المؤتمر الوطني الحادي عشر لحزب التقدم والاشتراكية 11/12/13 نونبر 2022 تحت شعار “البديل الديموقراطي التقدمي”

مشروع الوثيقة السياسية والبرنامج الوطني

تقديم عام
يعقد حزب التقدم والاشتراكية مؤتمره الوطني الحادي عشر، أيام 11، 12 و13 نونبر 2022، تحت شعار “البديل الديموقراطي التقدمي “، في ظل متغيرات وتحولات وطنية ودولية عميقة، تقتضي منه، كما دأب على ذلك منذ ما يقارب الثمانين السنة، تدقيق تحاليله للواقع واستشراف المستقبل، واستيعاب الخيوط الناظمة للأحداث والوقائع بتناقضاتها، بهدف تأطير مواقفه والتأثير الإيجابي في حركة المجتمع والتاريخ.
إن سياق المؤتمر الوطني الحادي عشر يتسم بظروف اقتصادية واجتماعية عصيبة وأوضاع سياسية صعبة، وبعجز الحكومة الحالية على مواجهتها. كما يتسم بظروف دولية تطبعها توترات وصراعات حول النفوذ واضطرابات وتقلبات اقتصادية ناتجة عن مخلفات جائحة كورونا وانعكاسات النزاع الروسي الأوكراني المسلح الذي انضافت إليه قضية تايوان بخلفياتها الخطيرة.
لقد عاشت بلادنا، ولا تزال، كما باقي بلدان العالم تأثيرات أزمة كوفيد19 على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وواجهت بعضَ هذه التأثيرات بإجراءاتٍ ناجعة وسريعة، وبأخرى تفاوتت درجات نجاعتها.
ويقف حزب التقدم والاشتراكية في محطة مؤتمره الوطني الحادي عشر لتقييم الوضع السياسي وتحولاته ومساره منذ مؤتمره العاشر المنعقد في سنة 2018، ومدى تحقق شعار ذاك المؤتمر “نفس ديمقراطي جديد”. ويطرح سؤال المسار الديمقراطي وتوصيف المرحلة ضمن هذا المسار، وهل يسير في منحىً تصاعدي، كما هو مفترض ومطلوب لتحقيق قفزة الانتقال إلى حلقة جديدة أرقى في المسلسل الديمقراطي الذي انطلق منذ سنة 1975، أم أن هذا المسار يراوح مكانه، ومن ثمة ضرورة الانتقال إلى مرحلة أرقى في مسار البناء الديموقراطي؟ وهو ما كان يطمح إليه حزب التقدم والاشتراكية من خلال شعار المؤتمر الوطني الأخير” نَفَس ديمقراطي جديد”.
إنَّ حزب التقدم والاشتراكية مثقفٌ جماعي، وفاعلٌ سياسي مسؤول. لذلك فهو يواصل حرصه على تأسيس ممارسته للسياسة على تماسُكٍ إيديولوجي ووضوحٍ فكري ومشروعٍ سياسي.
وهذه الوثيقة هي نتاجٌ لعمل جماعي ونقاش ديموقراطي ارتكزا على رصيد الحزب وتراكماته فكريا وسياسيا. وهي تركيبٌ متكاملٌ لرؤية الحزب للمتغيرات، ومساءلةٌ موضوعية للواقع وللذات، بنَفَسٍ نقدي، بَنَّاء واستشرافي، وفق الضوابط المؤسِّسة والمقاربات المبدئية.
فالحزبُ يحمل مشروعاً سياسيا يتأسس على رؤية فكرية. وهو بذلك حريصٌ على صون هويته الاشتراكية، مع اجتهاده المستمر لتجديد مقارباته وأساليب عمله، في إطار جدلية الوفاء والتجديد.
وتتوزع الأطروحة السياسية للمؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب على أربعة أبواب، وفق مقاربة منهجية مترابطة ومتكاملة.
هكذا، سيتناول البابُ الأول، الموزع على ثلاثة فُصول، الأوضاع الوطنية العامة، بدءً بقضية وحدتنا الترابية ومكتسباتها المحتاجة إلى التحصين عبر تمتين الجبهة الداخلية. ثم الأوضاع السياسية وانحسار مسار البناء الديموقراطي. وذلك قبل التطرق لتشخيص الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية والثقافية والقيمية وسؤال الحكامة.
وستدقق الوثيقة، من خلال الباب الثاني الموزع على خمسة فصول، في مضامين وتوجهات البديل الديموقراطي التقدمي الذي يطرحه الحزب ويُناضل من أجله. ويتعلق الأمر بوضع الإنسان في قلب العملية التنموية وإقرار العدالة الاجتماعية والمجالية؛ وسُبُل تحقيق نمو اقتصادي مطرد وقادر على الصمود ومواجهة الأزمات؛ وتحسين الحكامة وضمان مَنَاخ مناسب للعمل والأعمال؛ ثم الأبعاد القيمية والثقافية والمجتمعية للبديل الديموقراطي التقدمي؛ فالديموقراطية كأساسٍ لحمل البديل الديموقراطي التقدمي.
أما الباب الثالث، بفصوله الخمسة، فقد خُصص للأوضاع الدولية، من خلال استشراف عالمٍ جديد متعدد الأقطاب يُنهي مع الهيمنة الرأسمالية والإمبريالية؛ ورصد وتحليل الانتعاش الفكري والسياسي لليسار عالميا، وسُبل التموقع الجيد للمغرب في محيطه الدولي؛ وكذا منظور الحزب للقضايا العادلة للشعوب.
وتُختتم الوثيقة بالباب الرابع الذي يتكون من ثلاثة فصول، فيشمل التأكيد على هوية الحزب الاشتراكية الثابتة، بانفتاحٍ على الأفكار والتجارب الإنسانية. كما سيتطرق إلى المشروع السياسي للحزب، والمتمثل في بناء مجتمع الديموقراطية والتقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وذلك بارتباطٍ مع الأداة التنظيمية الحزبية والمقاربات الجديدة لعمل الحزب.

الباب الأول: الأوضاع الوطنية العامة
الفصل الأول: قضية وحدتنا الترابية: مكتسبات للتحصين عبر تمتين الجبهة الداخلية

الفرع الأول: القضية الوطنية الأولى مسألة تحرر وطني
منذ نشأته، في بدايات أربعينيات القرن العشرين، أخذ حزبُ التقدم والاشتراكية، ولا يزال، مسألة الوحدة الترابية لبلادنا على أنها مسألة تحرر وطني. وارتبطت دائما عنده بمعركة الاستقلال الوطني وتوطيد دعائمه، وببناء الدولة الوطنية الديموقراطية.
فمنذ المؤتمر الوطني الأول للحزب الشيوعي المغربي سنة 1946، تم اتخاذ مواقف تاريخية، أبرزها التأكيد على المطالبة بالاستقلال وإعادة توحيد أرض الوطن بصحرائه كاملة ومدينتيه السليبتين. كما صدر للرفيق علي يعتة كتاب سنة 1972 حول الصحراء الغربية المغربية، تم منعه آنذاك، أكد فيه على مغربية الصحراء، إذ كانت المنطقة وقت تقسيم المستعمرات تشكل مع المغرب كيانا اقتصاديا ودينيا واحدًا.
لقد كان الحزبُ سباقاً إلى وضع مقاربة تحليلية لإحدى أعقد القضايا التي لا يزال المغرب يعيش فصولها، وهو ما تدل عليه الدراسات والمؤلفات التي أنجزها، والتي حملت إحداها عنوان “صحراؤنا المغربية” وصدرت سنة 1961.
فمسألة الوحدة الترابية هي قضية مركزية ومبدئية تتعلق بالهوية الوطنية، تكتسي أولوية لا مساومة ولا مهادنة فيها، وتعلو على كل الاعتبارات الأخرى. وهي قضية تهم الشعب المغربي قاطبة وكل قواه الوطنية على اختلاف مشاربها. إنها قضية تَمَّ افتعالها في زمنٍ تغير كثيراً دون أن تتغير معه، للأسف، مقارباتُ خصوم وحدتنا الترابية، وتحديداً حُكَّامُ الجزائر، على الرغم من حسن نية بلادنا وخطواتها الإيجابية بشأن إيجاد تسوية سلمية وعقلانية، عبر المقترح الشجاع القاضي بتخويل أقاليمنا الجنوبية الغربية حكما ذاتيا موسعا في إطار السيادة الوطنية. وهو المقترح والذي لقي ترحيبا دوليا واسعا، ومن شأنه أن يُفضي إلى طي هذا الملف بصفة نهائية.
في نفس الوقت، فموقف حزبنا مبدئيٌّ وثابت إزاء استمرار إسبانيا في احتلال مدينتيْ سبتة ومليلية المغربيتين والجزر السليبة المجاورة لهما. فالوحدة الترابية للمغرب لن تكون كاملة إلا باسترجاع هذه الثغور الشمالية. ولذلك يُؤيد الحزب إجراء حوار هادئ بين بلادنا والجارة الإسبانية، من أجل إنهاء هذا الاحتلال، وفق روح العصر، ومنطق علاقات حسن الجوار، وأخذاً بعين الاعتبار الشراكة والعلاقات المتميزة التي يتعين أن تظل قائمة بين البلدين لمصلحة الشعبين المغربي والإسباني.

الفرع الثاني: مكتسباتٌ كبيرة على درب الطي النهائي للنزاع المفتعل
تمكن المغربُ من استرجاع زمام المبادرة على الساحة الدولية. وشهدت قضية وحدتنا الترابية تطورات إيجابية تجلت أهمها في الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. وهو ما يُعدُّ مُـنعطفاً تاريخيا، بالنظر إلى مكانة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي وعلى مستوى مجلس الأمن. كما تجسدت في التحول الإيجابي الكبير للجارة الإسبانية حُيال قضية وحدتنا الترابية. وهو ما يُعتبر طفرة هامة بالنظر إلى المسؤولية التاريخية والسياسية التي تتحملها إسبانيا في هذه القضية.
وقد جاءت هذه التحولاتُ في سياقٍ يتعاظم فيه الوعي الدولي بعدالة قضيتنا الوطنية، وبالمخاطر الإقليمية والدولية التي تشكلها الطروحات الانفصالية، ليس فقط على منطقة المغرب الكبير والساحل الإفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء، ولكن أيضاً على الجارة أوروبا، وعلى العالَم بأسره. وهي التهديدات المتصلة بالإرهاب والهجرة السرية والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر والاتجار بالأسلحة والمخدرات.
وتتميز المرحلة بتزايد عدد البلدان الداعمة لموقف بلادنا، حيث بات الجميع يُــدرك، أكثر فأكثر، مدى جدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي المغربي، وعمقه التاريخي والحضاري، وأهميته كمقترحٍ ذي مصداقية لأجل الطي النهائي لهذا النزاع المفتعل. كما تشهد هذه المرحلة مقاربةً بناءةً بات يعتمدها الاتحاد الإفريقي حُــيَــال النزاع، كثمرة طبيعية لاستعادة بلادنا مكانَتَهَا ضمن بيتها الإفريقي. فضلاً عن تأكيدات مقررات الأمم المتحدة على معايير الحل السياسي المتوافِقة تماما مع مُبادرة الحكم الذاتي، وعلى مسؤولية الجزائر كطرفٍ مُباشر في هذه القضية.
وعوض مُجاراة الدينامية الإيجابية والبناءة لبلادنا، والتي تُعبر عن الإرادة في السير قُدُماً نحو حل سياسي قابل للتطبيق، وفقا لقرارات مجلس الأمن وتطلعات المنتظم الدولي، فإن خصوم وحدتنا الترابية، أي حكام الجزائر تحديداً، يُصرون على المناورة والاستفزاز، وعلى اتخاذ مواقف متهورة ومُتجاوَزة وغير واقعية، بهدف عرقلة التوصل إلى حل سياسي على أساس مبادرة الحكم الذاتي الذي يظل الحل الأمثل لهذا النزاع المفتعل. وعلى الرغم من ذلك، فإن بلادنا تظل متمسكة، بحكمة، بسياسة اليد الممدودة إزاء جيرانها، وحريصةً على بناء المغرب الكبير. ويتعين، بالموازاة مع ذلك، مواصلة المجهودات من أجل وضع حد لأسطورة “الجمهورية الوهمية”، من خلال العمل الحثيث على طرد هذا الكيان المزعوم من صفوف الاتحاد الإفريقي.

الفرع الثالث: تمتين الجبهة الداخلية صمام أمان وحدتنا الترابية
ولتعزيز هذا المسار الإيجابي، يجدد الحزبُ التأكيد على ضرورة تمتين الجبهة الداخلية، لضمان استمرار وتقوية التفاف كل مكونات الشعب المغربي حول القضية الوطنية، والذي يشكل مصدر قوتنا، وينبغي تعزيزه بتعبئة المجتمع المغربي، بكل قواه ومؤسساته وجميع شرائحه الاجتماعية.
وتستلزم تقوية الجبهة الداخلية إعطاء نَفَسٍ جديد لمختلف الإصلاحات التي تحتاج البلاد إليها، وإيجاد الحلول المناسبة لمكامن الانحباس السياسي، وللمطالب الاجتماعية والاقتصادية المشروعة، ومواصلة مسار التنمية، في ظل الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، وتوطيد الممارسة الديمقراطية، وضمان حق الممارسة الفعلية للحريات الفردية والجماعية، في إطار دولة القانون والمؤسسات.
كما يتطلبُ الأمر مزيد من تحرك كافة القوى الفاعلة لبلادنا، من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني وفعاليات وطنية ومحلية، لأجل تحسين أداء ومردودية الدبلوماسية الموازية، بجميع أشكالها وأصنافها.

الفصل الثاني: الأوضاع السياسية وانحسار مسار البناء الديموقراطي
الفرع الأول: تطورات سياسية ونَفَس َ ديمقراطي مفقود

1/ مسار ديموقراطي بِــــمَــدٍّ وجزر يدخل مرحلة ركود
حققت بلادنا مكتسبات ديمقراطية مهمة منذ انطلاق المسلسل الديمقراطي في سنة 1975. وعرف هذا المسلسل، الذي دعا إليه حزب التحرر والاشتراكية (حزب التقدم والاشتراكية لاحقا)، منذ بداية سبعينات القرن الماضي، من أجل الخروج من الاحتقان السياسي الحاد الذي عرفته البلاد آنذاك، (عرف) مراحل مَـــدٍّ تحققت فيه مكتسبات، كما عرف مراحل جزر اتسمت بتراجعاتٍ بِحَسَبِ تطور موازين القوى في كل مرحلة.
وقد كانت أهم وأبرز محطات مد هذا المسلسل، والذي كان بمثابة “حل وسط تاريخي” توافقي، التعديل الدستوري لسنتيْ 1992 و1996، وما تبع ذلك من تكوينٍ لحكومةِ تناوبٍ توافقي، ثم دستور 2011 الذي أبْرَزَ مكتسبات ديموقراطية هامة تشكلت على أساسها حكومة سنة 2012 التي شارك فيها حزبنا بهدف بلورة هذه المكتسبات فعليا على أرض الواقع.
بالمقابل، عرف هذا المسلسلُ فتراتِ جزر وتراجع ارتبطت بخلق أحزاب إدارية بغرض “ضبط” المشهد السياسي. ولم يترتب عن هذه المقاربة السياسية الإدارية سوى الدخول في فترات من التوترات السياسية والاجتماعية، يتم الخروج منها من خلال توافقات جديدة بين المؤسسة الملكية والقوى الحية للبلاد، ومن خلال استئناف عملية الإصلاح بقيادة المؤسسة الملكية، والانطلاق نحو حلقة جديدة أكثر تقدماً في المسلسل الديمقراطي.
وفي المراحل الحاسمة من هذا المسار غير الخطي كان لأفكار ومقترحات حزب التقدم والاشتراكية صدىً وتأثير، مثل دعوته لإطلاق المسلسل الديمقراطي بداية السبعينات، وهو ما تم فعلا سنة 1975، ومُطالبته ببلورة ميثاقٍ وطني حول قضية الوحدة الترابية سنة 1979، ثم مطالبته بتكسير الحلقة المفرغة والانتقال الى حلقة جديدة في المسلسل الديمقراطي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتجسيد ندائه الدائم إلى توحيد القوى الوطنية والديموقراطية من خلال تأسيسِ الكتلة الديمقراطية، وإسهامه الفعال والبناء في المسلسل المؤدي إلى تشكيل حكومة التناوب التوافقي، وأيضاً مطالبته بجيل جديد من الإصلاحات في سنة 2008 بعد دخول البلاد في فترة جزر جديدة منذ أواسط العقد الأول من الألفية الثالثة. وهي نفسها الإصلاحات التي كانت جوهر مطالب حركة 20 فبراير وأدت إلى دستور 2011.
غير أنه بعد هذا الإنجاز الديمقراطي الكبير دخلت بلادُنا، من جديد، مرحلة ركود ديمقراطي ومسلسلٍ تراجعي منذ أواسط العقد الماضي. مما دفع الحزب الى المطالبة بنَفَسٍ ديمقراطي جديد، وكان شعار مؤتمره العاشر سنة 2018. وهي مرحلة ما زالت متواصلة فُصولُها، رغم تنظيم انتخابات جديدة، ثم حكومة جديدة سرعان ما خيبت الانتظارات. وهذا ما جعل الحزب يُعزز أطروحة النَّفَس الديمقراطي الجديد، المحتفظة براهنيتها ووجاهة توجهاتها، ببديلٍ ديمقراطي تقدمي.
ويُدركُ حزب التقدم والاشتراكية أن إحداث قفزة نوعية في مسلسل التغيير لا يمكن أن يتم من دون توفر شروطه الموضوعية والذاتية، وبشكل خاص وأساسي من خلال تعزيز التقاء إرادة المؤسسة الملكية مع إرادة وطموح القوى الحية ومجموع الشعب المغربي، وكذا عبر تقوية مختلف أشكال الحركة الاجتماعية المعبرة عن الرغبة في الإصلاح، وذلك كما حدث في كل الفترات المتقدمة في المسار الديمقراطي الوطني. ويتطلع حزب التقدم والاشتراكية إلى أن يحدث ذلك اليوم أيضاً.
2/ الحريات والمساواة وحقوق الإنسان: وضع راكد أو يتراجع
تشكل حقوق الإنسان، وقضية الحريات الفردية والجماعية، ومسألة المساواة الكاملة بين النساء والرجال، إحدى المرتكزات الثابتة في المشروع المجتمعي للحزب، وكذا في مسار ه النضالي على امتداد تاريخه.
ولقد راكمت بلادنا، في المجال الحقوقي وفضاء الحريات والمساواة، خلال العشريتين الأخيرتين مكتسباتٍ هامة، تم تتويجها بإقرار دستور سنة 2011 الذي اعتمد الاختيارَ الديموقراطي ضمن الثوابت الوطنية، وكَرَّسَ سمو المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأعطى مكانة بارزة لمختلف الحقوق والحريات. وأرسى الديموقراطية التشاركية.
إلا أن الانحباس السياسي والحقوقي، حاليا، يؤشر على انفصامٍ واضح بين التقدم والجودة النسبيين للتشريعات الحقوقية، وبين واقع ممارسة الحريات الفردية والجماعية الذي يشوبه، في كثير من الحالات التضييقُ عليها.
إن بلادنا، الآن، تعيش واقعا راكداً على مستوى تطوير الحريات والحقوق وتوسيع مجال ممارستها، وتقف على مخاطر أن تتآكل كل المكتسبات المحقَّقَة، إنْ لم يتم تحصينها وبث نَفَسٍ جديد فيها، من خلال مباشرة جيل جديد من الإصلاحات الحقوقية، بعزمٍ وإقدام، بهدف تعزيز منظومة الحقوق والحريات وتوسيع الفضاء الديمقراطي.
وعلى وجه التحديد، فمسألة المساواة والمناصفة وتجسيد الحقوق الإنسانية للنساء ورش مستعجل. إذ أن حزب التقدم والاشتراكية الذي يثمن أهمية المكتسبات الدستورية والعملية في هذا المجال، يؤكد على خطورة عدم التكافؤ الحاصل بين الرجال والنساء في مجالات الصحة والتعليم والسياسة والاقتصاد والإدارة والثقافة، حيث يصنَّفُ المغربُ في مراتب متأخرة للمعدلات العالمية ذات الصلة. خاصة وأن طبيعة التمييز حسب النوع، تتمتع بجذور نسقية تريد لنفسها أن تكون بنيوية.
كما يؤكد الحزب على أن مقاربته لقضية المساواة والمناصفة ليست نابعة فقط من المدخل الحقوقي وحده، ولكن كذلك باعتبارها رهانا للعدالة الاجتماعية وعنصرًا أساسيا للتنمية والتقدم.
3/ أزمة الثقة في العمل السياسي ومخاطر الانزلاق
إنَّ المكتسبات الديموقراطية تستمد قوتها من تراكمها وديناميتها وتطورها. فتوقف عملية الإصلاح وجمودها بالنسبة لعدد من الوعود والمشاريع والتدابير، وانحسار مجال الحريات، وإفساد الفضاء السياسي، كلها مظاهر أفضت، وتُفضي، إلى استنزاف المكتسبات الديمقراطية، وإلى فقدان المصداقية لدى المواطنات والمواطنين، وإلى أزمة الثقة في العمل السياسي وفي الفاعلين السياسيين والمؤسسات، بما يفتح المجال أمام الإحباط وبروز تعبيراتٍ جديدة تُجسِّدُ الغضب والقلق والحيرة وعدم الرضى على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولم يتمكن الفضاء السياسي المؤسساتي، بعدُ، من استيعاب واحتضان هذه التعبيرات والتفاعل الايجابي معها.
هكذا، ظهرت حركاتٌ اجتماعية، في عدد من مناطق بلادنا، للاحتجاج على التهميش والإقصاء وتدهور الوضع الاجتماعي. ورافقتها احتجاجات في مواقع التواصل الاجتماعي، كما في الواقع الميداني، (مثل حملة المقاطعة وغيرها). هذا مع تسجيل عزوفٍ عريض عن المشاركة في الحياة السياسية المنظَّمة، دون أن يعني ذلك عزوفًا عن السياسة بمعناها العام.
في هذه الأجواء، أسفرت انتخابات 2021، المطبوعة بطغيان استعمال المال وأساليب فاسدة ومُهَدِّدَة للبناء الديموقراطي، عن هيمنة شبه مطلقة، عدديا، لتحالف ثلاثة أحزابٍ على المؤسسات المنتخبة. ويأتي ذلك في مناخ تطبعه السيطرة على المشهد الإعلامي والتواصلي، وعلى منظمات مدنية وحتى نقابية، مع محاولات إسكات ومحاصرة الأصوات المعبرة عن رأي آخر ومقاربات مخالفة. ويتعين الانتباه إلى أنَّ هذه الانحرافات لم تحدث، بهذه الدرجة، حتى في أحلك ظروف الجزر في المسلسل الديمقراطي.
إنَّ هذا الوضع غير السليم في المشهد السياسي يدعو إلى دق ناقوس الخطر إزاء الانزلاق الخطير الذي تعرفه الممارسة السياسية، والذي من شأنه أن يُفسِد المجتمع بِرُمَّتِه.
ويعتبر حزب التقدم والاشتراكية أن غياب حياة سياسية سليمة وسوية، وتحجيم أدوار والمؤسسات المنتخبة والأحزاب السياسية، دون رد فعلٍ لهذه الأخيرة، عموماً، دفاعاً عن أدوارها الدستورية ومكانتها السياسية، علاوة على تبخيس العمل السياسي، كلها مظاهر تُؤدي إلى الفراغ، وإلى انزلاقات يصعب التحكم فيها، وتُشكل مخاطر حقيقية ينبغي الوعي بها. كما يمكن تجنبها من خلال حياة سياسية سليمة، وتفعيل حقيقي، وليس شكلي، للمقتضيات الدستورية المتعلقة بالتأطير السياسي للمجتمع والتفاعل المؤسساتي مع مطالبه.
4/ محطات سياسية منذ المؤتمر العاشر
عرفت المرحلة الفاصلة بين المؤتمريْن العاشر والحادي عشر للحزب، ما بين سنة 2018 وسنة 2022، ثلاثة أحداث سياسية رئيسة: انسحاب حزب التقدم والاشتراكية من الحكومة واصطفافه في المعارضة سنة 2019، وما ترتب عن ذلك من انتعاش، ولو نسبي، للمعارضة البرلمانية وللنقاش السياسي. والحدث الثاني هو تنظيم الانتخابات التشريعية والجماعية في أكتوبر 2021. ثم الحدث الثالث المرتبط بالثاني، وهو تشكيل حكومة جديدة.
أ/ اصطفاف حزب التقدم والاشتراكية في المعارضة أنعش الحياة السياسية
قرر حزب التقدم والاشتراكية خلال اجتماع لجنته المركزية، بتاريخ 04 أكتوبر 2019، الانسحاب من حكومة السيد سعد الدين العثماني، بعد أن حاول جاهداً، من داخل تلك الحكومة وداخل رئاسة الأغلبية، تصحيح مسارها ووضعها غير السليم، بسبب تطاحنات متواصلة بين مكوناتها من جهة، ومن جهة أخرى غياب أي نفس إصلاحي لديها، وعجزها عن القيام بمبادرات وبلورة برامج وسياسات عمومية تستجيب لطموحات الشعب المغربي، والاكتفاء، عمليا، بتسيير الأعمال الجارية. مما عزز تدريجيا لدى حزبنا الاقتناع بعدم جدوى الاستمرار في حكومة بتلك المواصفات. وكان بالتالي ضروريا الانتقالُ إلى المعارضة.
لقد أنهى الحزبُ بذاك القرار مساهمته في حكومة السيد العثماني، التي وُلدت مشلولة ومتضاربة إثر “البلوكاج” الذي أعقب انتخابات 2016. كما أنهى بذلك مرحلة ائتلافٍ حكومي مع حزب العدالة والتنمية منذ 2012. وقد تميزت الفترة الأولى من هذا الائتلاف، في إطار حكومة السيد عبد الإلاه ابن كيران، بِنَفَسٍ إصلاحي واضح ساهم فيه حزبُنا بقوة، كما شهدت تلك الفترة ذاتها منجزاتٍ هامة في القطاعات التي أشرف حزبُنا على تدبيرها، كما تمكن الحزبُ من الإسهام الوازن في أن تضمن تلك الحكومةُ حضوراً سياسيا قويا، وأن تُرَجِّحَ البُعد التحديثي. وذلك ما لم يتوفر في حكومة السيد سعد الدين العثماني.
ولقد تعالت بعضُ الأصوات، آنذاك، وتستمر بالنسبة للبعض، مُنتقِدَةً ذاك الاختيار المتفرد الذي قام به حزبُنا في إطار تلك التجربة. وتفاعلاً مع هذا الرأي، من الضروري التذكير بأنَّ التطورات السياسية اللاحقة، وإلى يومنا هذا، تؤكد كل التوجسات والتنبيهات التي عبر عنها حزبُنا منذ نهايات العقد الأول من القرن الحالي، حينما انتقد بشدة التعثرات التي عرفتها الساحة السياسية والممارسة الديموقراطية ببلادنا. وهي التعثرات التي حاول الحزبُ مقاومتها عبر اللجوء إلى حلفائه التقليديين في الكتلة الديموقراطية، دون جدوى. وهو ما جعل الحزب يلتقي موضوعيا، وليس على أساسٍ إيديولوجي أو فكري أو مرجعي، مع حزب العدالة والتنمية، دفاعاً عن المسار الديموقراطي، دون أدنى تنازلٍ عن مبادئ حزبنا وقيمه ومرجعياته الأساس.

