضائي لضمان الحقّ في محاكمة عادلة، وتسريع وتيرة رقمنة الإجراءات القضائية
، مع ضرورة احترام مبادئ الإستقلال الداخلي بالمحاكم، من خلال اعتماد التوزيع الآلي للملفات بين القضاة والهيئات القضائية دون تدخّل من المسؤول القضائي والتنصيص على تعليل الأوامر الصادرة بتغيير القضاة المكلفين بالقضايا أو المقررين، مع احترام جدول الجمعيات العمومية بالمحاكم.
وقدمت جمعيات هيئات المحامين مذكرة مبادىء حول مسودة المشروع، سلطت الضوء من خلالها على التراجعات الواردة في المشروع والمتمثلة في المسّ بالحقّ في الولوج المتبصّر إلى العدالة من خلال تهميش دور المحامين أمام المحاكم والإبقاء على المسطرة الشفوية كأصل، وفرض غرامات مالية لفائدة الخزينة في حالة رفض بعض الدعاوى، فضلا عن ضرب نجاعة التقاضي عن طريق مراجعة مسطرة التبليغ بجعل المدعي مسؤولا عن التبليغ.
وطالبت المذكرة بضرورة العدول عن جميع النصوص القانونية التي تجيز الاستغناء عن تنصيب المحامين، وأن يقتصر تمثيل الخصوم أمام المحاكم على المحامين دون غيرهم، سواء في إطار النيابة الأصلية أو في إطار المساعدة القضائية التي تتحمل فيها الخزينة العامة أداء أتعاب الدفاع.
في السياق ذاته، سجلت الفيدرالية الوطنية للجمعيات الأمازيغية بالمغرب، أن المشروع “محبط للآمال، ومكرس للبعد الواحد للهوية المغربية، ومتعارض مع المعطيات اللغوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمغرب”، ويتنافى مع الالتزامات الواردة في قانون ترسيم اللغة الأمازيغية ويكرس التمييز ضد مبدأ المساواة، لكونه يخلو من أي تدبير مسطري مجسد لكون اللغة الأمازيغية لغة رسمية للدولة، ولا يستجيب للحاجيات التي يعبر عنها المتقاضون وباقي الفاعلين المرتبطين بالمحيط القضائي، ويعيق السكان الأصليين الأمازيغ، من الولوج إلى مرافق السلطة القضائية.كما انتقدت عدد من الجمعيات النسائية المشروع الجديد نظرا لضعف إدماج مقتضيات تراعي بعد النوع الاجتماعي.
مطالب بإدماج مقتضيات إجرائية لتيسير ولوج الفئات الهشّة إلى العدالة
من جهته، قدّم المجلس الوطني لحقوق الإنسان بناء على طلب رأي من وزارة العدل مذكرة حول مشروع تعديل قانون المسطرة المدنية، طالب فيها بضرورة إدماج مقتضيات إجرائية جديدة لتيسير ولوج الفئات الهشّة إلى العدالة، وبخاصّة النساء والأطفال والأشخاص في وضعية إعاقة والأجانب، مع توسيع نطاق الحصول على المساعدة القانونية والقضائية.
وفي هذا الإطار، اقترح المجلس وضع مقتضيّات إجرائية مفصّلة تنظّم كيفيّة الاستماع إلى الأطفال بوصفهم أطرافا أو شهودا أو في باقي الحالات التي يفرض القانون الاستماع إليهم، بما يشمل التنصيص على قائمة الضمانات الأساسية لضمان معاملة منصفة للطفل، والحق في حصوله على المعلومات وسرعة اتخاذ القرارات، وحق الطفل في الاستماع اليه وأخذ آرائه على محمل الجد.
وبخصوص ولوج النساء إلى العدالة، اقترح المجلس إعطاء الأولوية لموطن الزوجة في ترتيب الاختصاص المحلي في دعاوى الطلاق والتطليق، مع توسيع نطاق الاستفادة من محام عوض التنصيص على عدم إلزامية ذلك لتجنّب صدور أحكام قضائية بعدم القبول.
كما أوصى بوضع مقتضيات إجرائية تكفل الاستعاضة عن نظام “الوكالة” بنظام “المساعدة” للأشخاص في وضعية إعاقة؛
وبخصوص تقييد اللجوء إلى ممارسة بعض الطعون بقيمة مالية معيّنة، أكد المجلس على أن التقييدات ينبغي أن تراعي مبدأ الضرورة والتناسب وأن تستحضر وضعية بعض الفئات كالأجراء والمستهلكين، مؤكّدا على ضرورة البحث عن حلول أخرى غير مالية لتخفيف عبء القضايا المعروضة على المحاكم كإخضاع بعض الطعون إلى إذنٍ قضائيّ مسبق للتأكّد من جدّيتها، ومراجعة شكلية تحرير الأحكام القضائية، وربط الغرامات المفروضة بثبوت خطأ المتقاضي أو سوء نيته أو تعسفه، مع تحديد سقف مالي أعلى لها.
دخول المحامين في إضراب وسؤال إحالة المشروع على المحكمة الدستورية
قبل ساعات من موعد تصويت مجلس النواب على مشروع قانون المسطرة المدنية، نظم مكتب هيئات المحامين مؤتمرا صحفيا أكدوا فيه على التراجعات الواردة في مشروع القانون الجديد مطالبين بضرورة إحالته على المحكمة الدستورية للنظر في مقتضياته التي تمسّ حقوقا دستورية من قبيل المساواة بين المتقاضين وحقوق الدفاع والحق في الولوج الى العدالة، حيث تم الإعلان عن خوض إضراب في كافة المحاكم المغربية أيام 23 و24 و25 يوليوز الجاري.
تفاعلا مع هذا الجدل اعتبر وزير العدل عبد اللطيف وهبي أن لغة الشعارات هيمنت على مناقشة المشروع الجديد أكثر من لغة التحليل القانوني الرصين، معتبرا أن المستجدات التي تضمنها تهدف الى تجسيد شروط المحاكمة العادلة بما فيها ضرورة احترام الآجال المعقولة في التقاضي وتقليص الطعون غير الجدية، نافيا كل المزاعم المتعلقة بمخالفة مشروع القانون لمقتضيات الدستور ومعايير حقوق الإنسان.
وتجدر الإشارة إلى أن عددا من الأصوات الحقوقية تنادي بإحالة المشروع على أنظار المحكمة الدستورية، للبتّ فيه في إطار المراقبة القبلية، ويخول الفصل 132 من الدستور، خمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، الحق في إحالة القوانين العادية قبل إصدار الأمر بتنفيذها على المحكمة الدستورية لتبتّ في مطابقتها للدستور، إلا أن تفعيل هذا الإجراء يبقى مستبعدا نظرا لتشتت المعارضة أمام تمتع الحكومة بأغلبية مريحة، وتبقى الإمكانية المتاحة أن تتمّ الإحالة بطريقة تلقائية من طرف رئيس الحكومة حسمًا لهذا الجدل على غرار ما حصل مع مشروع قانون التنظيم القضائي، وذلك لعدم إمكانية تفعيل المراقبة البعدية على دستورية القوانين بسبب تعثر المصادقة على قانون الدفع بعدم دستورية القوانين.