وتكاد تكون تلك التجربة متفردة ورائدة في محيطنا الإقليمي والدولي، حيث استأثرت باهتمامٍ بالغٍ من قِبَل عددٍ من الأوساط السياسية والفكرية في بلدان مختلفة، من خلال ما جَسَّدَتهُ من تقاربٍ مرحلي وبرنامجي بين حزبٍ يساري أصيل وآخر ذي مرجعية إسلامية. وقد أسهم حزبُنا بذلك في ترسيخ إدماج هذا التيار في الحياة السياسية والمؤسساتية الوطنية، بشكلٍ سَلِسٍ وبَنَّاء. ومن بين ما أفرزته هذه التجربة من خلاصاتٍ محدوديةُ قدرة المشروع المجتمعي الذي يستند إليه هذا التيار على تدبيرِ الواقعِ المعقد.
وقد شكل خروج الحزب من الحكومة واصطفافه في المعارضة حدثًا سياسيا هاما خَلَّفَ صدىً إيجابيا لدى الرأي العام، وبعث دينامية جديدة في صفوف الحزب. كما كان له تأثير، ولو نسبي، على الحياة السياسية، وبشكل خاص داخل البرلمان، حيث عرف أداء المعارضة تحسنا ملحوظا، وبدأت تظهر بوادر أفق لتكتل سياسي بديل، والسير نحو تناوب ديمقراطي حقيقي. لكن لم تتحقق شروط تشكيل مثل هذا البديل.
ولقد بينت التطورات اللاحقة صواب موقف الحزب، باصطفافه في المعارضة، حيث ازداد الوضع سوءً على مستوى العلاقات بين مكونات الحكومة، وعلى مستوى السياسات العمومية، ولم تبادر تلك الحكومة على أي إنجاز فعلي، ولم يتم تدارك ما كان ينتقده الحزب وبسببه قرر مغادرتها.
ب/ انتخابات حدد المال نتائجها
جرت الانتخابات التشريعية 2021 في أجواء مشحونة، وفق قوانين انتخابية جديدة. وتم إجراء الانتخابات الجماعية في نفس يوم اقتراع الانتخابات التشريعية، وهو ما حدث لأول مرة في تاريخ الانتخابات بالمغرب. وسجل حزب التقدم والاشتراكية، بإيجابية، تمكن بلادنا من تنظيم الانتخابات في آجالها رغم ظروف حالة الطوارئ الصحية بسبب جائحة كورونا.
وعرف هذه الانتخابات سلوكات غير سليمة من طرف عدد كبير من المرشحين، وحضر فيها المال بشكل مكثف وواسع لم يسبق له مثيل، مما أثر بقوة في نتائجها، وفيما تلاها من تشكيل الحكومة الثلاثية.
ولقد تمكن حزب التقدم والاشتراكية في هذه الانتخابات من تحقيق نتائج إيجابية، خاصة على مستوى الانتخابات التشريعية، حيث حصل الحزب، لأول مرة في تاريخه، على 22 مقعداً نيابيا، مما مكنه من تشكيل فريق برلماني مستقل لأول مرة منذ رفع عدد تشكيل فريق برلماني بمجلس النواب إلى 20 عضوةً وعضواً. وذلك رغم الممارسات الفاسدة التي واجهها مرشحوه ومرشحاته، خاصة من خلال مواجهتهم للاستعمال المكثف للمال لاستمالة الناخبين.
إن هذه النتائج الايجابية التي حصل عليها الحزب على مستوى الانتخابات التشريعية جعلت حضوره أقوى في مجلس النواب، ويقوم بدور مؤثر في الحياة البرلمانية، من خلالِ فريق نيابي يستحق أداؤه كل التنويه والتقدير.
غير أن الحزب لم يتمكن، مع الأسف، من الحصول على مقاعد بمجلس المستشارين، نظرا لما تعرفه انتخابات الغرفة الثانية عادة من استعمال شامل للمال، وهو ما لا يمكن للحزب مسايرته، ولا يمكن لمرشحيه سلوك هذا السبيل للفوز.
إن الممارسات التي شهدتها انتخابات 2021 لم تمكن بلادنا من التقدم خطوة جديدة ومتقدمة في ضمان سلامة العملية الانتخابية والتنافس الديموقراطي السليم بين الأحزاب السياسية. فقد بُذل مجهودٌ هام من أجل تنظيم هذه الانتخابات، غير أن الممارسات الفاسدة تُساءلنا جميعاً حول مكانة المؤسسات المنتخبة وأدوارها الفعلية، وحول طبيعة العديد من المنتخبات والمنتخبين الذين أفرزتهم عمليات الاقتراع المختلفة. إن ذلك يطرح بحدة في المستقبل ضرورة توفير الشروط السياسية والصيغ القانونية المناسبة للارتقاء بالعملية الانتخابية شكلاً ومضموناً، وضمان مشاركة وحضور أجود وأنزه الطاقات البشرية في المجتمع.
ج/ حكومة جديدة بسياسات قديمة وتضارب المصالح
انبثقت عن الانتخابات التشريعية حكومةٌ مشكلة من ثلاثة أحزاب، يترأسها حزب من الأغلبية السابقة، ومن حزبين كانا في المعارضة، ولم يُـــبْــــدِ حزبُ التقدم والاشتراكية أيَّ حماسٍ أو رغبةٍ للمشاركة فيها منذ البداية، كما لم يُعرض عليه المشاركة فيها. وهو ما جعله يؤكد اصطفافه في المعارضة، على أساس ممارسةٍ وطنية ديموقراطية تقدمية، مسؤولة وبناءة، تقوم على النقد مع اقتراح البدائل والحلول.
فهل كانت هذه الحكومة بديلاً فعلًا عن سابقتها؟ وهل تم تكريس التناوب الديمقراطي؟ أم هي استمرار، بشكلٍ ما، للحكومة السابقة، ما دام أن أهم مكون لها، والذي كان مؤثرًا بقوة في السياسات العمومية، هو نفسه الذي يقود الحكومة الحالية؟ في الواقع هناك استمرار لنفْس السياسات العمومية وغياب لأي نَفَس إصلاحي.
علاوة على ذلك، فالبرنامج الذي قدمته الحكومة أمام البرلمان لا يحمل مشاريع قوية لمواجهة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور وانعكاسات جائحة كوفيد 19 على الاقتصاد والمجتمع، ولا يستجيب لمتطلبات المرحلة. كما أنه لا يحمل تدابير فعلية وقوية وجريئة لأجرأة مشروع النموذج التنموي الجديد الذي يجد فيه حزبُ التقدم والاشتراكية جزء كبيراً من مقترحاته التي قدمها للجنة التي كلفها جلالة الملك ببلورته وصياغته.
وإذا كانت الحكومة الجديدة قد شرعت في تنفيذ مشروع الحماية الاجتماعية الشاملة، وهو مشروع ملكي رائد ورحب به حزب التقدم والاشتراكية بقوة، لاندراجه ضمن ما طالب به الحزب منذ سنين، فإن باقي المحاور الأساسية للنموذج التنموي الجديد لا نجد لها أثراً واضحاً في البرنامج الحكومي.
وبالإضافة إلى أنها حكومة بدون نَفَسٍ إصلاحي، فإن طبيعة التركيبة الطبقية للحكومة والحضور القوي لتضارب المصالح داخلها، وافتقادها للجرأة والمبادرة السياسية، يجعلها حكومة أقرب الى حكومة تكنوقراطية لتسيير الأعمال منها إلى حكومة سياسية قادرة على حمل أيِّ نَفَسٍ إصلاحي. وهي عاجزة عن مجرد الشروع في تنفيذ النموذج التنموي الجديد الذي تتناقض توجهاته مع طبيعتها الطبقية الواضحة. ويعتبرها حزب التقدم والاشتراكية مُمثِّــــلة للأوليغارشية وللوبيات المصالح المالية.
كما يغيب سؤال الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان بمعناها الشمولي في البرنامج الحكومي، رغم أن السؤالَ محوريٌّ للسير بالمسلسل الديمقراطي إلى أمام واستكمال تنفيذ مضامين دستور 2011.
لقد توفرت لهذه الحكومة شروطٌ لتكون حكومة سياسية وقادرة على تطبيق برامج إصلاحية كبرى وجديدة. فهي حكومة محدودٌ عددُ مكوناتها، وتهيمن على معظم المدن الكبرى والجهات والجماعات الترابية ومختلف المؤسسات المنتخبة الأخرى. وهو ما يسمح لها بتنفيذ سياساتها بكل أريحية. إنه شرط ذاتي كان لِيساعد على مواجهة ما يترتب عن الشروط الموضوعية التي من بينها الظرفية الدولية الصعبة. فمهمة أي حكومة هي مواجهة الصعاب والمشاكل، وطنيا أو دوليا، والاجتهاد والجرأة في بلورة السياسات، وليس الاكتفاء بالتبرير وتسيير الأعمال وتحميل الظروف مسؤلية الفشل في مواجهة المشاكل وتقديم الحلول.
ويبقى شعار ” الدولة الاجتماعية” الذي رفعته الحكومة مجرد شعار للاستهلاك، لأنها لا تحمل في ” جيناتها”، على العموم، الهم الاجتماعي، على الأقل بالنسبة لمكونها الرئيس والمؤثر القوي في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
الفرع الثاني: الفاعلون في المشهد السياسي مسؤوليات مُتَقاسَمة لإقرار الديموقراطية الفعلية والكاملة
منذ سنة 2011 أصبح الاختيار الديمقراطي ثابتا دستوريا من بين الثوابت الوطنية الأخرى ومتناغماً معها. فالديمقراطية بحاجة إلى أحزاب سياسية قوية وفاعلة، غير أن ذلك لا يعني أنَّ الفعل السياسي، بمعناه العام، منحصر في الأحزاب السياسية، بل إنَّ السياق المغربي ينطوي على حضور فاعلين متعددين في الفضاء السياسي، بشكلٍ أو بآخر. ومن جهة متصلة فإن الديمقراطية في جانبها التمثيلي معرضة لعوائق وانحرافات.

1/ الاختيار الديموقراطي ثابتٌ دستوري يُـــقوي باقي الثوابت الوطنية
لقد صار الاختيار الديمقراطي في دستور 2011 اختياراً ثابتا للأمة، ومن ثمة فهو أصبح خياراً مُـــلزِما لكل الفاعلين السياسيين. لقد أصبح من الثوابت الدستورية للأمة المغربية، بعد أن كان، منذ الاستقلال، مجرد اختيار سياسي لا يتم تفعيله إلاَّ بشكلٍ إرادي ومحدود وفي فترات محددة، وكان خاضعاً بشكلٍ تام لموازين القوى السياسية في كل فترة. ولذلك كان التراجع عن هذا الاختيار وارداً في أيِّ لحظة بمجرد قرار سياسي. وهذا ما تم فعلا بإعلان حالة الاستثناء في ستينيات القرن الماضي، ومنع بعض الأحزاب والتضييق على البعض الآخر، وحتى إمكانية عدم إجراء الانتخابات، وقمع الحريات بمجرد قرار إداري، وغيرها من الممارسات اللاديمقراطية التي كانت محمية، بصيغة أو بأخرى، بعدم التنصيص صراحة على ثابت الاختيار الديموقراطي.
إن مُكتسب الاختيار الديمقراطي، كثابت دستوري، يتناغم تماماً مع باقي الثوابت الوطنية الجامعة ويُـــقوِّيها. وهذا التناغم الدستوري سيكون له أثر إيجابي على حياتنا الوطنية، لا سيما حين سيتم الارتقاء بالممارسة السياسية السوية، وذلك بالنظر إلى ما ينص عليه الدستور من فصلٍ للسلط وتعاونها وتكاملها، في كَنَفِ نظام حُكمِ يقوم على مَلكية دستورية، ديمقراطية، برلمانية واجتماعية.
2/ ضرورة البلورة الفعلية لوظائف الأحزاب السياسية
لا يمكن تصور الديموقراطية من دون أحزابٍ سياسية. وهذه الأخيرة هي في العمق تعبيراتٌ سياسية عن مصالح طبقية، أو فئوية في الأدنى. ووظيفتها الأساس هي الترافع، وتأطير المواطنات والمواطنين، والإسهام في تدبير الشأن العام، والعمل من أجل المصلحة العامة على أساس مشاريع مجتمعية وسياسية. ومن ثمة فالأحزاب السياسية ضرورة حيوية للديمقراطية وللاستقرار السياسي والاجتماعي.
وإن انزاحت الأحزابُ السياسية عن أدوارها ووظائفها، أو أُزيحت عنها، ولم تُعبر فعليا عن مصالح الطبقات أو الفئات التي تمثلها، فإن حركة المجتمع والتاريخ كفيلة بإفراز أدوات أخرى للتعبير والفعل، أدوات قد لا تكون ديمقراطية أحيانا. وهنا تكمن مخاطر الانزلاق والانحراف يسارا أو يمينا أو عشوائيا.
فالأحزاب السياسية، التي خصها الدستور بوظيفة تأطير المجتمع، هي صمام أمان للديمقراطية والاستقرار السياسي والاجتماعي، حيث تعبر فعليا عن مصالح من تمثل في المشهد السياسي والصراع الاجتماعي، وتمارس التنافس السياسي على أساس برامج وتصورات، في إطار التعدد الحقيقي، وبأدوات ديمقراطية وضوابط دستورية وأخلاقية.
غير أنه لقيام الأحزاب بهذه الوظائف على أحسن وجه، ينبغي عليها أن تدافع عن مكانتها، وأن تمارس صلاحياتها، وأن تكون قوية وفاعلة وجادة ومُبادِرة وواضحة وديموقراطية ومستقلة القرار وذات مصداقية.
كما تحتاج ممارسة الأحزاب لوظائفها إلى بلورة إرادة سياسية واضحة تُــوفر شروط فضاءٍ سليمٍ، بما يُتيح لهذه الأحزاب التطور والتطوير والتعبير وإمكانيات حقيقية وفعلية للإسهام في تأطير المواطنات والمواطنين، وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وفي التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية.
3/ فضاءٌ ديموقراطي بمؤسسات قوية، في كنف المَلَكية الدستورية، الديمقراطية، البرلمانية والاجتماعية.
إن الديمقراطية الحقة هي ضمانة للاستقرار الذي هو بدوره ضروري للتنمية والتقدم الاجتماعي. هذا الأخير لا يمكنه أن يتم إلا في ظل الأمن والاستقرار والثقة واليقين في الحاضر والمستقبل.
وعلى هذا الأساس، يؤكد حزبُ التقدم والاشتراكية على إيمانه الراسخ بدور المؤسسات، وعلى رأسها المؤسسة المَـــلكية التي تضطلع، تاريخيا ودستوريا، بدورٍ ريادي، وتحظى بمكانةٍ محورية في المجتمع، بما يجعل دائماً التطلعاتِ مُــــتَّـــجِـــهةً نحوها، والآمالَ معقودةً عليها، لدعم وقيادة وتوجيه الإصلاح، بِــــسُـــمُــوٍّ على المشارب الفكرية والسياسية، وفي كنف دستورٍ متقدم يضمن ممارسة كافة المؤسسات الدستورية الأخرى لصلاحياتها كاملةً، وذلك في إطار فصل السلط وتوازنها وتكاملها وتعاونها.
لقد أكد دستور 2011 على طبيعة النظام السياسي المغربي، من خلال تجسيده في المَلَكية الدستورية، الديمقراطية، البرلمانية والاجتماعية. وهو ما يقتضي السعي الحثيث والتدريجي نحو بلورة ذلك على أرض الواقع، والمُضيٍّ قُدُماً في بناء الدولة الوطنية الديموقراطية القوية بمؤسساتها وبممارساتها السياسية السوية التي تحتاجها بلادُنا في مسارها التنموي.

إنَّ بناء الديمقراطية معركة طويلة، وتوطيدها يستلزم حياةً سياسية سليمة وتنافساً قانونيا وديموقراطيا بين القوى السياسية، تنافساً مبنياًّ على الأفكار والبرامج والأطروحات السياسية. والصراع السياسي لا يعني بأي حال التطاحن العقيم الذي لا يُنتج سوى الفراغ وخفوت العمل السياسي الجاد، ويدفع إلى مزيد من العزوف عن العمل السياسي المباشر، ويفتح الباب واسعاً أمام المغامرة والعفوية.
وتتطلبُ الحياة السياسية السليمة القدرة على العمل المشترك، في إطار مبدأ التعددية، حول الملفات والقضايا المشتركة، ولا سيما منها القضايا المُوَحِّدة، وتلك المُجَسِّدَة للمصلحة الوطنية العليا، وكذا التقبل المتبادل لتنوع الشرعيات وتعددها، والارتقاء بالخطاب السياسي، والتقيد بقواعد التنافس الديموقراطي.
إنَّ العمل المشترك لا يعني تخلي أيٍّ كان عن أفكاره وتوجهاته ومقارباته وأدواته في الصراع، الذي يبقى طبيعيا في مجتمع طبقي يُمارَس فيه صراع طبقي في كل الواجهات ومنها الواجهة السياسية. لكن على أساس أن تكون أدواتٍ ديمقراطيةً وقانونية وسياسية.
ويرى حزب التقدم والاشتراكية أن من بين متطلبات المرحلة، للخروج من الركود وضبابية الأفق، ومن رداءة المشهد السياسي وضعفه، إعادةُ بناء الثقة بين كل مكونات المشهد السياسي الوطني.
4/ بروز أدوات وأشكال جديدة مؤثرة في الفضاء السياسي
أحدثت الثورة الرقمية تغييراتٍ جذرية في كافة مناحي الحياة العصرية. إلا أن تأثير وسائل الاتصال الحديثة لم يعد مُقتصراً على نمط الحياة الفردي، بل تعدى ذلك ليشمل أيضا مجالات الفضاء العمومي، لا سيما من خلال الإمكانيات التي باتت تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي، من حيث سرعة نقل الخبر، وكثافة التعليق، وإمكانية التعبئة الافتراضية المؤثرة في مجريات الواقع، كما حدث في عدد من الحملات ذات البُعد التضامني، أو الاحتجاجي. وهو ما يؤشر على انبثاق أداة قوية جديدة للتأثير في الفضاء السياسي.
في نفس الوقت، فإن المجتمع المدني صار، بحكم الدستور، مخولاً، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. كما صار بالإمكان تقديم الملتمسات والعرائض. وهو ما يدل على أن فضاء التأثير على القرار السياسي المؤسساتي، ولو في حدود معينة، صار مفتوحاً أكثر.
ومن الأدوات الجديدة المؤثرة أيضا في الفضاء السياسي نجد الحركات الاجتماعية المختلفة، والتي تتخذ، بشكلٍ تصاعدي، صيغاً متنوعة: تنسيقيات فئوية؛ ائتلافات مهنية؛ حركات مطلبية موضوعاتية…. إلخ.
إن هذه الأشكال والأدوات الجديدة في التعبير بقدر ما تحمل من آفاق بخصوص إمكانية توسيع مجال المشاركة السياسية والاهتمام بالشأن العام، بقدر ما تطرح من تحديات على مستوى التأطير ووضوح الأفق النضالي. كما أنها تطرح أسئلة قوية على الأحزاب السياسية والنقابات على صعيد تجديد أساليب العمل. وهو ما ستتناوله هذه الوثيقة في الباب الثالث.
5/ الديموقراطية التمثيلية أمام عوائق وانحرافات
تقوم الديموقراطية التمثيلية على التنافس البرنامجي التعددي، وعلى الاقتراع لاختيار من يمثل الإرادة الشعبية. كما تقوم على مبدأ التفويض الانتدابي من طرف المجتمع إلى المؤسسات المنتخبة. كما تقوم على المحاسبة السياسية عبر الانتخابات.
وإلى جانب ما تعيشه الديموقراطية التمثيلية من تحدياتٍ حقيقية عالميا، تُضافُ، في سياقنا المغربي، تلك الانحرافاتُ المتمثلة، خصوصا، في استعمال النفوذ أو المال أو الدين أو العِرق أو الضغط أو الجهل أو الفقر أو أيِّ أدواتٍ ووسائل أخرى تُفرغُ التنافس الانتخابي البرنامجي من محتواه، كما تُفقد الاقتراع معناه ومغزاه، وتؤدي إلى خريطة سياسية مشوهة ومؤسساتٍ منتخبة معطوبة. مما يزيد من نفور المجتمع من السياسة، في الوقت الذي يتعين مواجهة هذه السلوكات والممارسات غير السليمة والمسيئة للديموقراطية وللوطن.
الفصل الثالث: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية والثقافية وسؤال الحكامة
الفرع الأول: مكتسبات اقتصادية مُستنفَذَة دون أن يستفيد منها الجميع بنفس القدر
1/ المغرب في مواجهة التداعيات الاقتصادية للجائحة: عوامل الصمود ومظاهر الاختلال
شكلت جائحة كوفيد 19 مِحَكًّا حقيقيا لمدى متانة نسيجنا الاقتصادي الوطني، بالنظر إلى كون هذه الأزمة الصحية اتسمت بحدة غير مسبوقة، وشملت آثارها جميع مناحي الحياة. حيث لجأت بلادُنا، على غرار معظم بقية العالم، إلى إجراءات الإغلاق، تأسيساً على خيار الأولوية للحق في الصحة والحياة. مما تسبب في توقفٍ شبه تام للعجلة الاقتصادية. واختلفت مستوياتُ مقاومة الآثار الاقتصادية للجائحة بِحَسب قوة وتماسك الآلة الاقتصادية لكل بلد.
وتواجِهُ بلادُنا، حالاً وفي المنظور القريب والمتوسط، على غرار باقي البلدان، انعكاساتٍ اقتصادية سلبية من جراء جائحة كورونا، التي تُضافُ إليها عوامل أخرى، ستأتي الوثيقة على تناولها لاحقاً.
لقد تمكنت بلادنا من الحد من تفشي الوباء، وتفادت، بالتالي، سيناريو انهيار الاقتصاد الوطني، بفضل ما حققته من مكتسباتٍ اقتصادية لا تُنكَــر، لا سيما خلال العقدين الأخيرين. لكن مسار التنمية الاقتصادية ببلادنا أفرز مظاهر متفاوتــة النجاعة تتأرجح بين عناصر النجاح وعوامل الإخفاق.
هكذا، برزت حَسَنَاتُ عددٍ من الإصلاحات الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بمِحْوَرِيَّــةِ دَوْرِ الدولة وأهمية الاستثمار العمومي في تشييد بنياتٍ تحتيةٍ مهمة، والارتكاز على تنوعٍ نسبي في الاقتصاد المغربي، واعتماد استراتيجياتٍ قطاعيةٍ في مجالاتٍ اقتصاديةٍ متنوعة.
لكن يتعين الإقرار بأنَّ تلك السياسات الاقتصادية، رغم أنها مَكــَّــنَــتْ من تطويرِ قدرات وأداء الاقتصاد الوطني وتقوية نسيجه، ومن الحفاظ نسبيا على التوازنات الماكرو اقتصادية، والرفعِ من معدلات النمو السنوية، لا سيما خلال العقد الأول من هذا القرن إلى حوالي 5%، مع ما واكبَ كلَّ ذلك من تقدمٍ تكنولوجي وتقدمٍ رقمي، إلا أنَّ نَفْسَ السياسات الاقتصادية لَمْ تَأْتِ بِكُلِّ ما كان منتظرا منها، لا سيما على مستوى الانعكاس الاجتماعي وتوزيع الثروة الوطنية واستفادة الجميع من ثمرات النمو الاقتصادي، على عِلَّاتِه.
وفي المجمل، برزت، بشكل واضح، هشاشةُ أوضاع المقاولة، حيث أن عدداً كبيراً من المقاولات، في معظم القطاعات، أفلست أو توقفت عن العمل أو خفضت من درجة نشاطها وأجرائها. وستكون استعادة عافية النسيج الاقتصادي الوطني، بشكلٍ كامل، بالغة التعقيد لكن غير مستحيلة، في السنوات القليلة المقبلة.
ومع كل المجهودات الوطنية في المجال الاقتصادي، ولا سيما على مستوى الاستثمار العمومي، لا يزال اقتصادنا يعاني من نُمُوٍّ هش يرتهن إلى العامل المناخي والتقلبات الخارجية. ولا يزال النمو الاقتصادي متواضعاً ودون 3% في السنوات الأخيرة من العقد الأخير. ولا تزالُ الثروة الوطنية متمركزة بين أيدي أقليةٍ ويجري تداوُلُها َفي مجالاتٍ ترابيةٍ محدودة. كما لا يزال القطاع غير المهيكل مستشريا بما يؤثر سلباً في الاقتصاد الوطني. وفي نفس الوقت فإن عدداً من اتفاقيات التبادل الحر تحتاج إلى تقييم ومراجعة، بالنظر إلى تأثيرها السلبي على النسيج الاقتصادي الوطني.
كما تعرف الحكامة في المجال الاقتصادي اختلالاً شديداً، وتخترقها مظاهر الريع والفساد والاحتكار غير المشروع وعدم شفافية التنافس الاقتصادي وتضارب المصالح. بالإضافة إلى عدم تأطير الاستراتيجيات والبرامج الاقتصادية بمقاربات التخطيط والتقييم ثم التقويم.
إن كل هذه المظاهر، وغيرها، تستنزف إيجابيات ومكتسبات الاقتصاد الوطني، وتُـــعيق بناء اقتصاد وطني قوي ومُدمِج، مُنتِـــج، تنافسي، وذي مردودية إنتاجية عالية.
2/ تقلبات دولية ولا يقين عالمي يطرحان بحدة أسئلة السيادة الاقتصادية الوطنية
في اللحظة التي بدأ العالَمُ يتلمس طريقه نحو التعايش مع الأزمة الوبائية، والخُروج منها بأقل الأضرار، بأفق تجاوز آثارها الاقتصادية الوخيمة، برزت أوضاعٌ دولية خطيرة مست الاستقرار العالمي، أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية، بامتداداتها وخلفياتها المنطوية على الصراع حول النفوذ والهيمنة بين الأقطاب المختلفة.
هكذا، تسارعت الأحداثُ، فتأثرت سلباً سلاسلُ الإنتاج والتوريد دوليا، وارتفعت معظم أسعار الطاقة والمواد الأولية والاستهلاكية، وتَعَسَّرَ الولوج إليها، وتصاعدت الأعمالُ الاحتكارية للمضاربين. ودخل العالم، ومنه بلادنا، في حالةٍ من اللايقين التي لم تنقشع غيومها بعد، حيث هناك توقعات بأن يشهد الاقتصاد العالمي استمراراً في الانكماش الحاد الذي يُجهَــــلُ مداه، بالنظر إلى تفاقم المؤشرات الاقتصادية السالبة وإصابة عددٍ من البلدان بالتضخم المصحوب بالركود الاقتصادي stagflation. مع تسجيل انتعاشٍ في الصناعات الحربية وفي صناعة وتجارة الرقميات.
إنَّ هذه التقلبات الدولية الحادة لها انعكاسات اقتصادية خطيرة على العالم، ومنه بلادنا. والشعوب هي من يؤدي فاتورة هذه الاضطرابات التي تبرهن، مرة أخرى، على فشل النموذج الاقتصادي الرأسمالي، حيث تتسع التناقضات الطبقية والفوارق الاجتماعية؛ ويتفاقم الفقر حتى في بلدانٍ لطالما عُرفت بأنها “قوية وغنية”.
إنَّ كل هذه المؤشرات تدل على أن الأزماتِ مرشحةٌ لأن تتوالى، وأن تصبح بنيوية وليست فقط ظرفية. بما يُفضي إليه ذلك من إمكانية نُشوب أزمة غذائية عالمية، ملامحها بدأت في الظهور. وستكون البلدانُ والفئات الفقيرة ضحيتها الأولى.
تأسيساً عليه، فإنَّ مجمل البلدان صارت تنحو، بشكلٍ أقوى، نحو تكييف وتعديل سياساتها الاقتصادية وشراكاتها الدولية وعلاقاتها الخارجية، بما يضمن لها توفير الأمن الغذائي والصحي والطاقي والصناعي. وهو ما ينبغي أن تسير عليه بلادُنا.
الفرع الثاني: مسألة الحكامة وإعمال دولة القانون في الاقتصاد
1/ إعمال دولة القانون ومحاربة الفساد والريع: شعار جوهري دون تفعيل
كثيراً ما تم رفع شعار الحكامة الجيدة ومحاربة الفساد في المجال الاقتصادي. خلال السنوات الماضية. ولا يمكن إنكار أنَّ بلادنا حققت بعض المكتسبات بهذا الصدد. لكنها مكتسبات لم تَـــرقَ بعد إلى مستوى التفعيل الكامل والحاسم الذي يجعل اقتصادنا شفافا وحُرًّا وسليماً.
إن إعمال دولة القانون في المجال الاقتصادي هو مُتَطَلَّبٌ ديموقراطي واقتصادي، في نفس الوقت، تتوقف عليه تنمية بلادنا وكرامة شعبنا. ومما لا شك فيه أن الاختلالات التي تشوب حكامة القرار الاقتصادي وتدبيره تُفَوّتُ على وطننا فرصاً كبيرة للنمو الاقتصادي ولإقرار العدالة الاجتماعية، ناهيك عن الأثر السلبي للممارسات الفاسدة على المسار الديموقراطي.
هكذا، فإنَّ الاستثمار يفتقد، في كثير من الأحيان، إلى المناخ المُحفـــز للأعمال، من حيث تجاهل القانون وتجاوزه أو خرقه أو التحايل عليه. كما لا تزال الاحتكارات غير المشروعة والممارسات المنافية لقواعد المنافسة الشريفة مستشرية في الفضاء الاقتصادي، كما هو الحال الآن في قطاع المحروقات بشكلٍ صارخ. بالإضافة إلى تضارب المصالح واتساع رقعة اقتصاد الريع، وكل أشكال الغش الضريبي والاجتماعي والإيكولوجي.
وفي نفس الوقت، لا يزال جزءٌ من النشاط الاقتصادي الوطني يتم بالاعتماد على الشغل السري غير المصرح به. كما لا تزالُ المساطر والممارسات الإدارية والقضائية معقدة وبطيئة وغير حائزة على الثقة اللازمة من طرف الفاعلين الاقتصاديين، في حين تواجه تجربة اللامركزية تحجيماً لأدوارها عموماً، وفي توطين الاستثمار والتنمية الاقتصادية على وجه الخصوص.

2/ قوانين ومؤسسات متقدمة للحكامة والتقنين دون تحقيق الفعالية المنشودة
إن المظاهر المذكور بعضُها أعلاه تتناقض تماماً مع توفر بلادنا على السند الدستوري والقانوني، بشكلٍ متقدم، لمؤسسات كثيرة منوطة بها مهام الحكامة والتقنين والضبط والوساطة وحماية الحقوق وتأطير التنمية والديموقراطية التشاركية. وذلك من قبيل مجلس المنافسة، الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، مؤسسة الوسيط، مجلس أخلاقيات القيم المنقولة، المجلـس الاقتصـادي والاجتماعـي والبيئي، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس الأعلى للحسابات، مجلس الجالية المغربية بالخارج، المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز، الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري
وبالإضافة إلى ذلك، تمكنت بلادنا من إنتاج نصوص تشريعية متعددة، من قوانين تنظيمية، وقوانين إطار، وقوانين عادية، كان من المفترض أن تُسهم في الارتقاء بالحكامة الجيدة. ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر: ميثاق للمرافق العمومية، قانون الحق في الحصول على المعلومة، وميثاق الاستثمار.
وإذا كانت بعض المؤسسات الدستورية المذكورة، وبعض التشريعات ذات الصلة، قد وجدت طريقها إلى التفعيل، بشكلٍ متفاوت، وهي بصدد مراكمة التجربة إيجاباً، فإن أخرى لا تزال في وضعية جمود من حيث التفعيل. كما أن الانطباع السائد لدى الرأي العام ومعظم الفاعلين هو أن السلطات المستقلة للضبط والوساطة والحكامة لم ترتق بعد للقيام بأدوارها الدستورية على أكمل وجه، سواء على مستوى استقلالية القرارات وممارسة الصلاحيات، أو على صعيد تفعيل التوصيات، وأحياناً من حيث الافتقار إلى الوسائل.
وهو ما يدفع إلى ضرورة إعادة طرح إشكالية الحكامة، ليس من الزاوية القانونية والمؤسساتية والشكلية فحسب، ولكن بشكلٍ أوسع نابع من التأويل الديموقراطي للدستور في تدبير الشأن العام، ولا سيما من حيث القدرة الحقيقية على الفعل والتأثير وممارسة الاختصاصات، بصورة مستقلة وحيادية وناجعة.
الفرع الثالث: السؤال الاجتماعي ومسألة التفاوتات المجالية
1/ أوضاع اجتماعية تتفاقم وسياسات عمومية لا تلبي الانتظارات
اتسمت العشرون سنة الأخيرة، على الصعيد الاجتماعي، بالرفع الملحوظ من مستوى عيش المغاربة، وبتحسن نسبي للخدمات الاجتماعية، كَـمًّا ونوعا، في الصحة والتعليم والسكن والربط بشبكتي الماء والكهرباء. كما اجتهدتْ بلادُنا في مُحاربةِ الفوارقِ المجالية، وفي السعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، حيث تم اعتماد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وفي الشروع منذ حكومة التناوب التوافقي في تنفيذ الورش الطموح المتعلق بالحماية الاجتماعية، إلى جانب عدد من الآليات الاجتماعية التي أسهمت في دعم قدرات الفئات المستضعفة والوسطى.
غير أنه ما زال هناك خصاص اجتماعي هائل، مع استمرار مظاهر الفقر والهشاشة، والتفاوتات الطبقية والمجالية التي تصل أحياناً في درجتها إلى مستوى التنافي مع أبسط وأدنى شروط الكرامة الإنسانية. وهو ما عرت عنه جائحة كوفيد 19، حيث وجدت ملايين الأسر المغربية نفسها أمام ضرورة العيش على الدعم الذي خصصته الدولة. فجميع المؤشرات تدل على اتساع الهوة بين العُشُر من السكان الأكثر فقرًا والعُشُر الأكثر غنىً. وذلك بناء على المعطيات المرتبطة باستهلاك الأسر، أما إذا أخذنا بعين الاعتبار الإحصائيات المتعلقة بالدخل والثروة. فالفوارق الاجتماعية تبلغ مستوياتٍ جداًّ مقلقة، وأصبحت تُهدد بجدية الاستقرار الاجتماعي. وفي هذا الإطار، فإن الطبقات الكادحة والوسطى، في الحواضر كما في القرى، تُعانيان من تدهورٍ شديد للقدرة الشرائية.
في نفس الوقت، تُسجَّلُ هوة سحيقة بين مظاهر التطور الاقتصادي وخلق الثروة من جهة، وبين حُسن توزيعها بعدالةٍ اجتماعيةٍ ومجاليةٍ أكثرَ وَقْـــعًا على الفئات والمناطق المحرومة. كما أن منطق الاستهداف الاجتماعي، كما هو عليه إلى حدود الآن، تكتنفه انحرافاتٌ حقيقية، مما لا يجعل الدعم العمومي يصل كله إلى الطبقات المُستحِقَّة له.
لذلك، ورغم كل المجهود الوطني المبذول على الصعيد الاجتماعي، لا زالت بلادُنا تعاني من الأمية ونقصِ جودة خدمات التعليم والصحة والبنيات الأساسية، خاصة في المناطق التي لم تستفد بنفس القدر من ثمار المجهود التنموي الوطني. كما لا تزال البطالة مستشرية في أوساط الشباب عموماً والخريجين تحديداً، علاوة على الفجوة الرقمية الصارخة اجتماعيا ومجاليا، علماً ان الرقميات صارت محددا أساسيا في الإدماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمواطنات والمواطنين.
أيضا، فإن السياسات العمومية في المجال الاجتماعي يطبعها التشتت ونقص الالتقائية وغياب الرؤية التخطيطية العامة. مما يطرح بحدة مسألة مأسسة التضامن الوطني، ومراجعة مقاربة الاستهداف الاجتماعي، وضمان تناسق ووحدة وحكامة كافة البرامج الاجتماعية.
2/ التفاوتات المجالية: مغرب يسير بسرعاتٍ متباينة
بذلت بلادُنا، ولا تزال، مجهوداً ماليا ومؤسساتيا كبيراً فيما يتعلق بمحاولات تقليص الفوارق الصارخة بين المجالات الترابية. وهي فوارق تجد لها جذوراً منذ فترة الاستعمار، حيث التوصيف الشهير “المغرب النافع والمغرب غير النافع”.
إلا أن كل المجهودات لم تًؤتِ ثمارها كاملةً بعدُ، والمكتسبات في هذا الشأن لا تزال محتشمة، حيث أن ثلاث جهات من بين الجهات الاثنتي عشرة تستأثر لوحدها بحوالي 60 %من الثروة الوطنية. ولا يزال المواطنات والمواطنون في الجهات الفقيرة يُعانون أكثر من غيرهم من الفقر والبطالة وضعف الولوج إلى الخدمات الاجتماعية. وهو ما يعني إقصاء فئات واسعة من المجتمع من الاندماج الطبيعي في سيرورة الإنتاج والاستفادة المتكافئة من التوزيع العادل لخيرات البلاد.
كما يُسَجَّلُ ضعفُ التوطين الترابي للتنمية وللاستثمار، والعمل المفرط بمقاربة المركزية والتمركز، وضعف في التوزيع التنظيمي للمؤسسات والإدارات العمومية ترابيا. كما يُسجَّل نقصٌ كبير في عدالة توزيع الاستثمار العمومي على مناطق بلادنا التي تشكو فيها جهاتٌ وأقاليم من ضعفٍ شديدٍ في الموارد المالية والبشرية.
وعموماً، فإنَّ النهوض بالمناطق النائية والجبلية وذات الخصاص، في إطار السياسات العمومية الحالية، لا يزال بعيد المنال. كما أن الصناديق المخصصة للتضامن بين الجهات وتأهيل المحرومة منها لم يظهر تأثيرها الإيجابي بعدُ. كما تعاني الهيئات اللامركزية من عوائق متعددة، مالية وتدبيرية وهيكلية. أما اللاتمركز الإداري فرغم الميثاق الذي صدر لتأطيره فإنه ورشٌ لا يزال مُعلقا، حيث الإدارات المركزية هي صاحبة القرار الأساسي في معظم الأحوال.
إن الوضع يتطلب إرادة سياسية قوية وسياسات عمومية ناجعة وإرادية لتقوية مناعة المجالات الترابية وتحقيق العدل والمساواة بينها، مع تعزيز كفاءة الاستهداف المجالي للسياسات العمومية.
الفرع الرابع: المسألة الإيكولوجية
1/ ضعف إدماج البُعد الإيكولوجي في السياسات العمومية
تنامى الوعيُ الوطني، في السنوات الأخيرة، بأهمية الإيكولوجيا كَبُعدٍ أفقي في السياسات العمومية، وكنمطٍ اقتصادي أيضا، من خلال الفرص التي يتيحها كُلٌّ من الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الدائري والاقتصاد الأزرق.
وبالفعل، بلادُنا بصدد مُراكمة تجربتها الخاصة فيما يرتبط بإدراج البُعد الإيكولوجي في التنمية، مؤسساتيا وتشريعيا واقتصاديا وتدبيريا وتمويليا وعلميا. ومن ذلك مشروع الانتقال الطاقي والطاقات المتجددة الرامي إلى تحقيق مبدأ “الطاقة النظيفة”. إلاَّ أن الطريق لا يزالُ طويلاً ومحفوفاً بأشكال المُقاومة، طالما أنَّ منطق الربح يتناقض مع منطق الحفاظ على الطبيعة ومواردها، خاصة عندما تُفتقد الحلول العلمية والتقنية التي تُوفِّقُ بين مستلزمات الإنتاج والاستهلاك وبين متطلبات صون البيئة وحقوق الأجيال اللاحقة.
والمُلاحظُ أنَّ بلادنا بلورت أرضية مهمة لتأطير التنمية المستدامة، لا سيما من حيث التوجه نحو الاعتماد على الطاقات المتجددة والسعي نحو الحفاظ على ثروات بلادنا وصيانة حقوق ومستقبل الأجيال القادمة، غير أن التفعيل والوتيرة لا يزالان دون التطلعات. ذلك أنَّ التردد يشوبُ الحكامة البيئية والإدماج الكامل للبُــعد الإيكولوجي، كما يشوبُ استحضار َ التغيرات المناخية في السياسات القطاعية. ولا يزالُ تطوير اقتصاد بديل مُحترِم للبيئة بعيد المنال. وفي نفس الوقت فإن بلادنا لم تُــدرج بعدُ، بالشكل الكافي، المعيار البيئي ضمن مقاييس التنافسية الاقتصادية ومعايير دعم المقاولة. كما أن البحث العلمي الإيكولوجي لم يحظ لحد الآن بما يستحق من عناية واهتمام. كما أنَّ الدولة لا تُعطي دائماً القدوة في الحفاظ على البيئة من خلال المشاريع العمومية.
2/ موارد طبيعية تتعرض للاستنزاف
ينبغي أن يقوم النمو الأخضر على حماية الموارد الطبيعية من الاستنزاف ومن الاستغلال غير المُعقلن. فغالباً ما لا يتم إدراج الكلفة البيئية في تقييم الكلفة الإجمالية للإنتاج. فالماء والهواء والتربة، مثلاً، موارد أساسية لكن لا يتم الاكتراث بضياعها عند الإنتاج أو عند الاستهلاك. ولذلك فإن السياسات العمومية مُطالَبة بالتحفيز على الاستهلاك المسؤول والإنتاج العقلاني ومحاربة كل أشكال الهدر والتبذير.
إنَّ التجارب البيئية الناجحة تقوم على النظر إلى النفايات على انها موارد جديدة. كما تنبني على التحول من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري، حيث يشـكل هذا الأخيرُ حـلا ناجعا وبديـلاً ذا مردودية وقيمة مضافة، اقتصاديا وماليا وإيكولوجيا وصحيا. وهو ما لا يزالُ مفقوداً ومحدوداً جدا في مقاربة بلادنا لمسألة المواردـ، سواء على المستوى العملي والتمويلي، أو على مستوى التأطير القانوني، والوسائل التقنية، أو من حيث تشجيع القطاع الخصوصي وتحسيس المواطنات والمواطنين.
ومن الواضح أن بلادنا تتوفر على موارد طبيعية مهمة (منجمية ومعدنية؛ بحرية وسمكية؛ نباتية وغابوية؛ تربة متنوعة ومياه جوفية…….؛ إلخ) تشكل ثروة وطنية تتعرض يوميا إلى الاستنزاف، وإلى النهب أحياناً، في تنافٍ مع الممارسات الفضلى والمعايير البيئية. الشيء الذي فتح المجال للعشوائية والارتجال وحرمان الاقتصاد الوطني من قيمة مضافة أساسية.
3/ أزمة الماء أُمُّ الأزمات
لقد راكمت بلادنا تجربة طويلة ومهمة في تخطيط وتدبير الموارد المائية. وهو ما مكن بلادنا من اجتياز فترات جفافٍ حادة في العقود القليلة الماضية. وشكلت السدود الكبرى ركيزة أساسية في السياسة الوطنية المائية التي استطاعت تأمين التزويد بالماء الصالح للشرب ومياه السقي.
إلا أن السياسة الوطنية في مجال المياه استنفذت ذاتها، وباتت أزمة الماء في بلادنا شبحاً حقيقيا وجديا، لأسباب موضوعية ترتبط أساساً بالموقع الجغرافي للمغرب في منطقة ساخنة، وبآثار التغيرات المناخية وتصاعد الظواهر المناخية القصوى، وبتناقص المواقع الصالحة لبناء السدود الكبرى جيولوجيا وجغرافيا. وذلك بالإضافة إلى أسباب تدبيرية وذاتية تتعلق أساساً باستنزاف الفرشات المائية، والاستعمال غير المشروع للمياه، والاستغلال غير العقلاني للموارد المائية في أنشطة فلاحية تفوق متطلباتها بكثير قدراتنا المائية، بالإضافة إلى سيادة الثقافة المُستهينة بالموارد المائية وغير الواعية بخطورة ندرتها على الاستقرار واستمرار مختلف الأنشطة الحياتية، وكذا ضعف صيانة قنوات الجر وعدم الاستثمار في الكافي في تأهيل منظومات السقي الفلاحي والتزويد بالماء الصالح للشرب.
إن الدراسات والتقارير العلمية كلها تُؤكد على أن بلادنا تتجه نحو الإجهاد المائي الحاد، وتتناقص سنويا نسبة تخزين المياه السطحية والجوفية الغير القابلة للتجديد. وحصة الفرد من المياه في انخفاض مطرد. ومناطق عديدة في بلادنا صارت مهددة بالعطش أو حتى بأن تصير مصنفة ضمن المناطق القاحلة. علماً أن تفاوتا كبيراً يُسجَّلُ فيما يخص توفر الماء بمختلف الأحواض المائية.
الفرع الخامس: القضايا المجتمعية والثقافية والقيمية
1/ تحولات مجتمعية وقيمية عميقة في حاجة إلى استيعاب
يُمكن الجزم بأن التحولات المجتمعية والقيمية والثقافية التي تعتري المجتمع المغربي، في هذه المرحلة التاريخية، عميقة وسريعة.
فهناك التحول الديموغرافي، الذي من مؤشراته ارتفاع نسبة التمدن وظاهرة هوامش المدن. بالإضافة إلى اتجاه الهرم الديموغرافي نحو الشيخوخة، بما سيطرحه ذلك مستقبلاً من تحديات تتعلق بالرعاية الاجتماعية للأشخاص المسنين. وفي نفس الوقت فإن تحولات نوعية تطالُ الأسرة المغربية باعتبارها نواة المجتمع، وذلك على مستوى اعداد أفرادها والعلاقات بينهم، وتزايد مساهمة المرأة في تحمل الأعباء المادية للأسرة.
ولعل أكبر تحولٍ يعرفه المجتمع المغربي هو بدايةُ هيمنة الرقمنة على مختلف مناحي الحياة، مع ما يطرحه ذلك من أسئلة وتحديات على مستوى شكلِ الوجود الإنساني في ظل الذكاء الاصطناعي، وعلى مستوى الجيل الجديد من الحريات والحقوق الإنسانية.
إن التحول الرقمي لم يعد مقتصراً تأثيرُهُ على تغييرات في أدوات ممارسة الأنشطة الحياتية، بل بات يشمل منظومة القيم والسلوك والثقافة.
إننا، اليوم، أمام جيل لا يعرف سوى نمط الحياة الرقمي. وصار بقية الناس يتعايشون، تدريجيا، مع أسلوب العمل الرقمي. وذلك كله مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، ومع بروز ما يسمى بالمؤثرين. وبات المغاربة يطلعون بسهولة على ما يجري عالميا، مما يقوي إيجاباً الاتجاه الإنساني الكوني عموما، مع مخاطر التنميط والتبضيع والاستهلاك الأعمى، ومما يرفع من سقف انتظارات الرفاه الاجتماعي، ويهدد بالاستيلاب الثقافي والقيمي.
ومن التحولات المجتمعية القيمية، أيضاً، ثنائية وتعايش التفكير والممارسة المنطويتين على المحافَظَة والتقليد والنقل، مع الانبهار بالأنماط الاستهلاكية للسلع والقيم والممارسات التحديثية. وكذلك تراجع قيم التطوع والحمل الجماعي للقضايا المجتمعية العامة، وضعف المشاركة الفعلية في الشأن العام، في مقابل تنامي التعبيرات الافتراضية، وتراجع الوسائط المجتمعية، وضعف القراءة، وتراجع الإنتاج الفكري والإبداعي، وخفوت دور المثقفين والصُناع الجادين للرأي العام. ينضافُ إلى ذلك فشلُ منظومة التربية والتكوين رغم كل تجارب الإصلاح، وتراجع الوظائف البيداغوجية والقيمية لمؤسسات التنشئة، دون إغفال آثار استمرار ظاهرة الأمية التي يعاني منها زهاء ثلث المواطنات والمواطنين.
إن كل هذه التحولات، وغيرها، بصدد إحداث تغييرٍ عميق في المعايير المؤدية إلى الشعور بالانتماء، وذلك في اتجاهٍ ينحو نحو ترسخ مقاييس البراغماتية والفردانية وهيمنة الماديات على حساب القيم.
2/ ضعف في توظيف الثقافة والقيم والعوامل اللامادية في مسار التنمية
إن حزب التقدم والاشتراكية يُلِحُّ على الأهمية البالغة لموضوع الثقافة والعلم والإبداع والانفتاح وتعميم المعرفة، ضمن العوامل غير الاقتصادية في التنمية. ولا يعتبره أبداً موضوعاً قطاعيا، بل يُدرجه باستمرار ضمن أفكاره المحورية والأفقية التي تشكل مُرتَكزاً ومدخلاً رئيساً للإصلاح.
وستظل مسيرة التنمية مُحاطة بعوائق بنيوية، طالما أن بلادنا، على الرغم من جهودها ومكتسباتها في المجال الثقافي والقيمي، فإنها لا تزال بعيدة عن تعميم المعرفة وتكوين الناشئةِ تكوينا قائما على التقيد بقيم الوطنية والمواطنة. فالمغرب لا يزالُ متعثراً ومتردداً في الاختراق الحاسم لعالم الحداثة ومجتمع المعرفة والقيم الإنسانية الكونية.
كما لا يزال محدوداً انتشارُ التفكير العقلاني والتحليلِ العلمي. كما لا تزال معيقاتٌ مختلفة تعيق صون بلادنا للتنوع الثقافي وللتدبير الجيد للغتين الرسميتين العربية والأمازيغية والاعتناء بالثقافة الحسانية، وذلك في إطار وحدة الانتماء.
كما يُسجَّلُ تراجُعُ دور المثقفين والمفكرين والمُبدعين. ولا يزال النظرُ إلى المسألة الثقافية يتم، في الغالب، بشكلٍ ضيق، وليس كرافعة لقيمة شعبنا بين الشعوب، وكفضاءٍ منتجٍ يتيح بدوره فرص الاستثمار والشغل والدخل.
3/ غياب التعبئة المجتمعية سببٌ في محدودية وَقْعِ الإصلاحات
من المؤكد أن المغرب حاليا لا يعوزه تشخيص أوضاعه، بنجاحاتها وإخفاقاتها. كما لا يفتقر رسميا إلى الاستراتيجيات والمرجعيات التي من شأنها أن تنير طريق الإصلاح في جميع المجالات. فالدستور، ووثيقة النموذج التنموي الجديد، وتقرير الخمسينية، وغيرها من المخططات والاستراتيجيات المتعلقة بالسياسات العامة، فضلاً عن الدراسات والأبحاث والتقارير التي تُصدرها مؤسسات دستورية وطنية، كلها أدبياتٌ تنطوي، منفردة وفي شموليتها، على كثير من الوجاهة والعمق، تشخيصاً وحتى استشرافاً. علماً أن كل ذلك لا يتنافى مع تعدد واختلاف التصورات والبرامج والرؤى الحزبية التي يتعين أن تتنافس على هذا الأساس.
لكن، بالمقابل، فإن الجميع يُدرك محدودية تحول الأفكار الواردة في كل الوثائق والمراجع المذكورة إلى واقعٍ ملموس، وإلى سياساتٍ ذات وقعٍ وأثرٍ على مستوى عيش المواطنات والمواطنين، ماديا ومعنويا.
ويعتبر حزبُ التقدم والاشتراكية أن إحدى الحلقات المفقودة التي تفسر هذه الهوة والمفارقة هي ضعف، بل غياب، التعبئة المجتمعية حول مختلف الإصلاحات وإشراك المجتمع في بلورتها وتطبيقها. وهو دورٌ يتعين على حزبنا أن يساهم في الاضطلاع به في علاقته بالمجتمع

الباب الثاني: البديل الديموقراطي التقدمي
بعد تسليط الضوء، في الباب الأول، على ما تحقق من مكتسبات وإيجابيات، وعلى أوجه القصور في السياسة التي اتبعتها بلادُنا في السنوات القليلة الأخيرة، وهي سياسة تدير ظهرها، على العموم، للاحتياجات الملحة للمواطنات والمواطنين، وتخدم بالأساس مصالح الأوليغارشية على حساب الفئات العريضة من شعبنا، فإن حزب التقدم والاشتراكية، واضعًا في اعتباره المسؤولية التاريخية والدور الإيجابي الذي يجب أن يلعبه، يقترح الخطوط العريضة لبديلٍ ديمقراطي تقدمي، لأجل فتح الآفاق أمام تنمية بلدنا، ومساعدته للتغلب على الأزمة الحالية.
إنه بديلٌ تقدمي من حيث كونه يتعارضُ مع التوجهات السائدة التي تُكرِّسُ جمود الوضع الراهن. وهو بديل طموح وواقعي يتوخى وضع البلاد على سكة التقدم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية.
وإنه بديل ديمقراطي، لأنه يعتمد على الديموقراطية كمدخل أساس لتنفيذه. وهو مطروح للنقاش الوطني ليحظى بالتفاف فئاتٍ عريضة من المواطنات والمواطنين والقوى السياسية والاجتماعية التي تناضل من أجل التغيير وتشاركنا هذا التوجه. بعبارة أخرى، فإن حزب التقدم والاشتراكية مستعد تمامًا للتعاون، مراعاة لمصلحة شعبنا، مع جميع المبادرات والنيات الحسنة التي تريد الانخراط في هذه المعركة.
إن البديل الذي يقترحه الحزبُ ليس رؤية طوباوية، بل إنه ينطلق من المعطيات الملموسة لبلدنا، ومن طبيعة التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية بتناقضاتها وموازين القوى السائدة فيها. بديل هدفه الأساسي تلبية الاحتياجات الأساسية لشعبنا، وتمكينه من شروط حماية كرامته.
على هذا الأساس، فإن البديل المُقترح من طرف الحزب يضع المواطن المغربي في قلب عملية التنمية، من خلال تحقيق نمو شامل اجتماعيًا وترابيا، والحد من التفاوتات بجميع أنواعها، وإعادة تخصيص الموارد وفقًا لهذه الأولويات. ولأجل تحقيق ذلك يتعين إجراءُ إصلاحات هيكلية، وتعبئة الموارد وإطلاق المبادرات، والإرساء الفعلي لدولة القانون في جميع المجالات.
الفصل الأول: وضع الإنسان في قلب العملية التنموية
يُعارضُ حزبُنا المقاربة القائمة على أنَّ آليات التطور الرأسمالي وقوانين السوق قادرة، بمفردها وتلقائيا، على تحقيق التنمية والتوازن الاجتماعي، من خلال إعطاء الأولوية لإنتاج الثروة على حساب نظام توزيعها العادل. بل يعتبر الحزبُ أن منطق النمو الاقتصادي لا يتعارض مع العدالة الاجتماعية، وأن العمليتين مترابطتان. وتُـــــبَـــيِّــــنُ التجربة أن المجتمعات التي يتم فيها توزيع الثروة بشكل منصف هي بالضبط تلك التي تُسجل أعلى معدلات النمو. كما أن اقتصادات هذه المجتمعات هي التي تُظهر أكبر قدر من الصمود في أوقات الأزمات، كما كان الحال خلال أزمة عام 2008، أو قريبًا جدًا منا، إبان أزمة كوفيد-19، وكذا في الأزمة الاقتصادية التي أعقبتـــها وما تزال متواصلة.
من هذا المنظور، فإن دور الدولة، كدولة حامية، ضابطة ومُـــنَــــمِّـــيَّـــة، هو دور مركزي. وهذا المنظور لا يستبعد مكانة المقاولة الخاصة، ككيان يخلق الثروة ويُحدثُ مناصب الشغل، ويكون مسؤولاً بيئيًا واجتماعيًا.
ويؤكد حزب التقدم والاشتراكية، بقوة، تمسكه بتنميةٍ مُـــــرَكِّزَةٍ على الذات Développement autocentré، وموجَّهَة نحو ضمان سيادتنا الوطنية في المجالات الاستراتيجية والحيوية.
الفرع الأول: الدلالات والمضامين السياسية لمفهوم الدولة الاجتماعية
إن “الدولة الاجتماعية” ليست مفهوماً فضفاضاً يتم استخدامه مناسباتيا من أجل استمالة الناخبين واللعب على الخلط بين المفاهيم. بل إنه نتاج تطور مجتمعات ديمقراطية متقدمة، وهو نابعٌ، أولاً وقبل كل شيء، من المنظومة الفكرية التقدمية لليسار. وقد حاولت بعضُ التيارات اليمينية استعارته واستغلاله بطرق ملتوية.
لا تعني الدولة الاجتماعية شيئا آخر غير وضع الإنسان في قلب العملية التنموية، كما دعا إلى ذلك المؤسسون والمفكرون المنتمون للمدرسة الاشتراكية. وبهذا المعنى، فمفهوم الدولة الاجتماعية ثمرةٌ للنضالات الاجتماعية التي خاضها العمال والشعوب في أجزاء مختلفة من العالم. ولم تكن بلادنا بمعزل عن هذه الدينامية، من خلال تحقيق إنجازات مهمة على المستوى الاجتماعي، بفضل التقاء الإرادة المـــــَلكية وإرادة القوى الحية لبلدنا، على الرغم من تلكؤ ومقاومة فئةٍ من رجال الأعمال والبورجوازية الريعية.
وللدولة الاجتماعية، اليوم، عدة غايات: توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنات والمواطنين، مثل التعليم والصحة والنقل والماء والكهرباء، والشغل في ظروفٍ لائقة، والحد الأدنى من الدخل الضامن للكرامة، وضمان إدماج المجالات الترابية، من خلال مكافحة التفاوتات المجالية؛ حماية الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي ومكافحة جميع أشكال التلويث وتحسين نمط الحياة وإطار العيش.
وبالنسبة لنا، في حزب التقدم والاشتراكية، يتعلق الأمر بقلب المنطق الرأسمالي الصرف رأساً على عقِب، وهو المنطق القائم على إنتاج القيم التبادلية التي هدفها الوحيد هو الربح. وذلك لصالح منطق إنتاج القيم الاستعمالية. بمعنى استهداف تلبية الاحتياجات الحقيقية والفعلية للإنسان، أولا وأخيراً.
فالتناقض الأساسي للرأسمالية يتجسد في إشراك الناس في مسلسل العمل والإنتاج، من جهة، والاستحواذ، بالمقابل، على النتائج الناجمة عن هذه العملية، من جهة أخرى، بما يؤدي إلى استيلاب العمال الذين يفقدون، رغماً عنهم، كل سيطرة على نتائج عملهم.
الفرع الثاني: ضرورة توفير شروط إنجاح ورش الحماية الاجتماعية
ينخرط حزب التقدم والاشتراكية، بالكامل، في ورش تعميم الحماية الاجتماعية، والذي كان شكَّــلَ أحد مقترحاته ومطالبه الرئيسية منذ سنوات، بل عقودٍ عديدة. فبفضل التزامٍ مَلَكي تم وضع هذا المشروع الثوري، الذي يشكل بُعدًا رئيسيا للدولة الاجتماعية، على سكة الانطلاقة.
ومن الضروري ضمان شروط إنجاح هذا الورش واستدامته. الأمر الذي يتطلب سلسلة من الإجراءات ذات البُعد المالي والمؤسساتي، وتدابير على مستوى الحكامة:
• ضمان استدامة تمويل نظام الحماية الاجتماعية، لا سيما من خلال تعبئة الموارد اللازمة، وتحسين نظام المساهمات، والحد من الفقر، وتفعيل قنوات التضامن لصالح الفئات الفقيرة التي استفادت في السابق من نظام الراميد؛
• الحد من النقص في الموارد البشرية. حيث يتعين زيادة عدد أطر الصحة بأكثر من الضِّعف، لبُلوغ المعايير المُعتمَدة من قِبل منظمة الصحة العالمية؛
• تحسين الحكامة ومواجهة التفاوتات الصارخة في الخريطة الصحية.
في هذا السياق، يُسجل حزب التقدم والاشتراكية ارتياحه إزاء اعتماد المجلس الوزاري لمشروع القانون إطار المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية، والذي يستجيب، تشريعيا ومن حيث المبادئ الموجِّهة، إلى هذه الانشغالات. ذلك أنَّ هذا المشروع قانون إطار يتمحور حول أربع ركائز: الحكامة الجيدة؛ تثمين الموارد البشرية؛ تأهيل العرض الصحي والرقمنة. ليرسم بذلك خطة شاملة لإصلاح عميق من شأنه، على وجه الخصوص، أن يضمن النجاح لمشروع تعميم الحماية الاجتماعية. وسيتعبأ حزبُ التقدم والاشتراكية من أجل التفعيل الأمثل لهذا الورش الوطني، الاجتماعي، التاريخي والطموح.
علاوة على ذلك، تكمن إحدى ركائز تعميم الحماية الاجتماعية في توسيع نطاق الاستفادة من نظام التقاعد. حيث لا يشمل اليوم سوى جزءً محدوداً من المغاربة الذين بلغوا سن التقاعد، بالكاد 20٪.
ويتعين أن يعتمد هذا التوسيع على إصلاح أنظمة التقاعد القائمة، على أساس التوحيد والتجانس، بدءً باعتماد قطبين: قطب مخصص لكلِّ القطاع العمومي، يجمع بين الصندوق المغربي للتقاعد والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد؛ وقطب مخصص لكل القطاع الخصوصي متمحور حول الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وفي تصور حزب التقدم والاشتراكية لا يمكن أن يقتصر إصلاح منظومة التقاعد على مجرد تعديل تقني ومعياري. بل ينبغي أن يكون إصلاحاً عميقاً يشمل جميع الجوانب، بدءً بالمراجعة العميقة للمعاشات التقاعدية الصغيرة، والتدبير الأفضل لصناديق التقاعد التي تُستثمر حاليًا بمعدلات منخفضة، ومراجعة الجبايات التي تخضع لها معاشات التقاعد.
لقد دافع حزب التقدم والاشتراكية دائمًا عن رؤية شمولية ومتماسكة تتجاوز الإصلاحات المعيارية لأنظمة التقاعد. وهي رؤية تقوم أساساً على:
• اعتماد قانون إطار يحدد قواعد ومبادئ الإصلاح الشامل، وجدولته الزمنية؛
• اعتماد خطة إرادية لتوسيع تغطية معاشات التقاعد، بما يتماشى مع مشروع تعميم الحماية الاجتماعية، على العاملين في القطاع الخصوصي، والعاملين المستقلين، والتجار، وجميع الفئات غير المأجورة؛
• محاربة كل أشكال الخروقات في الميدان الاجتماعي (لا سيما عدم التصريح والتصريح الناقص)، وتوسيع المراقبة؛
• التجميع التراكمي للأيام اللازمة من أجل الاستفادة من المعاش التقاعدي؛
• تحديد آليات إعادة تقييم معاشات التقاعد، والتعامل معها جبائيا بإنصاف، ومعالجة مسألة المعاشات الصغيرة ومعاشات الأرامل، للانتقال تدريجياً نحو الملاءمة مع الحد الأدنى للأجور؛
• تحسين نظام الحكامة، لا سيما من خلال إعادة التأكيد على مبدأ التدبير الثلاثي، وتقاسم المساهمات بين أصحاب العمل والمأجورين (3/2 لرب العمل، 3/1 للأجير)؛
• التنفيذ العميق للإصلاح الضروري للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث لا ينبغي فقط إدماج جميع الأجراء المعنيين بالحماية الاجتماعية، بل ينبغي أيضًا وضع حد للمستوى المتدني للخدمات، وإيجاد حل نهائي للمأجورين الذين لم يتم التصريح بهم بعد.
الفرع الثالث: مداخل محورية لتحقيق العدالة الاجتماعية
تُقاسُ نجاعة وفعالية السياسة الاقتصادية من خلال قدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية. وفي هذا الإطار، هناك مداخل وسُبُل متعددة وممكنة يتعين استكشافها والمُضي قُدُماً في تفعيلها بشكلٍ ملموس.
1/ الأداة الجبائية في خدمة توزيعٍ أفضل للدخل
يتم ضمان العدالة الاجتماعية من خلال توزيع أفضل للدخل، بين دُخُول العمل ودُخُول رأس المال، أي بين الأجور والأرباح. فالغياب الصارخ للتوازن بهذا الشأن يعودُ إلى العلاقات غير المتكافئة بين الأجراء والرأسماليين. وهذا يتطلب النضال لأجل إعادة تنظيم علاقات العمل وظروف العمل بشكل عام على أسس مغايرة، وذلك من خلال تَـــــبنِّــــي سياسة إعادة توزيع الدخل بشكل عادل، عن طريق السياسة الجبائية وباقي السياسات الاجتماعية المختلفة.
في هذا الإطار، تعتبر الجبايات، بالإضافة إلى دورها في تمويل النفقات العمومية، وسيلة مُميَّــــزة لإعادة توزيع الدخل. على هذا الأساس، يُناضل حزب التقدم والاشتراكية من أجل اعتماد نظام جبائي يقوم على النجاعة الاقتصادية، ويعزز الاستثمار والنمو، ويُساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية وفي حماية القدرة الشرائية والتماسك الاجتماعي. وذلك عبر تطبيق أحكام القانون إطار المتعلق بالإصلاح الجبائي الذي تمت المُصادقة عليه بالإجماع.
وللتذكير فإن حزب التقدم والاشتراكية، في المذكرة التي قدمها بمناسبة الملتقى الوطني حول الجبايات سنة 2019 أوضح رؤيته ومقترحاته في هذا المجال. ومن الواضح أن هناك تقارباً كبيراً بين مقترحاتنا وبين أحكام القانون الإطار المذكور.
2/ مكافحة الفقر والهشاشة ضرورة قصوى ومُلِحَّة
كما يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال سياسة جادة وجريئة في مكافحة الفقر. ولسوء الحظ فقد أجهزت تأثيرات جائحة كوفيد والأزمة الاقتصادية على معظم الجهود المبذولة من قِبَل بلادنا في هذا المجال. ولقد عدنا تقريباً إلى نقطة البداية، لنجد أنفسنا نواجه معدلات فقر وهشاشة تُعادل معدلات بداية انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
إنَّ الجائحة عرت على حقيقة وعمق وحجم ظاهرة الفقر والهشاشة ببلادنا. ويسعى حزب التقدم والاشتراكية نحو إرساء سياسة مندمجة لمكافحة الفقر والهشاشة، بدلاً من السياسات المعزولة والتجزيئية التي أظهرت عدم فعاليتها. وقد حان الوقت للانتقال إلى مقاربةٍ جديدة قائمة على الاستهداف الاجتماعي، عبر استعمال بيانات السجل الوطني الموحد.
وهناك مجال عمل آخر لا يقل فعالية في مكافحة الفقر وتحسين القدرة الشرائية للمغاربة، ويتعلق الأمر بتوفير خدمات عمومية جيدة وفي متناول الجميع مجانًا. إنها وسيلة مُثلى للحد من الخصاص الاجتماعي والمجالي، ومن التضخم، وإفقار الطبقات الوسطى.
3/ الاستثمار في اقتصاد المعرفة
في هذا الاتجاه، فإن الاستثمار في اقتصاد المعرفة والبحث العلمي ومحو الأمية، خلافًا للاعتقاد السائد، هو استثمار مُـــنتِـــج بامتياز. فهو لا يُــتيحُ للمواطنات والمواطنين فرص الازدهار وتطوير قدراتهم فحسب، بل إنه يتيح أيضًا للاقتصاد أن يكون أكثر تنافسية، بالنظر الى ما يُفضي إليه ذلك من تحسينٍ لإنتاجية العمل من خلال الجودة والابتكار والمهارة. إنه، من خلال كسب تحدي التكوين، سيرتقي اقتصادنا إلى مرتبة الاقتصادات الصاعدة والتنافسية، القادرة على الارتقاء في سلاسل القيمة، وجلب المزيد من القيمة المضافة، وكسب مكانةٍ أفضل على المستوى الدولي.
وتتطلب العدالة الاجتماعية، أيضا، ولوج المواطنات والمواطنين إلى وسائل الاتصال الحديثة. حيث كشف استخدام التعليم عن بُعد، خلال فترة الحجر الصحي، عن الفجوة الهائلة في هذا الميدان، بين العالم القروي والعالم الحضري، وداخل المدن، بين أحياء الأغنياء والأحياء الهامشية. ولقد حان الوقت لدمقرطة الولوج إلى المعلومات واستخدام وسائل الاتصال، وعلى رأسها الإنترنت، من خلال تعميم شبكة الاتصال والأنترنيت، وتزويد كل طالب بجهاز اتصال ذكي. إنه الثمن الأدنى لتحقيق تكافؤ الفرص، وتمكين شبابنا، بالتالي، من فرص تحقيقِ غدٍ أفضل.
4/ العناية بأوضاع الشباب
ومن أهم مداخل العدالة الاجتماعية، سؤال إدماج الشباب في جميع المجالات. حيث لا تزال البطالة كابوساً اجتماعيا حقيقيا، تقتضي معالجته تقوية النسيج الاقتصادي، لكن أيضاً تحسين حكامة سوق الشغل، وإعادة النظر في التكوين وربطه بمتطلبات سوق الشغل، والانفتاح القوي على المهن الجديدة. كما ينبغي دعم المقاولين الشباب، بشكل جِدّي وناجع.
في نفس الوقت، فإن التمكين الاجتماعي والاقتصادي وحده ليس كافيا من أجل ضمان إسهام الشباب المغربي، باعتباره طاقة وطنية تتعرض معظمها للهدر، في مسيرة بلادنا التنموية والديموقراطية، بل ينبغي بلورة وتنفيذ سياسات عمومية شاملة موجَّهة للشباب، تتضمن استعادة هدف الثقة في الحياة العامة وتقوية ثقافة المشاركة المواطناتية، وتعزيز الشعور بالانتماء للوطن، والحد من نزيف هجرة الكفاءات. كما يتعين أن تتضمن هذه السياسات الاهتمام بالشباب من حيث تسهيل الولوج إلى الخدمات العمومية الأساسية، وتيسير البحث والولوج إلى سوق الشغل أو إلى بناء المشاريع الذاتية، وتعميم ودمقرطة فضاءات الترفيه والرياضة.
5/ النهوض بأوضاع الأشخاص في وضعية إعاقة وكبار السن
وتتطلب العدالة الاجتماعية، أيضاً، نهج سياسة ناجعة وواضحة فيما يتعلق بالأشخاص في وضعية إعاقة وكبار السن. فبالنسبة للأشخاص في وضعية إعاقة، من الضروري ضمان اندماجهم الاجتماعي الكامل من خلال:
• ضمان الولوجيات وجعلها بُعدًا أساسيًا في جميع مشاريع البناء أو التهيئة للفضاءات والمرافق العمومية؛
• ضمان الولوج إلى التعليم، ولا سيما من خلال إنشاء الأقسام المندمجة أو المؤسسات المتخصصة، وتكييف البرامج والمناهج والأدوات التعليمية، من خلال تدريب المدرسين وتكوين المربين المتخصصين؛
• تسهيل الولوج إلى الشغل، من خلال تعزيز وضمان الامتثال الصارم للكوطا المخصصة للأشخاص في وضعية إعاقة، لا سيما في الوظيفة العمومية، وتعزيز جميع أشكال اندماج هذه الفئة في العمل.
أما بالنسبة للأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، والذين يتزايد عددهم على مر السنين والعقود (ما يقرب من 4.3 مليون مغربية ومغربي في عام 2021 و6 ملايين سنة 2030)، فإنَّ هناك حاجة ماسة إلى بلورة سياسة حقيقية لصالح أفراد الفئة، والذين يعيشون في محنة وهشاشة ومعاناة، ودون أيِّ حماية تُذكر.
إن مراكز الاستقبال القليلة المخصصة للأشخاص المسنين توجد في حالة سيئة، وتعاني من الاكتظاظ وضعف خدمات الرعاية. ومن هنا تأتي الحاجة إلى وضع استراتيجية وطنية لصالح المسنين، وخاصة منهم من لا يمكنهم الاعتماد على أنفسهم، من أجل حماية كرامتهم الإنسانية.
في هذا الإطار، يقترح حزب التقدم والاشتراكية:
• تحسين الحماية الاجتماعية للمسنين؛
• خلق حد أدنى من الدخل، دخل الكرامة، لفائدة الأشخاص الذين ليس لديهم أيُّ موارد؛
• تأهيل مراكز الاستقبال القائمة، بإضفاء الطابع الإنساني عليها، وتكوين أطر كافية ومتخصصة في مشاكل الشيخوخة؛
• تعزيز المشاركة الاجتماعية لكبار السن.
الفرع الرابع: الديموقراطية الترابية مدخل أساسي لإقرار العدالة الاجتماعية والمجالية
يعتبر حزب التقدم والاشتراكية أنه ليس هناك تعارضًا بين التنمية والديمقراطية. فالديموقراطية ليست ترفًا، ولا تنمية بدون حياة ديمقراطية. فهذه الأخيرة وحدها التي تسمح بالانخراط الشعبي والتعبئة، وتضمن الاستقرار المؤسساتي والاجتماعي للبلاد، وتعزز الثقة بين المواطنين والمؤسسات. وأكثر من ذلك، فالحياة الديمقراطية، من خلال آليات الديمقراطية التمثيلية الحقيقية والديمقراطية التشاركية المواطنة، تبدو اليوم كشرط أساسي لتعزيز فعالية البرامج والسياسات العمومية وتوطينها مجاليا.
يكمن الإنجاز الكبير لدستور 2011 في أنه أرسى أسس الحكامة الديمقراطية، من خلال مبادئ المساءلة والتقييم، والتكامل بين المؤسسات الوطنية والمؤسسات الترابية، والمشاركة الواعية للمواطنين في التنمية، والمراقبة اليقظة للمواطنات والمواطنين للسياسات والبرامج العمومية.
وعلى الرغم من إحراز بعض التقدم، فإنه من الواضح أن الشعار المركزي للمرحلة المقبلة، يظل هو التنفيذ الفعال لمبادئ الحكامة المنصوص عليها في الدستور، ومنها الحكامة الترابية، كمدخل لتحقيق الإنصاف المجالي. وهذا يتطلب تقدمًا كبيرًا في المجالات التي لا يزال هناك الكثير مما يتعين القيام به فيها. حيث سجلنا، لا سيما في الآونة الأخيرة، التردد والمماطلة، وحتى الانتكاسات والتراجعات.
تأسيساً عليه، يعتبر حزب التقدم والاشتراكية أنه من الضروري والحيوي، لتوطيد البناء الديمقراطي، العمل على ترسيخ الديمقراطية الترابية، وذلك في جميع المبادرات والبرامج العمومية، وإحراز تقدم ملموس في التوجه نحو الجهوية المتقدمة، كورشٍ مجتمعي رئيسي. وهذا يعني على وجه الخصوص:
• إعادة تأهيل واحترام سلطات المجالس المنتخبة ومبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية، مع انخراط مصالح الدولة بشكل كامل في جهود الارتقاء بالجماعات الترابية وتزويدها بالوسائل والأدوات اللازمة لذلك؛
• وضع خطط تنمية جهوية قائمة على رؤية استراتيجية مبنية على نهج تشاركي معمق، والتعاقد مع الدولة التي تُقِرُّ بأنها تخلت عن أيِّ وصاية تحط من دور ومكانة المجالس المنتخبة؛
• تعزيز التضامن والتكامل بين الجهات، للانتقال من الرؤية المبتذلة التي أنشأها الاستعمار بالمغرب للجهات. وذلك على أساس الوحدة والتنوع، بما يجعل لكل منطقة مشاريع قائمة على الخصائص والخصوصيات المحلية، مع وضع الآليات والتمويلات التي تضمن التنافس الحقيقي والتضامن والارتقاء الاجتماعي والمجالي لجميع الجهات؛
• تطوير اللاتمركز في المواضيع الحاسمة، كمواكبة اللامركزية والجهوية. وذلك من خلال محاربة جميع الممارسات المركزية المفرطة، وعن طريق نقل المهارات والوسائل إلى المصالح اللاممركزة، وإعادة هيكلة هذه الأخيرة حول الأقطاب الرئيسية، وتثمين مواقع المسؤولية بالمصالح الخارجية عبر تنظيم إعادة توزيع الموظفين ونهج اللاتركيز، مع مراعاة البعد الاجتماعي وتحفيز الموظفين.
الفصل الثاني: نحو نمو اقتصادي مطرد وقادر على الصمود ومواجهة الأزمات
أظهرت أزمة كوفيد الحاجة إلى اقتصاد قوي، أقل اعتمادًا على الخارج، وقادراً على الصمود في مواجهة الصدمات الداخلية والخارجية. وأصبحت السيادة الاقتصادية هي التوجه الأساس بالنسبة لجميع البلدان، سواء تم التعبير عن هذه السيادة على مستوى دولة واحدة أو على مستوى مجموعة إقليمية مندمجة.
وعليه، يجب أن تكون الأزمة التي نمر بها فرصة من أجل إعادة النظر في عددٍ من “الأفكار المُـــرَسَّخَة” التي كانت تظهر للبعض نهائية وصحيحة. كما أظهرت الأزمة محدودية العولمة المفرطة والتبادل الحر المُبالَغ فيه. ولذلك، تفترض السيادة الاقتصادية عددًا من القطائع مع الخيارات السابقة، لا سيما في المجالات الاستراتيجية لبلدنا.

الفرع الأول: الطريق نحو السيادة الاقتصادية الوطنية
في ظل أوضاعٍ متقلبة تتسم بالأزمات المتواترة، والتوترات بجميع أنواعها، وعدم اليقين، أصبح من الضروري لبلدنا مراجعة خياراته الأساسية، من خلال الاعتماد، أولاً وقبل كل شيء، على وسائله وقواه الذاتية، للإفلات من الآثار السلبية لتقلبات السوق العالمية وللتغيرات المفاجئة للظرفية الاقتصادية.
إن أبرز ما يُمكنُ استخلاصه من اللايقين الذي يزدادُ تَعَمُّقاً هو أن بلادنا يتعين أن تتجه، عبر سياسات ومخططات دقيقة وواضحة، نحو جعل ضمان السيادة الاقتصادية الوطنية أولوية قصوى، ليس على سبيل الانغلاق أو الحمائية، بل بانفتاحٍ دولي متنوع وبراغماتي. كما يتعين توفير المخزون الاستراتيجي من كل المواد الضرورية للاستقرار، ولا سيما من خلال تفعيل الدور المركزي للدولة المُـــــنَــمِّـــيَة والحامية. وغَنِــــــيٌّ عن البيان أنَّ السيادة المطلوبة هي تلك التي تُمَكِّنُ بلادنا من المزيد من الاستقلالية في تغطية احتياجاتها الأساسية.
إن هذه السيادة تفترض إرساء تصنيعٍ حقيقي، وإنتاج فلاحي يتمحور حول توفير المواد الغذائية، وسياسةٍ طاقية تقلل من اعتمادنا على السوق العالمية، وسياسةٍ صحية تضمن إنتاج الحد الأدنى من الأدوية. كما تفترض هذه السيادة تنوع شركائنا، والانفتاح على مناطق جغرافية جديدة، مثل إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى شركائنا التقليديين بالطبع.
هذا هو الموقف الذي دافع عليه حزب التقدم والاشتراكية دائمًا في أدبياته: التوازن بين السوق الداخلية والسوق الخارجية، ولم يتوقف الحزبُ أبدًا عن إثارة الانتباه إلى المخاطر التي تتعرض لها بلادنا من خلال اختيار التحرير المفرط والانفتاح المُبالَغ فيه. ولحسن الحظ، فقد أثبت الواقع أنها وجهة نظرٍ سليمة.
وبالموازاة مع مراجعة هذه المقاربة، نشهد عودة قوية للدولة في جميع أنحاء العالم. وهذا ليس جديداً على حزبنا الذي لطالما طالب بدولة ديمقراطية وتدخلية، تعمل في إطار مخطط استراتيجي.
هكذا، أصبحت العودة إلى التخطيط أمرًا حتميًا، في صيغةِ “تخطيطٍ استراتيجي” كما يتم تطبيقه، بشكل عام، على مستوى الشركات والمنشآت الكبرى ومؤسسات الدولة. وبعبارة أخرى، فإن الغرض من التخطيط الاستراتيجي هو تكييف الوسائل مع الغايات، من أجل تحصيل أفضلِ الفوائد للمجتمع، مع قياس المخاطر المحتملة في عالم يسوده عدم اليقين، وتحديد الأولويات والأهداف بشكل ديمقراطي، وإحداث هيئات الحكامة والمراقبة اللازمة. إن مثل هذا التخطيط الاستراتيجي وحده قادرٌ على ضمان التقائية السياسات والبرامج العمومية، من أجل ترشيد الوسائل وتحقيق أفضل النتائج.

الفرع الثاني: الإصلاحات الهيكلية ذات الأولوية من أجل اقتصادٍ وطني قوي وقادر على الصمود
يقترح حزب التقدم والاشتراكية حزمة من الإصلاحات الهيكلية التي تسير في اتجاه تعزيز سيادتنا الاقتصادية. تماشياً مع وضع العنصر البشري في قلب العملية التنموية، وجعل تلبية الاحتياجات الأساسية للمغاربة الهدف الاقتصادي الأساسي. ولذلك يتعين إعادة النظر في المخططات القطاعية المعمول بها، على ضوء هذه المتطلبات.
1/ قطاع عمومي يُشكل قاطرة للتنمية
على القطاعين العمومي والخصوصي توحيد جهودهما، في تكامل حول هذه الأهداف. فبالإضافة إلى وظائفها السيادية، فإن الدولة مسؤولة أيضًا عن إيلاء الأولوية المطلقة للمستشفى العمومي والمدرسة العمومية. وتوفير البنية التحتية اللازمة، والتأهيل الاجتماعي لجميع المناطق والجهات، وإرساء الصناعات المهيكِــــلة، وتعزيز البحث العلمي.
علاوة على ذلك، يجب أن تعمل الدولة، من خلال قطاع عمومي قوي، عقلاني وديمقراطي، على أن تحافظ على قدرتها على التدخل المباشر في القطاعات الحيوية، ولا سيما في مجالات:
• الطاقة، من خلال إعادة تأميم لاسامير، بهدف إعادة هيكلتها وتشغيلها، مع السعي نحو تشييد محطاتٍ للتخزين استعداداً لإنجاز أنبوب الغاز الذي سيربط بلادنا بنيجيريا، وأيضا من خلال الحفاظ على الطبيعة العمومية للمكتب الوطني للماء وللكهرباء؛
• إنتاج وتسويق الفوسفاط، عبر المكتب الشريف للفوسفاط؛
• القطاع المالي، حيث يجب أن تتوفر الدولة على ذراع مالي قوي؛
• النقل الجوي والسكك الحديدية
• السكن الاجتماعي ومحاربة السكن غير اللائق؛
• إطلاق أوراش كبرى تتعلق بالبنيات التحتية الأساسية، ومواكبتها بتأهيل وتكوين المستفيدين وببرامج لمحو الأمية؛
• التعاقد مع القطاع الخصوصي، حيث يتعين على الدولة أن تلعب دورها التنظيمي كاملاً للحفاظ على مبادئ المرفق العمومي، من حيث الولوج والإنصاف والشمولية، خاصة، فيما يتعلق بالخدمات الأساسية كتوزيع الماء والكهرباء والصرف الصحي؛
• تحفيز وجلب وتسهيل الاستثمارات، بالارتكاز أساساً على مقومات الاستقرار والموقع الجغرافي المتميز والموارد البشرية المؤهلة؛
• تطوير نهج التشاور والحوار والشراكة مع جميع الفاعلين التنمويين المعترف بهم في الدستور، حيث يؤيد حزب التقدم والاشتراكية استراتيجية وطنية لتأهيل ورفع مستوى جميع الفاعلين: المقاولات الوطنية، الجماعات الترابية، النقابات، المنظمات المهنية، منظمات وهيئات القطاع الثالث.
2/ قطاع خصوصي قوي ومسؤول
لتقوية النشاط الإنتاجي ببلادنا، يؤكد حزبُ التقدم والاشتراكية على ضرورة تشجيع قطاعٍ خصوصي قوي ومسؤول اجتماعيا وبيئيا وجبائيا. كما يدافع على دعم المقاولة الوطنية، على أساس أن يضع القطاع الخصوصي نشاطه في إطار التوجهات والأولويات الوطنية.
إن حزب التقدم والاشتراكية مع قطاع خصوصي مواطَناتي ومسؤول اجتماعيًا وبيئيًا وجبائيا. وهو ضد قطاع خصوصي ريعي ومُضارِب وطفيلي ومفترس.
إنَّ مسؤولية المقاولة الخصوصية، إلى جانب القطاع العمومي، هي مسؤولية تاريخية: خلق الثروة واقتسامها، بشكل عادل مع العمال؛ المساهمة في تنمية الجهات والمجالات الترابية؛ الترويج لـوسم “صُنِعَ في المغرب”.
إن ذلك أولوية قصوى من أجل التغلب على تداعيات الأزمة الصحية والاقتصادية، وإعادة اقتصادنا إلى مسار النمو. وتحقيقا لهذه الغاية، يقترح حزب التقدم والاشتراكية، من بين أمور أخرى، إرساء ميثاق اجتماعي، في كل القطاعات، يحدد حقوق وواجبات كل طرف على النحو المحدد في ميثاق الاستثمار الجديد.
في هذا الإطار، فالقطاع البنكي مدعوٌّ، من جانبه، إلى دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة في القطاعات التي تدر الثروة وتخلق مناصب الشغل. ويجب أن تلعب الدولة دورًا تسهيليًا في النهوض بالقطاع الخصوصي: تمويل الاستثمار، وتسهيل الولوج إلى العقار، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتوفير الخدمات اللوجستية، والبحث عن الأسواق الدولية، من خلال تفعيل دبلوماسيتنا الاقتصادية، وسن الحوافز الجبائية ذات الوقع الإنتاجي والاجتماعي والإيكولوجي، والمرتبطة بالنتائج. وفي المقابل تلتزم المقاولة الخصوصية باحترام تشريعات العمل ومقايسة رواتب مستخدميها مع ارتفاع الأسعار وزيادة الإنتاجية.

3/ السيادة الصناعية والأمن الغذائي
أ/ تصنيع وطني حقيقي
انطلاقًا من الاقتناع بأنه لا تنمية بدون تصنيع حقيقي، يدعو حزب التقدم والاشتراكية إلى مراجعة عميقة لنمط التصنيع الجاري به العمل حاليا، وبصورة أدق لمخطط التسريع الصناعي الذي هو أبعد ما يكون عن أن يكون قادراًعلى تحويل بلدنا إلى منصة صناعية.
من الواضح أن الأهداف المخصصة لمخطط التسريع الصناعي، من حيث مكانة الصناعة في الناتج الداخلي الخام والتشغيل والصادرات، بعيدة كل البعد عن التحقق. ولا ينبغي للنجاح النسبي لصادرات قطاع السيارات إخفاء نقاط الضعف الهيكلية، بأيِّ حال من الأحوال. فالصناعة هي مسألة تحويل المواد والارتقاء في سلسلة القيمة، وليس مجرد تجميع، وفي أفضل الأحوال، إنتاج مكونات معينة، ذات قيمة تكنولوجية محدودة.
بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية، يتعلق الأمر بإعادة وضع خطة تصنيع حقيقية، مع رؤية متكاملة تستدمج التدريب؛ البحث؛ الابتكار؛ والإنتاج. رؤية ينبغي أن تتوجه بشكل أولوي نحو مجالات السيادة وتلبية احتياجات السوق الداخلية من الأدوية، والأغذية، والصحة، والبيئة، والمعادن، والصناعات الميكانيكية والإلكترونية والكهروميكانيكية.
من الضروري، أيضًا، الاستثمار في التكنولوجيات المتطورة، والمهن ذات القيمة التكنولوجية العالية، لأجل تطوير نسيجٍ من المقاولات الوطنية الصغيرة والمتوسطة، عالية الأداء، والمقاولات الناشئة المبتكِرة، جنبًا إلى جنب مع الشركات الوطنية العملاقة.
ب/ فلاحة مُوجَّهة نحو ضمان الأمن الغذائي
تُعرَّف التنمية بأنها عملية مسترسلة تقوم على تحويل البنيات التي تشمل المجتمع بأسره وجميع القطاعات، وفي المقام الأول تحويل الزراعة وتحسين الإنتاجية والظروف المعيشية للفلاحين الصغار.
على هذا الأساس، فإن مخطط المغرب الأخضر والجيل الأخضر يتعارضان مع هذه الأهداف، لأنهما يهتمان بشكل أساسي بقطاع التصدير الزراعي، وترك الفلاحين يواجهون مصيرهم، وتعريضهم لهيمنة الرأسمال الصناعي الزراعي الكبير. إن نتائج هذه السياسة واضحةٌ للعيان: بلدنا يواجه تبعية غذائية، ويعرف صعوبات في التزود من السوق العالمية، ويعاني من إجهاد مائي مُقلق.
بناء على ذلك، يجب إعادة النظر في هذه التوجهات من خلال جعل الأمن الغذائي والمائي وتلبية احتياجات شعبنا أهدافاً أساسية للتنمية الفلاحية.
علاوة على ذلك، يجب تحسين دخل صغار المزارعين، من خلال ضمان أسعار مناسبة لمنتوجاتهم، وحمايتهم من المضاربين والوسطاء. وكذلك تحسين أوضاع العمال الزراعيين في الاستغلاليات الزراعية الكبيرة، من خلال ملاءمة الحد الأدنى للأجور في القطاع الفلاحي تدريجياً مع الحد الأدنى للأجور، مع احترام المساواة في الأجور بين الجنسين، وتسريع وتيرة تفعيل الحماية الاجتماعية في المجال القروي.
كما يتعين إيلاء اهتمام خاص بالفلاحة الأسرية، من خلال دعمها بالمزيد من الموارد التمويلية، والترويج الأفضل للمنتجات المحلية، وتقوية آليات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، عبر تجميع الموارد والتضامن والتعاون (المطابقة للتقاليد والممارسات المغربية المعروفة منذ آلاف السنين).
ومن الضروري، أيضًا، تطوير ممارسات بيئية زراعية تعتمد على التوازن بين الماء والتربة والغابة، مع اقتصاد استعمال المياه وإثراء التربة، ومراقبة، بل وحتى منع، استخدام المبيدات، وتحسين جودة الغذاء لكل من ساكنة المناطق الحضرية والقروية.
وأخيرًا، يجب أن يُنظر إلى الفلاحة، ليس فقط كقطاع إنتاج، ولكن أيضًا كتراث حضاري وتاريخي يجب تثمينه والحفاظ عليه.
4/ جعل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني (القطاع الثالث) رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية
لا ينبغي النظر إلى الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على أنه “اقتصاد الفقراء”، بل يتعين اعتباره قطاعًا اقتصاديا قائم الذات، ينتج بقوة قيمة مضافة، ومؤسسٌ على قيم التقاسم، والتعاون والتعاضد والتجميع، المتجذرة في المجتمع المغربي.
إنَّ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني هو قطاع مُــــعَـــبِّــــئ ويوفر فرص شغل كثيرة، ويجب أن يلعب دورًا أساسيًا لإدماج النساء والشباب في النشاط الاقتصادي، لا سيما بالمجال القروي، في الزراعة، والحرف اليدوية، وصيد الأسماك، والسياحة، والخدمات المحلية، وإعادة التدوير، وغير ذلك.
بهذا الصدد، يقترحُ حزبُ التقدم والاشتراكية:
• مواكبة وتشجيع، بواسطة تدابير تحفيزية، توسع مبادرات المجتمع المدني ومنظمات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كالتعاونيات والوداديات والمؤسسات التعاضدية الاجتماعية؛
• تعزيز التجارب الناجحة، لا سيما في العالم القروي، بقيادة النساء أو الشباب؛
• التشجيع على تفويض الخدمات العمومية لمنظمات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، في ميادين الخدمات الصحية، والمساعدة الاجتماعية، والتعليم، ورعاية الطفل، ومساعدة الأشخاص؛
• تعزيز قدرات مكتب تنمية التعاون في مجال التأطير وتنمية قدرات التعاونيات.
5/ الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية ومهن المستقبل
نعيش، اليوم، في العصر الرقمي، ويجب ألا تتخلف بلادنا عن الركب. فقد أظهرت فترة الحجر الصحي التي شهدناها مدى الحاجة الى الاستثمار في هذا المجال، من خلال تكوين المواطن، أولاً وقبل كل شيء. إنها مسألة جعل الرقمنة فرصة لتحسين الظروف المعيشية للمواطنات والمواطنين، وتبسيط الإجراءات الإدارية، واستثمار الزمن بعقلانية. ذلك أنَ العديد من المهن تحولت، اليوم، إلى مهن مرقمنة، ويمكن ممارستها عن بُعد بكفاءة حقيقية، بما في ذلك في مجالات حساسة كالصحة والتعليم.
لقد تم بذل جهود في هذا المضمار، لكنها لا تزال غير كافية. حيث يجب علينا أولاً أن نتحرك في اتجاه المنبع، بدءً من تقليص الفجوة الرقمية، من خلال تغطيةٍ أفضل للتراب الوطني بأكمله، وإجراء حملة واسعة لمحاربة “الأمية الرقمية”. وبهذا الشأن هناك حاجة إلى تخفيض أسعار الألياف البصرية، التي لا تزال بعيدة عن متناول عموم المغاربة.
ومن الضروري التغلب على بعض التردد، بل وحتى المقاومة، في استخدام التكنولوجيا الرقمية، ولا سيما من خلال العمل على التوعية والتحسيس لإظهار فوائد هذه التقنيات الجديدة، مع حماية خصوصية الناس. ويبقى هنا ضروريا وحيويا دورُ اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات الشخصية وكذا المصالح الأمنية المختصة.
إن الاقتصاد المعتمد على المعرفة له أثر إيجابي في زيادة الإنتاج والتقليل من تكاليف الإنتاج، وتحسين الدخل، فتقديرات برامج الأمم المتحدة تؤكد أن اقتصاد المعرفة يستقطب أكثر من 7 ٪ من الناتج المحلي الاجمالي العالمي، لذلك يجب إعطاء الأولوية لتحفيز الابتكار والبحث العلمي.
وأخيرًا، من الضروري الارتقاء بترسانتنا التشريعية والتنظيمية، لدمج كل هذه التحولات وحماية حقوق المواطنات والمواطنين، ولم لا، توقع التغييرات القادمة، والتي لا مفر منها.
إنَّه من الواضح أنَّ الرقمنة صارت خياراً لا مفر منه، وبالمقابل فهي لا تخلو من مخاطر. ومن هنا تأتي الحاجة إلى تعزيز التنظيم ومضاعفة يقظتنا، طالما أنَّ الأمر يتعلق بسيادتنا الرقمية.
6/ ضرورة إعادة توجيه الأبناك نحو تمويل القطاعات الإنتاجية
دورُ القطاع البنكي في جمع المدخرات وتمويل الاستثمار لا يحتاج إلى برهانٍ. ويجب أن يقترن إنشاءُ نموذجٍ تنموي قائم على التصنيع بتعديلات جذرية في سياسة القطاع البنكي، ينبغي على الدولة توجيهها نحو تمويل المشاريع الاستثمارية الصناعية ذات القيمة المضافة العالية. كما يتعين أن يكون هذا القطاع متوفراً على الأدوات التي تُمكِّـــــنُهُ من تعبئة المدخرات واستخدامها بشكل صحيح، لتحقيق أهداف التنمية الوطنية، من خلال تركيز تدخله في القطاع الصناعي. كما أنه من الضروري مراجعة السياسات البنكية الحالية، حتى تصبح أكثر جرأة وإنصافًا لصالح التنويع الاقتصادي والقطاعي، بعيدًا عن الأساليب التي تكتفي بالسعي نحو تحقيق مكاسب سهلة وبعيدة عن تعقيدات الإجراءات الإدارية وغير الإدارية.
الفرع الثالث: بديل يعتمد على الإيكولوجيا كعنصر تحول أنماط الإنتاج والاستهلاك
إن حزب التقدم والاشتراكية، الذي أدرج المكون البيئي في هويته منذ سنوات، هو في طليعة المدافعين عن المشروع الإيكولوجي ذي البُعد السياسي والمجتمعي. ويذهب بذلك أبعد من مجرد “مراعاة البُعد البيئي في تنفيذ السياسات العمومية”.
فحزب التقدم والاشتراكية هو حزب التحول الاجتماعي. وهذا ما يدفعه إلى اعتبار الإيكولوجيا عنصرَ تحولٍ لأنماط الإنتاج والاستهلاك، في ارتباطٍ وثيقٍ بالمسألة الاجتماعية، وبهدف وضع الإنسان في قلب عملية التنمية.
إنَّ الإيكولوجيا هي قضية سياسية بامتياز تقتضي الإرادة والنضال من طرف القوى المؤمنة بالإيكولوجيا والمُقَدِّرة لخطورة المنحى التدميري الذي يتجه إليه العالمُ بفعل الإفراط في الإنتاج والاستهلاك، دون أيِّ مراعاة للتوازنات البيئية بمكوناتها الشاملة (الإنسان، إطار العيش، المجال الطبيعي، الموارد، التربة، الماء، الحيوان….). ومن هذه القوى حزبُنا باعتبار هويته الاشتراكية الإيكولوجية.
على هذا الأساس، يعتبر حزب التقدم والاشتراكية أنه من الضروري اعتماد المقاربة البيئية كمكون أفقي ومندمج تلقائيا ضمن كافة السياسات العمومية.
1/ تنفيذ التخطيط البيئي
يتعين الاعتماد على التوجهات الوطنية لإعداد التراب، ومن حيث التخطيط المجالي، بما يجعل من الممكن مواجهة تحديات التخطيط الحضري المتسارعة، وتنمية العالم القروي، ومحاربة التفاوتات المجالية، وتحسين القدرات من أجل التكامل الحضري والاجتماعي والاقتصادي لمدننا، بغاية مراقبة هجرة سكان المجال القروي، من خلال تقريب الخدمات العمومية الأساسية من المواطن ومن بعضها البعض وتحسين الظروف المعيشية لسكان القرى.
كما يتعين إعادة تأهيل وظيفة التخطيط العمراني وتعزيز التخطيط الحضري، بما يحترم البيئة ومبادئ الاستدامة (نجاعة الطاقة، الميثاق المعماري، المرافق المحلية، إلخ).
وفي نفس الوقت، ينبغي اعتمادُ سياسة تضامنٍ حقيقية لصالح العالم القروي، وإدماج المناطق المهمشة، من خلال سد الفجوات على وجه السرعة في البنية التحتية الأساسية (المياه والكهرباء والصحة والتعليم والطرق وما إلى ذلك). مع إيلاء اهتمام خاص للمناطق الجبلية، من خلال الحفاظ على المناطق القروية ذات البعد التراثي الثقافي والطبيعي، المادي وغير المادي.
وفضلاً عن ذلك، يجب إرساء تدبير عقلاني للموارد الطبيعية (المياه والغابات والتربة والموارد السمكية)، ووضع قواعد صارمة لحماية المناطق الهشة كالجبال والسواحل والمناطق الغابوية والمناطق الرطبة والمناطق القاحلة وشبه القاحلة.
2/ مواجهة التحدي الهائل المتمثل في تدبير المياه وندرة الموارد المائية
الماء ضروري للحياة وحيوي للاستقرار، ولذلك فإن ضمان الأمن المائي الوطني يتعين أن يتحول إلى أحد أسبق الأولويات الوطنية. مع ما يقتضيه ذلك من استثمارات، ومن تغييرات جذرية في نموذج الإنتاج الفلاحي المستهلِك للماء، ومن تحولٍ نحو البدائل المائية غير التقليدية، كالتحلية وإعادة استعمال الماء العادم بعد معالجته. كما يتطلب الأمر مراجعة عميقة لأساليب تدبير المياه وتغييراً جذريا في التمثلات الذهنية والثقافية للمجتمع والفاعلين حُيال الموارد المائية.
ينبغي، أيضاً، وضع وتنفيذ سياسة طويلة الأمد لمراجعة خيارات السياسة العامة، بما يتوخى ضمان الأمن المائي والأمن الغذائي، والاستجابة لاحتياجات المغاربة والأنشطة الاقتصادية. ويمكن تحقيق هذه الغايات أساساً عبر تنويع مصادر التزود بالمياه، والاقتصاد في استعمال المياه، وترشيد تدبير المياه الجوفية. بالإضافة إلى التكيف مع التغيرات المناخية، من خلال تعزيز نماذج الاستهلاك الاقتصادي، في السقي، والإسكان، والسياحة، والتخطيط الحضري، وتنمية الغابات، وما إلى ذلك. مع وضع النظم الأساسية لاستباق وتدبير الظواهر القصوى، كالجفاف والفيضانات وغيرهما.
3/ تكييف الاستراتيجية الطاقية لتحقيق هدف 52٪ من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030
يمكن تحقيق ذلك، أساساً، من خلال تسريع التحول الطاقي؛ وتشجيع ودعم المقاولات لاستخدام الطاقة النظيفة؛ بالإضافة إلى الحفاظ على الدور المحوري للقطاع العمومي، وتعزيز دور الدولة في مهامها لتنظيم قطاع الطاقة وضمان حصول المواطنات والمواطنين على الطاقة بأسعار عادلة.
في نفس الآن، ولأجل تحقيق نفس الغاية، ينبغي التدخل في تحديد أسعار المحروقات، من خلال العمل على الرسوم والضرائب المفروضة عليها وعلى هوامش شركات التوزيع، والحماية من تقلبات الأسعار العالمية عبر إعادة تشغيل شركة لاسامير بإعادة هيكلتها وتأميمها.
4/ الانخراط في نهج شامل ومتماسك لتعزيز النمو الأخضر
يتطلب الأمر إعمال منهجية شاملة وإرادية للنهوض بالنمو الأخضر، بالاعتماد على مختلف الاستراتيجيات: الاستراتيجية الطاقية، مخطط الجيل الأخضر، المخطط الوطني للماء، المخطط الوطني لتدبير النفايات، المخطط الوطني لتطهير السائل، الحفاظ والتدبير المستدام للغابات. مع وضع الآليات المؤسساتية للتنسيق والتتبع والتقييم.
إنه من المستعجل والحيوي إدماج شروط الحفاظ على الموارد ضمن كافة السياسات العمومية، مع حماية البيئة، ونقل التكنولوجيا، والإلزام بدراسة الأثر البيئي لكل المشاريع بصفة قبلية حفاظا على رأسمالنا الطبيعي وتحقيقا للعدالة بين الأجيال. مع الحرص على ضمان السيادة على ثرواتنا في الاتفاقيات الدولية مع الدول أو مع الرأسمال الأجنبي.
الفصل الثالث: تحسين الحكامة وضمان مَنَاخ مناسب للأعمال
إن مسألة الحكامة ضرورية وأساسية لتعزيز التنمية، من خلال إرساء سيادة فعلية للقانون في فضاء الأعمال، ووضع حد لتضارب المصالح، وتوفير إدارة فعالة ونظام عدالة مستقل تماماً وفعليا باعتباره الضامن الأوثق لحقوق المواطنات والمواطنين.
الفرع الأول: إعمال دولة القانون في المجال الاقتصادي ودعم المقاولة الوطنية
لا تنمية للاقتصاد والاستثمار المنتج دون تعزيز سيادة القانون في الاقتصاد، ومحاربة الرشوة وجميع أشكال الريع، والمنافسة غير المشروعة والاحتكار غير المشروع، بالإضافة إلى دعم المقاولة الوطنية.
1/ سيادة القانون في المجال الاقتصادي
يحتاج الفضاءُ الاقتصادي الوطني، من أجل أن يتقوى نسيجه وتتعزز تنافسيته، ومن أجل أن يكون لنموه وقعٌ على التنمية، إلى سيادة القانون، ولا سيما من خلال:
• تعزيز الوسائل، حتى تتمكن الهيئات المستقلة للرقابة والحكامة والوساطة من أداء أدوارها الدستورية بالكامل: مجلس المنافسة. الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، مؤسسة الوسيط، الهيئة المغربية لسوق الرساميل؛ ومجلس القيم المنقولة؛
• محاربة اقتصاد الريع، والتهرب الضريبي، والاحتيال الاجتماعي والبيئي، وذلك بجميع الوسائل القانونية والجبائية، وتفكيك جميع الاحتكارات والتفاهمات غير المشروعة، ومحاربة الفساد بشكل حازمٍ وفعال؛
• محاربة أشكال الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة، باعتبارها مصدراً للمنافسة غير المشروعة، وللخسارة الجبائية، ولحرمان العمال من حقوقهم الاجتماعية. إن الأمر يتعلق، على وجه التحديد، بالنشاط غير المهيكل الذي يعمل متحديا القانون في واضحة النهار. أما بالنسبة للقطاع غير المهيكل المعيشي، فإنه يستحق معاملة منفصلة ومواكَبة بيداغوجية من السلطات العمومية، لإدماجه تدريجيًا في الاقتصاد الحديث المهيكل، من خلال تدابير محفِّزة، كالضرائب، والتكوين، والقروض، والتنظيم، وغير ذلك.

2/ دعم المقاولة الوطنية
يجب أن تحمي الدولة المقاولات الصغرى والمتوسطة، وتشجع المنتوج الوطني، من خلال اتخاذ عدة تدابير، بما في ذلك على وجه الخصوص: مراجعة المرسوم المتعلق بالصفقات العمومية في اتجاه منح حصة لا تقل عن 20٪ من الصفقات العمومية للمقاولات الصغرى والمتوسطة، وللمقاولات الصغيرة جدا؛ وإقامة حواجز جمركية واقية، دون انتهاك قواعد منظمة التجارة العالمية؛ وتشجيع استهلاك المنتوج الحامل لوسم “صُنع في المغرب”، مع تحسين جودة المنتوج حتى لا يضر بالمستهلك؛ ومواصلة مكافحة التهريب الذي يفسد نسيجنا الاقتصادي ويدمر مناصب الشغل.
أيضاً، لقد حان الوقت لإجراء تقييم لاتفاقيات التبادل الحر التي وقعها المغرب، على غرار ما قامت به بلادُنا فيما يخص اتفاق التبادل الحر مع تركيا. فليس هناك سبب لعدم القيام بذلك بالنسبة لاتفاقيات التبادل الحر الأخرى. حيث أنَّ الاعتبار الوحيد الذي يجب أن يوجهنا هو الدفاع عن مصالحنا الوطنية، وحماية نسيجنا الاقتصادي الهش، مع الحفاظ على جودة وتنوع علاقاتنا مع كافة شركائنا. فلا يمكن لبلدنا أن يجتر إلى الأبد معاناته الناجمة عن نزيف العجز التجاري الذي يزداد سوءً من سنة إلى أخرى.
الفرع الثاني: إصلاح الإدارة والقضاء ومؤسسات الحكامة
1/ هيئات الحكامة
خصص دستور 2011 بابا كاملاً للحكامة الجيدة، بالإضافة إلى الفصول المخصصة للضبط والتقنين. وهذه خطوة كبيرة إلى الأمام مقارنة مع المعايير الدولية في هذا المجال، لدرجة أن بلدنا يُستشهَــد به كمثال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بهذا الصدد. ومع ذلك، من الناحية العملية، لا تُطَبَّقُ بعضُ المقتضيات الدستورية إلاَّ بصفة جزئية إذا لم تظل حبراً على ورق. وهذا يضع الديموقراطية على المحك، ويعطي الانطباع بأن بلادنا تتعثر أو تتراجع في مجال الحكامة.
ولقد أثار حزبُ التقدم والاشتراكية، باستمرار، الانتباه إلى هذه النواقص المضرة باقتصادنا الوطني، وبسمعة بلادنا، وبالأداء السليم لمؤسساتها الديموقراطية. ولذلك يحتاج بلدنا حقًا إلى دفعة قوية على هذا المستوى، لتحرير المبادرات والطاقات، وإزالة إحدى العقبات الحقيقية التي تعترض مسار التنمية.
يجب أن تكون جميع الهيئات المنصوص عليها في الدستور قادرة على ممارسة صلاحياتها بالكامل، مع الاحترام التام لاستقلاليتها. إذ يبدو واضحاً أنَّ بعض المجالس التي نص عليها الدستور لم تشرع في العمل بعد، أو لم يتم إحداثها بعد. أما معظم تلك الموجودة، فإنها تعاني من ضعف واضحٍ في الفعالية.
هكذا، يقوم المجلس الأعلى للحسابات بعمل هام، ويفتحص بانتظام تدبير وحساباتِ المؤسسات والإدارات العمومية المختلفة، وينشر تقارير خاصة، وأساساً تقارير سنوية يقدمها للنقاش أمام البرلمان. لكن العديد من قضايا تبذير واختلاس الأموال العمومية تراوح مكانها، ومعالجتها القانونية بطيئة. إنَّ الأمر هنا لا يتعلق بدعوةٍ إلى ممارسة عدالةٍ متسرعة أو مطاردة الساحرات، لكن من الضروري معالجةُ جميع القضايا بحيادية وموضوعية.
من جانبه، فإن مجلس المنافسة غير قادر، لحد الآن، على أداء دوره كاملاً، والمتمثل في تطبيق قواعد التنافس الشريف والمشروع، ومعاقبة أي تجاوز في هذا المجال، حيث يجد نفسه كل مرة في مواجهةٍ مع المصالح الكبرى. ويُعد ملف المحروقات مثالاً صارخًا على ذلك.
2/ الإصلاح الإداري
عرف المغرب عدة تجارب لإصلاح الإدارة. ولم يُسفر أيٌّ منها على نتائج مقنعة، لعدم وجود رؤية طويلة الأمد وجرأة سياسية، من أجل أن تتوفر لبلدنا إدارةٌ حديثة في خدمة المواطن، وتراعي متطلباته واحتياجاته.
إنَّ الإصلاح الإداري، في تصور حزب التقدم والاشتراكية، يقع في صميم إصلاح الدولة، ويتعين أن يقوم أساساً على:
• تثمين وتأهيل الموارد البشرية للإدارة العمومية، من خلال سياسة طموحة للتكوين، ومراجعة نظام تدبير المسارات المهنية، بما يتناسب مع مبدأي المساواة والإنصاف. وهذا يشمل، من بين أمور أخرى، تعزيز المهارات، وتصحيح التفاوتات العميقة في الرواتب والتعويضات، وتفعيل سياسة اجتماعية محفزة؛
• تطوير الفعالية والكفاءة، من خلال التدبير القائم على النتائج، ورصد وتقويم كافة أشكال التبذير وسوء التدبير؛
• تطوير اللاتمركز الإداري، بشكل عميق، من خلال التفعيل الناجع للمخططات المديرية للاتمركز التي تنص على نقل الاختصاصات والموارد المادية والبشرية؛
• تنظيم إعادة توزيع الموظفين، مع مراعاة الدوافع والبعد الاجتماعي، من خلال تعزيز مراكز المسؤولية في الجهات والأقاليم، وإعادة تنظيم المصالح الخارجية حول أقطاب قطاعية كبرى على أساسٍ جهوي؛
• تغيير الأنظمة والمعايير المتعلقة بالتوظيف والولوج إلى مناصب المسؤولية، وضمان تكافؤ الفرص أمام المغاربة في الولوج إلى الوظيفة العمومية؛
• إجراء الإصلاح الإداري على أساس تعزيز تخليق الإدارة وتعميم الرقمنة.

3/ إصلاح العدالة
إنَّ الهدف من إصلاح العدالة هو ضمان الأمن القانوني والقضائي واحترام الحقوق، وإلغاء جميع الإجراءات المؤدية إلى التمييز أو الامتياز، سواء من خلال تبني سياسة جنائية وفق روح ونص الدستور والاتفاقيات الدولية، أو عبر مراعاة التغيرات المجتمعية. ويفترض هذا الإصلاح، أساساً:
• التعبير عن الإرادة السياسية، من خلال تعبئة الموارد المالية اللازمة؛
• محاربة أي اعتداء أو تطاول على استقلال القضاء والقضاة، وتعزيز محاربة الرشوة والحفاظ على حقوق المتقاضين؛
• مراجعة السياسة الجنائية، بهدف تطوير الوقاية من الجريمة، وتطوير عقوبات بديلة عن السجن، وتنظيم وتكييف الاعتقال الاحتياطي لتجنب الاكتظاظ في السجون؛
• تحديث إدارة القضاء، من خلال حُسن تدبير المسارات المهنية للقضاة، على وجه الخصوص، على أساس الجدارة، ومراقبة مردودية المحاكم، وتعميم إحداث مناصب قضاة القرب في المناطق النائية، ومراجعة الخريطة القضائية؛
• تفعيل دور النيابة العامة في مراقبة أداء الخبراء والعدول والموثقين ومدى التزامهم بالقواعد المعمول بها؛
• إصلاح مهنة المحاماة، باعتبارها جزءً أساسيا ضمن منظومة العدالة؛
• إضفاء الطابع الإنساني على المؤسسات السجنية، وتحديثها؛
• إجراء مراجعة تحديثية للمقتضيات القانونية المتعلقة بالقانون الجنائي؛ القانون المدني؛ المسطرة الجنائية؛ مدونة الأسرة؛ قانون الجنسية؛ النظام الاساسي للقضاة؛ قانون الإرهاب، قانون الجرائم الإلكترونية؛ إلخ.
• فتح نقاش وطني حول الحق في الحياة وإلغاء عقوبة الإعدام؛ وحول المساواة في الإرث. وهما مطلبان ينخرط حزب التقدم والاشتراكية في المُطالبة بهما.
الفصل الرابع: الأبعاد القيمية والثقافية والمجتمعية للبديل الديموقراطي التقدمي
الفرع الأول: الحريات الفردية والجماعية: رهان محوري لبناء الديموقراطية
1/ ملاءمة واقعِ الحريات وحقوق الإنسان مع المرجعيات الدستورية والكونية، مع التطبيق السليم للتشريعات والمؤسسات ذات الصلة
لا ينفصل واقع الحريات وحقوق الإنسان في أي بلد، كما في المغرب طبعاً، عن واقع الديموقراطية. وعلى المستوى الدستوري فإن المغرب يلتزم بحماية منظومة حقوق الإنسان والنهوض بها، والإسهام في تطويرها، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء. كما تلتزم بلادنا بحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان. وتلتزم أيضاً بجعل الاتفاقيات الدولية تسمو، فور نشر المصادقة عليها، على التشريعات الوطنية. وفضلاً عن ذلك، فالالتزام الدستوري قائمٌ فيما يتعلق بالعمل على ملاءمة التشريعات الوطنية.
وعليه، فإن حزب التقدم والاشتراكية لن يجد خيراً من هذه الالتزامات الدستورية كدعامةٍ للنضال من أجل ملاءمة كافة القوانين الوطنية مع الطبيعة الكونية لحقوق الإنسان. وفي هذا الصدد سيواصل الحزبُ كفاحه من أجل إدماج البُعد الحقوقي، وتعزيز الحريات الفردية والجماعية، في كل التشريعات الوطنية، وبالخصوص في مجموعة القانون الجنائي، ومدونة الأسرة وقانون الحريات العامة وغيرهما، بما يوسع من مجال الحريات الفردية والجماعية.
في نفس الوقت، ولأن إحدى المعضلات الأساسية التي تواجه الحريات والحقوق لا تكمن فقط في النصوص الجيدة، ولكن أساساً في التطبيق، فإن الحزب سيستمر في جعل قضية حماية الحريات الفردية والجماعية والمساواة والحقوق ضمن أولويات نضاله جماهيريا ومؤسساتيا، مع تسخير كل إمكانياته للدفاع المبدئي عن حق الأفراد والجماعات في التعبير عن أنفسهم، وفق القانون.
عمليا وظرفيا، سيواصل الحزب دفاعه على ضرورة اتخاذ الدولة لمبادراتٍ من أجل إحداث انفراجٍ حقوقي، وطيِّ صفحة اعتقالات الحركات الاجتماعية، وإيجاد مخرج للملفات المعروضة على القضاء بالنسبة لصحفيين.
في نفس الوقت، يعتبر الحزبُ أنَّه قد آن الأوان من أجل إعطاء نَفَسٍ جديد للمؤسسات الدستورية ذات الصلة، من خلال تقوية أدوارها وتفعيل توصياتها.
2/ فضاءٌ ديموقراطي سليم وتوسيع مجال الحريات لأجل مجتمع الإبداع والانفتاح وتحرير الطاقات
إن تمتيع المجتمع بالديموقراطية والحرية والحقوق هو حاجة تاريخية لبلادنا. ذلك أنَّ عدداً هائلاً من الطاقات تتبدد، وعدداً كبيراً من الكفاءات تهاجر بحثاً عن آفاقٍ رحبة لممارسة الحياة بحرية أكبر.
إنَّ بلادنا تتمتع بإجماعٍ وطني راسخ حول الثوابت الجامعة للأمة. وهي ثوابت تبلورت اقتناعاً وممارسةً على أرض الواقع. وبلادُنا محتاجة إلى أن تتحرر فيها طاقات المواطنات والمواطنين، وأن تتفجر طاقات المجموعات المنظمة كالأحزاب والنقابات والجمعيات والهيئات المنتخبة والأوساط الثقافية والإبداعية. حيث بات الصمتُ والرقابة الذاتية سائدَيْنِ في فضاءٍ تبرز فيه ثقافةٌ المحافَظَة والأفكارُ النكوصية والشعبوية والرافِضة.
ويعتبر حزب التقدم والاشتراكية أنه حان الوقتُ لمباشرة جيل جديدٍ من الإصلاحات الديموقراطية، من أجل أن تتوفر الشروط والبيئة المناسبة لتتحرر طاقات المجتمع في الإبداع والتعبير والتفكير والفِعل الجماعي وممارسة الحقوق والحريات، في إطار القانون وثقافة المسؤولية والالتزام بالواجبات، لكن دون خوفٍ من الوسم أو الزجر أو التصنيف أو الإقصاء أو التضييق.
إن المجتمع المغربي لا يمكنه أن ينمو ويتطور سوى من خلال إفساح المجال واسعاً أمامه، من أجل المبادرة والتعبير واكتساب الوعي. ذلك ما سوف يُنتج المفكرين والمبدعين والمبتكرين، ويُحدِثُ رجَّــــة في الإنتاج المادي واللامادي. وهو ما يقتضي أجواء ديموقراطية سليمة، في كنف الحرية والمسؤولية.
3/ حرية الصحافة رافعة للبناء الديموقراطي
تاريخ الصحافة الوطنية متلازمٌ مع تاريخ الديموقراطية، ومصيرهما واحد. ولا يمكن تصور بناءٍ ديموقراطي دون صحافة حرة، مستقلة، مسؤولةٍ، مهنية، وبيداغوجية.
إن الصحافة الوطنية اليوم تواجه تحديات متداخلة: التمويل؛ الرقمنة؛ ضعف الإقبال على القراءة؛ منافسة مواقع التواصل الاجتماعي؛ تطور وسائل الاتصال؛ القنوات الأجنبية؛ البيئة القانونية لممارسة المهنة؛ محاولات التوظيف والتدجين والتنميط والإسكات والاحتواء السياسوي؛ الممارسات المالية الفاسدة والمتناقضة مع نُبل رسالة الصحافة …إلخ، لذلك فإن الحقل الصحفي والإعلامي ببلادنا يحتاج إلى أجواء إيجابية جديدة، قوامها الحرية والتعددية والمهنية والمسؤولية.
فالإعلام العمومي يتعين أن يساهم في ترسيخ التعددية وإذكاء النقاش العمومي حول القضايا الأساسية. والصحافة المستقلة ينبغي أن يتم تمكينها من فضاء أوسع للحرية المرتبطة بالمسؤولية. كما أنَّ إشكالية تمويل المقاولة الصحفية لن يُحَلَّ بمقاربة الاستغلال من طرف قوى الإفساد السياسي عبر المال وشراء الذمم، بل من خلال دعم الدولة للمقاولة الصحفية، والارتقاء بتكوين الإعلاميين، وإرساء منظومة عادلة ومتكافئة للاستفادة من الإشهار والإعلان العمومي. بالإضافة إلى الاهتمام بالعنصر البشري باعتباره أساس العمل الصحفي؛ ثم يتعين تحصين الجسم الصحفي لذاته وحمايتها من الممارسات الفاسدة، وإعلاء شأن الأقلام والأصوات الحرة والنزيهة.
4/ المجتمع المدني والديموقراطية المشاركاتية: سند أساسي للديموقراطية التمثيلية
عمل حزبنا منذ نشأته على تشجيع المبادرات الجمعوية المتنوعة، لإيمانه المبكر بالأدوار الحيوية للمجتمع المدني في تأطير المجتمع، والرفع من الوعي العام، وحمل بعض القضايا والمطالب.
وتناسلت، في العقود القليلة الماضية، الجمعيات، واختلفت اهتماماتها، وتفاوتت درجات جديتها. كما أنه من الصعب جدا في السياق المغربي الحديث عن الانفصال التام بين الجمعوي والسياسي. فكثيرٌ من الجمعيات نشأت بالموازاة مع نضالات القوى الوطنية والديموقراطية، وكثير من المناضلات والمناضلين السياسيين “هاجروا” نحو الفعل الجمعوي لأسباب مختلفة، وعددٌ من الجمعيات نشأت في حضن أحزاب الإدارة، حيث لطالما تم الترويج لكون المجتمع المدني بديلاً عن الأحزاب السياسية الجادة منها بالخصوص. وكثير من الجمعيات اليوم يتم توظيفها سياسويا، سواء بخلفيات دينية أو بخلفيات انتخابوية.
ولهذا، من المفيد بالنسبة لبلادنا تنفيذ توصيات وخلاصات الحوار الوطني حول المجتمع المدني، وتفعيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي. كما أن حزب التقدم والاشتراكية سيظل مدافعاً عن مكانة المجتمع المدني وعن وظائف الجمعيات الجادة والنزيهة، معتمداً في ذلك على مرجعيته الديموقراطية، وعلى منطوق الدستور الذي خول للجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، المساهمة إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها.
إن قناعة حزب التقدم والاشتراكية راسخة في كون الديموقراطية التمثيلية هي خيرُ تجسيدٍ لتعبير الأمة عن إرادتها وتدبير شؤونها. إلا أن التفويض الممتد في الزمن الذي تنطوي عليه يجعل من الديموقراطية المشاركاتية أسلوباً من شأنه ضمان المشاركة المستمرة والمتواصلة للمواطنات والمواطنين في تدبير شؤونهم، من خلال جمعياتٍ فاعلة وذات مصداقية.
الفرع الثاني: المساواة بين النساء والرجال: في الحاجة إلى جيل جديد من الإصلاحات
1/ المساواة جزء أساسي في المعركة من أجل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية
إن حزب التقدم والاشتراكية يحمل مشروعا فكريا وسياسيا توجد مسألة المساواة في قلبه. وذلك ليس فقط باعتبار المساواة مسألة حقوقية، وهي كذلك فعلاً، ولكن أيضاً باعتبارها رهانا للعدالة الاجتماعية وعنصرا للتنمية والتقدم، طالما أن التنمية لن تستقيم واقفةً على رِجْلٍ واحدة، والديموقراطية كذلك.
فثقافة عدم التمييز حسب النوع داخل المجتمع والدولة من شأنها أن تعزز الاستقلال الاقتصادي للمرأة، من خلال المساواة في الولوج إلى سوق الشغل، وإلى مراكز القرار، والمساواة في الأجور، وغير ذلك من تمظهرات المساواة في الحقوق والواجبات سياسيا، اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا وثقافيا، بما في ذلك المساواة في الإرث.
تأسيسا عليه، فإن تمكين النساء من حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية كاملة هو جزءٌ أساسي من معركة إقرار الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
2/ إصلاح التشريعات وملاءمتها لإقرار المساواة الكاملة بين الجنسين
تقدمت بلادنا كثيراً، خلال العقدين الأخيرين، في مجال الإقرار الدستوري والقانوني للمساواة. كما صادقت على عدد من الاتفاقيات الدولية المتقدمة ذات الصلة. لكن الحاجة ماسة، اليوم، بعد ركودٍ في المكتسبات ذات الصلة، وتردد في التفعيل أيضاً، وبعد التعطيل الذي عرفه تفعيل ورش المساواة في السنين القليلة الماضية، إلى:
• ملاءمة كافة القوانين والممارسات مع مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها بلادنا؛
• مراجعة مدونة الأسرة، بما يُعلي من شأن ومكانة المرأة في الأسرة ومساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات؛
• إدماج مقاربة النوع في التشريعات المختلفة وفي كافة السياسات العمومية؛
• الرفع الإرادي من معدل انخراط المرأة في الشغل بِالضعْف على الأقل؛
• إقرار المساواة في الأجر بين الجنسين، في جميع القطاعات والمجالات؛
• نهج سياسة إرادية لتمكين النساء من الولوج المتكافئ إلى مراكز المسؤولية الإدارية والسياسية؛
• إعطاء دفعة أقوى لمحاربة العنف والفقر والهدر المدرسي، في المجتمع عموماً، وبصيغة المؤنث على وجه الخصوص.
3/ الحاجة إلى انبعاث قوي للنضال من أجل المساواة والمناصفة
إن بلوغ هدف المساواة ليس طريقُهُ سهلاً، بل هو مسارٌ يتطلب الكفاح، على غرار ما قامت به الحركة الوطنية والديموقراطية والتقدمية على مدى سنواتٍ وعقودٍ من النضال، وحققت من خلال ذلك مكتسباتٍ لا تُنكَر.
واليوم، كل الظروف مواتية، وكل المبررات الموضوعية قائمة، لانبعاث حركة نسائية منصهرة في المعركة العامة من أجل الديموقراطية والحداثة والتقدم والعدالة الاجتماعية.
وعلى هذه الحركة النسائية، الموجودة نواتها أصلاً في المجتمع، أن ترفع من ديناميتها، في الترافع، والاقتراح، والضغط بكل الوسائل المتاحة على الواجهتين المؤسساتية والجماهيرية، من أجل الدفع بعجلة المساواة إلى أبعد مدى.
ومن شأن، بل مطلوبٌ من منتدى المناصفة والمساواة، التابع للحزب، أن يلعب دوراً على مستوى تحريك وتنسيق هذه الحركة النسائية الديموقراطية، على جميع المستويات.

الفرع الثالث: الثقافة والعوامل اللامادية: عناصر محدِّدة للإصلاح
1/ تعدد مكونات وروافد الثقافة الوطنية مصدر غنىً يتعين استثماره
في إطار وحدةٍ وطنية وتماسكٍ مجتمعي، تتميز الهوية المغربية، بمقومات موحَّدة، بانصهار كل مكوناتها، العربية، الإسلامية، الأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز باستعدادها، حضاريا وتاريخيا، للتفاعل الإيجابي مع قيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.
إن هذا الغنى المتفرد هو ما يتوجب استثماره، سواء على المستوى الاقتصادي، أو في مسيرة البناء الديموقراطي، أو على صعيد ترسيخ القيم الإنسانية والوطنية النبيلة، في إطار ثقافة مجتمعية متعددة في إطار الوحدة.
2/ جدلية الثقافة والديموقراطية والتنمية
من البديهي أن الديموقراطية، باعتبارها شرطاً لازما للتنمية، ليست قراراً، بل هي مسار تتظافر فيه كل العوامل المُعبِّئة، ومن بين أهمها الثقافة، بمفهومها العام والخاص على حد سواء.
إنَّ النهوض بأوضاع بلادنا تنمويا يستدعي، بالضرورة، الارتقاء بالمجال الثقافي. وهو ما يستلزم بدوره تعميم المعرفة بين صفوف المواطنات والمواطنين والاعتناء بتكوين الناشئة؛ واكتساب القدرة على اختراق عالم الحداثة والمعرفة؛ وتطوير استعمال العقل والتحليل العلمي؛ واستئصال الأمية والجهل؛ وتعميم الولوج إلى الثقافة وفضاءاتها، وذلك بالموازاة مع إعطاء المكانة المتميزة للثقافة والفن، ولدراسة المناهج الفلسفية والتاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية.
إن كسب رهان الديموقرطية وتفعيل النموذج التنموي البديل لن يتحققا سوى من خلال الاهتمام بالثقافة والمثقفين، وبالإبداع والمبدعين، وبالأفكار والمفكرين. وذلك لسبب بديهي هو أن هؤلاء هم من يقود معركة الأفكار وإنتاجها.
3/ الثقافة كقطاع اقتصادي حقيقي
بالإضافة إلى الوظيفة القيمية، فإن الثقافة يمكن، على غرار ما هو قائم في عدد من البلدان، أن تشكل قطاعاً اقتصاديا حقيقيا ببلادنا، يساهم بقوة في الناتج الداخلي الخام، ويخلق الثروة ومناصب الشغل. وذلك من خلال إعطاء دفعة قوية للاستثمار في الصناعات الثقافية.
اعتبارا لضعف النفقات الثقافية لدى الأسر المغربية، وبالنظر إلى الطابع الجنيني لبعض الصناعات الثقافية والإبداعية التي لا تمتلك المناعة الكافية لمواجهة المنافسة، ونظرا لخصوصية الإنتاج الثقافي الذي يجمع في آن واحد ما بين الطابع القيمي والطابع التجاري، يتعين أن يشكل دعمُ المشاريع الثقافية والفنية من طرف الدولة والمؤسسات والمقاولات العمومية والخاصة والجماعات الترابية الرافعةَ الأساسية في تطوير الإنتاج الثقافي والإبداع الفني.
كما يقترح الحزبُ مراجعة آليات دعم الأعمال الثقافية والفنية، وإضافة آلية تمويلية جديدة، من أجل تقوية وتنويع العرض الثقافي، وتقريب الجمهور الواسع من الفنون، وفتح آفاق جديدة للمبدعين الشباب، ويتعلق الأمر بآلية التمويل الإجباري، من خلال رصد نسبة مئوية من ميزانية استثمار الهيئات والمؤسسات العمومية للأعمال الإبداعية.
4/ أهمية الثقافة والمثقفين في تطوير بلادنا
يظل دور المثقفين والمفكرين والمُبدعين أساسيا على كل المستويات. ولهذا يرى حزبُ التقدم والاشتراكية أن الاهتمام بهذه الفئة من المجتمع أساسية، وتقتضي أولا الاستثمار العمومي في توفير البنيات التحتية الثقافية، وتوفير الشروط الملائمة للتحفيز على الإبداع في كافة المجالات الفكرية والثقافية والإبداعية.
كما يستلزم الأمر توفير الشروط الملائمة أمام المثقفين لإنتاج الأفكار والتعبير الحر عنها، وتبادلها. علما أنه يتعين النظرُ إلى المسألة الثقافية ليس كعبءٍ مجتمعي، بل كرافعة لقيمة شعبنا بين الشعوب.
كما يستدعي الأمرُ الرفع من مكانة وأدوارِ المثقفين وتيسيرَ إسهامهم في الديبلوماسيةِ الأكاديمية والثقافية والفنية، كما يقتضي توفيرَ الشروطِ الملائمة لدعم الجودة في الإنتاج الفكري والثقافي والفني.
5/ الأمازيغية: مكتسبات تحتاج إلى التفعيل الحقيقي
اهتم حزب التقدم والاشتراكية، دَوْماً، بالمسألة الأمازيغية، لغةً وثقافة، كمكون رئيسي للهوية الوطنية، عانى من التهميش، ووجب رد الاعتبار إليه وتعزيز تعابيره الثقافية.
على هذا الأساس، ناضل، ولا يزال، حزبنا من أجل النهوض باللغات والثقافات الأمازيغية، إسهاماً منه في بلوغ هدف الإقرار الرسمي للدولة بالأمازيغية كمكون أساسي للثقافة الوطنية.
وتُعتبر دسترة اللغة الأمازيغية، كلغة وطنية رسمية، إلى جانب اللغة العربية، مكسباً مهما وانتصارا لأطروحات حزب التقدم والاشتراكية المتعلقة بالهوية الوطنية والمسألة الثقافية، وتتويجا للنشاط الفكري والميداني للحركة الثقافية الأمازيغية.
إن الاعتراف بالأمازيغية، كمكون للهوية الوطنية، وبالأمازيغية كلغة رسمية، وإصدار التشريعات ذات الصلة بإدماج اللغة الأمازيغية في كافة مناحي الحياة الوطنية، هي مكاسبُ تستدعي الارتكاز عليها، والمرور إلى التطبيق والتفعيل العملي، من خلال إطلاق دينامية جديدة، قوامها تعميم تعليم الأمازيغية، وما يتطلبه ذلك من تكوين ما يلزم ويكفي من أساتذة متخصصين.
الفصل الخامس: الديموقراطية أساسٌ لحمل البديل الديموقراطي التقدمي
الفرع الأول: مكانة أساسية للديموقراطية في البديل الديموقراطي التقدمي
إن الخيار الديموقراطي تبناه الحزب، منذ نشأته، وفي ظروف بالغة التعقيد، على أساس إيمانٍ مبكر وقوي بالعمل الديموقراطي السلمي التراكمي، في سياق إيديولوجي يساري كان ينشد في غالبيته عكس هذا الموقف.
إن الغاية من التذكير المُقتضب بهذا المسار هو التأكيد على أن الديموقراطية، بالنسبة لحزبنا، كانت ولا تزال هي الطريق الأقوم لتحقيق التنمية الشاملة على قاعدة العدالة الاجتماعية.
1/ الديموقراطية شرط لازم للتنمية: شمولية الإصلاح
إذا كانت الديموقراطية تهدف، على المستوى السياسي، إلى تقاسم السلطة أو جزءٍ منها، عن طريق اقتراعٍ حر يشارك فيه المواطنات والمواطنون، فيجب أن تكون على المستوى الاقتصادي والاجتماعي آلية للتوزيع العادل للثروة، والاستفادة من الخدمات العمومية الأساسية، بصفة منصفة ومتساوية ومتكافئة. ويتعين كذلك أن تكون الديموقراطية ضامنة للمساواة، ولحرية التفكير والاعتقاد، ولحرية التعبير والتنظيم. بهكذا مضمونٍ ستكون الديموقراطية رافعة للتنمية وجزءً لا يتجزأ منها.
إن الموضوع الأساسي لكل مجتمع هو تأمين الشروط الأساسية للحياة وبصفة مستدامة، ذلك أن الحرية تكون بدون معنى إذا لم يحقق المواطن الحد الأدنى من شروط العيش الكريم.
لذا، فجوهر الأمر فيما يتعلق بالديموقراطية، بالنسبة لحزبنا، هو الارتباط بالتنمية، ومعيار الحكم على الديمقراطية المطبقة هو مستوى التنمية وعدالة وطريقة توزيع الثروة. بالإضافة إلى مدى مشاركة المواطن في صياغة القرار العمومي.
وعلى هذا الأساس، فإن النضال من أجل الديموقراطية، والمناداة بتنمية ثقافة المشاركة الحرة والمستقلة في الشأن العام، لا يمكن أن ينفصلا عن النضال من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية والثقافية، بل يتعين القول إن غاية الديموقراطية ومبررها هو تحقيق التنمية الشاملة. إنهما وجهان لعملة واحدة.
هكذا، فمن منظور حزب التقدم والاشتراكية، لا يمكن الفصل بين الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإيكولوجية، وبين المسألة السياسية، بل هناك ربط جدلي بين مختلف هذه المستويات، وأي تعثر في أحدها ينعكس سلبًا على المستويات الأخرى.
ففي جميع الحالات، الأنظمة الديمقراطية هي التي تتوفر لها المؤهلات لتقديم الأجوبة اللازمة للإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية، على اختلاف تنوعها وتعقدها. فلا بديل عن الديمقراطية.
إن الديمقراطية، بمفهومها الكوني والشامل، لا تقتصر على العمليات الانتخابية وإقامة مؤسسات تمثيلية، على الرغم من الأهمية البالغة التي يكتسيها ذلك في تجسيد الإرادة العامة للشعب. بل إن الديموقراطية يتعين أن تعتمد على إطلاق دينامية أوسع تروم تعبئة المجتمع وطاقاته المختلفة وضمان إشراكهم. ذلك أن الديموقراطية التمثيلية ستكون أكثر متانة حين تُقرن ب”الديموقراطية بالمشاركة”. كما تتطلب الديموقراطية إحداث ميكانيزمات وآليات ناجعة للرقابة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحقيق التكامل بين المؤسسات الوطنية والمؤسسات الترابية.
2/ مضمون ديموقراطي لمفهوم “الدولة القوية”
الدولة القوية، في منظور حزب التقدم والاشتراكية، هي الدولة الاستراتيجية والمُوَجِّهة والمستثمِرة والمُخَطِطَةُ اقتصاديا، والحامية للمواطنات والمواطنين اجتماعيا. وهي الدولة الديموقراطيةُ، سياسيا، من خلال حرصها على تفعيل الدستور وفصل السلط بشكلٍ سليم وسَوِيّ، وعلى الحريات والحقوق بالنسبة للجميع، على قدم المساواة. وهي الدولة التي تستطيع تحرير طاقات المجتمع، وتوفير الأجواء المناسبة له من أجل الإبداع والإنتاج والاستفادة العادلة من ذلك.
ولن تكون الدولة قوية، بصفة مستدامة، إلا إذا كانت دولة ديموقراطية تتعالى عن صراعات المجتمع، حول السلطة أو حول الثروة أو حولهما معا. وإلا إذا كانت تلزم موقع الحياد، بغاية الحفاظ على وظيفتها التمثيلية الجامِعة.
إن التدخل المشروع والضروري هو التدخل الذي تفرض فيه الدولة القانون على الجميع تحقيقاً للمصلحة العامة وحمايةً لحقوق الأفراد وحرياتهم. وهي حين تفعل ذلك، تمارس وظيفتها الطبيعية في تنظيم المجتمع، بما في ذلك تنظيم منازعاته والحرص على قواعد المنافسة المشروعة. كما تمارس وظيفة حماية الأمن الاجتماعي والاستقرار المدني. والدولة لا يتعين أن تكون طرفا في الصراعات السياسية الطبيعية الناتجة عن اختلاف الأفكار والمصالح وتضاربها، إلا وفق القانون، وإلا تخلت على كونها دولة الجميع.
فمن مهام الدولة تحقيق التوازنات الاجتماعية والمجالية والقطاعية، وتأطير العلاقة بين القطاع العمومي وبين القطاع الخصوصي، والحرص على توازن القوة أثناء التفاوض والتنفيذ بين الجماعات المحلية والمؤسسات المفوض لها القيام بخدمات عمومية. فضلا عن توفير الحماية والمواكبة والتحفيز للمؤسسات الإنتاجية الوطنية الناشئة، في أفق تقوية قدراتها التنافسية، في إطار عقود قطاعية، والحفاظ على البيئة والثروات البيئية من كل أشكال الهدر والتبديد.

الفرع الثاني: نَفَسٌ ديموقراطيٌّ جديد لتعبئة الطاقات
يعتبر حزبنا أن الطريق الأقوم إلى التنمية الشاملة هي تعميق الديموقراطية وتوطيدها، كنظام وكممارسة تسمح بإطلاق القوى الاجتماعية للإنتاج والإبداع والتنافس، وتحقيق التراكم المادي والمعنوي، وبتعزيز اللحمة الوطنية استنادا إلى رابطة المواطَنة الكاملة التي هي الوسيلة المثلى التي تحرر من السلبية والاتكالية وتشحد الطاقات في معركة البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.
فلا يمكن أبداً أن نتصور، مثلاً، تفعيل الدستور أو تفعيل مضامين النموذج التنموي أو إصلاح التعليم، دون انخراطٍ ومشاركةٍ قويين وعارمين للمواطنات والمواطنين. وهذا الانخراط يمكن ضمانه من خلال الإشراك القبلي، والنقاش العمومي، والرفع من منسوب الثقة والمصداقية في فضاء التدبير العمومي. وأيضا من خلال تعزيز الشعور بإمكانية التغيير والجدوى منه، وتقوية الشعور الجماعي بالمسؤولية، وقيم المواطَنة، والشعور بالانتماء إلى الوطن وقضاياه.
إن هذا يعني أن تعبئة طاقات المجتمع برمتها، وتعبئة عموم المواطنات والمواطنين، شرطٌ أساسي لنجاح أي إصلاح. وهي المقاربة التي تُفضي إلى أن الديموقراطية ليست مجرد ترفٍ أو تأثيثٍ للمشهد، بل هي ضرورة قصوى للعبور نحو مغربٍ أفضل.
إن ما قطعته بلادنا من أشواط في مسيرة التقدم والديموقراطية، وما حققه شعبُنا من مكتسبات على مستوى الحريات والحقوق، أضحت اليوم مهددة، بما تتعرض له هذه الحريات، بين الفينة والأخرى، خصوصا حرية الرأي والتعبير، من تراجعات، وبما يعرفه المجال العمومي من جمود فاقمه ضعف الحضور الحكومي في الحقول التواصلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتفاعل مع الفاعلين فيها.
كل هذه العوامل المتداخلة والمتشابكة (اقتصادية واجتماعية وسياسية) المشار إليها أعلاه، لا تساعد في جاذبية العمل السياسي، ولا في صنع قاعدة اجتماعية تستطيع السياسة أن تخاطبها وأن تستقطبها للانخراط في الفعل.
وتفاديا لأي انتكاسة قد تعود ببلدنا إلى الوراء، وتعصف بما حققه شعبنا وقواه الوطنية الديموقراطية، في إطار التوافق التاريخي، من مكتسبات، فإنه لا محيد عن ضرورة الاستمرار في تعميق المسلسل الديموقراطي.
إنما هذه المهمة التاريخية، في ظل الجمود الحالي، تتطلب استنهاض الهمم، وتعبئة الطاقات، وعودة المثقفين، وإحياء النضال الجماهيري في صفوف الديموقراطيين والتقدميين والنساء والشباب والعمال، وتأطير الحركات الاجتماعية، واستعادة الثقة والمصداقية في العمل السياسي والنضالي النبيل، وإعطاء المعنى والروح للنضال المؤسساتي، والالتصاق بنضالات الجماهير حول قضايا محددة، وتعزيز الشعور بالانتماء للوطن، وتوسيع قاعدة النضال المشترك مع كل القوى والفعاليات الحية.
إن إنجاز مهمة توطيد المسار الديموقراطي تتطلب انبعاث النضال الديموقراطي المؤسساتي والجماهيري، بمشاركة وانخراط جميع الطاقات. أي أننا في حاجة إلى رجة ديموقراطية وإصلاحية كبرى، طالما أن التغيير لا يأتي لوحده والمكتسباتُ لا تتحقق بشكلٍ تلقائي.
وخلاصة القول، بالنسبة للبديل الديموقراطي التقدمي الذي يتقدم به حزب التقدم والاشتراكية، أنَّ الإصلاحاتِ التي تحتاج إليها المجتمعات، في شتى المجالات، يتعين اتخاذها بجرأةٍ في فتراتٍ الأزمات.
ففي غضون سنوات قليلة، عاش العالم، والمغرب طبعاً، أزماتٍ كبيرة بآثارٍ سلبية. ومنها الأزمة المالية العالمية، وأزمة جائحة كوفيد 19، والأزمة العالمية الحالية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية. ومن شبه المؤكد أن العالم مُقْبِلٌ على لحظاتٍ عصيبة متتالية تجعل من الأزمة أمراً دائماً أو شبه دائم، وليس فقط أمراً ظرفيا.
إن حزب التقدم والاشتراكية ليس من أنصار المنطق التبريري الذين يجعلون من الأزمة لحظة توقفٍ عن الإصلاح، بمبرر الانكباب فقط على معالجة وتدبير تمظهرات الأزمة القائمة. بل يعتبر أن لحظات الأزمات، حيث تُصابُ البنياتُ بخلخلة موضوعية، هي فرصة من أجل إجراء الإصلاحات الضرورية الكبرى التي تشكل خلخلة ذاتية وإرادية ومُوَجَّهة.
ومن جهة أخرى، فإنه من المعروف أن فترات الأزمة تتميز، دائما، بسهولة التعبئة المجتمعية. وهو ما يشكل عنصراً محفزاً لمباشرة الإصلاحات الهيكلية الكبرى ووضع حد لتأجيلها.
تأسيساً عليه، فحزبُ التقدم والاشتراكية يعتبر أن هذه الفترة من تاريخ وطننا وشعبنا، والمتسمة بأزماتٍ مُرَكَّبة، هي فرصة مواتية للقيام بإصلاحاتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية، بما يرتقي بمسارنا التنموي والديموقراطي.

الباب الثالث: الأوضاع الدولية
الفصل الأول: عالم جديد بتقلبات عميقة يسير نحو تعدد الأقطاب
يعرف العالم تقلباتٍ وتحولاتٍ عميقة تُنبئ بميلاد عالمٍ جديد مغاير، وتحولاتٍ في موازين القوى العالمية، وفي التموقعات الجيو استراتيجية، حيث تبرزُ قوىً صاعدة، وتُصَارِعُ أخرى لأجل الحفاظ على مواقعها ونفوذها، في ظل تنامي قيمٍ جديدة، وتصاعد أنماط جديدة للإنتاج، واتساع نطاق الاعتماد على الرقميات.
أيضاً، من أهم سمات الأوضاع العالمية الراهنة: سيادةُ اللايقين؛ وأزمة السياسة؛ وصعوباتُ وانحرافات الديموقراطية التمثيلية؛ وتَحَوُّلُ قوى الرأسمال الصناعية إلى قوى مالية؛ والمنافسةُ الشرسة على قيادة العالم؛ والنزاعاتُ المسلحة؛ وهشاشةُ النموذج الاقتصادي الرأسمالي؛ علاوةً على انبعاث مفهوم السيادة والأمن الاستراتيجي للدول؛ واتساع التناقضات الطبقية والفوارق الاجتماعية؛ وتفاقم الفقر حتى في بلدانٍ غنية.
وبالموازاة مع ذلك، برز أكثر فأكثر الإقرار المتنامي بالأدوار الاستراتيجية للدولة لمعالجة الأزمات، وانبثق جيلٌ جديدٍ من الحركات النضالية التي تسعى، بطرق مختلفة، نحو مواجهة السياسات الرأسمالية والهيمنية الإمبريالية.
إنَّ كل هذه التطورات المتسارعة والأزمات المختلفة تبرز محدودية قدرات النظام الرأسمالي على حل المعضلات التي تواجه العالم، وتُؤشر، في نفس الوقت، على الـــمـــــــسير نحو نهاية القطب الواحد وانبثاق عالم متعدد الأقطاب.
الفرع الأول: العالم في أزمة مُرَكَّبة
يتسبب النزوع الهيمني للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أزمات بمناطق مختلفة من العالم. كما أنَّ الرأسمالية تعرف أزماتٍ دورية. ويشهد العالمُ نزاعاتٍ دولية بخلفية الصراع على مناطق النفوذ. وفي نفس الوقت تتعرض خيرات الشعوب والموارد الطبيعية للاستنزاف الذي من مؤدياته التغيراتُ المناخية المهدِّدَةُ للحياة البشرية على كوكب الأرض.
1/ الرأسمالية: عجز إزاء معضلات وأزمات العالم
لقد بينت أزمة كوفيد19 عن عجز النظام الرأسمالي في مواجهة الأزمات الطارئة، وعدم قدرة النظام العالمي الحالي على ضمان التوازن وخدمة كل الإنسانية التي هددتها الجائحة. هكذا تبين بوضوح أنانية البلدان المتقدمة إزاء الصعوبات التي عاشتها وتعيشها بلدان عديدة لا تسمح لها إمكانياتها المحدودة بمواجهة الجائحة على كل المستويات.
وتبين أن منطق الربح الذي تعمل به الرأسمالية لا يصمد أمام التحديات التي تواجه العالم. وهو ما جعل بلدانا غارقة في الليبرالية تلجأ إلى تقوية دور الدولة والقطاع العمومي لمواجهة الأزمة، بشكلٍ يُناقض توجهاتها ويبرهن على وجاهة التصورات التقدمية.
2/ استنزاف موارد وخيرات الشعوب
إن النزوع نحو الهيمنة والإمبريالية هو من طبيعة النظام الرأسمالي الذي تسبب في ويلات للبشرية وحروب مدمرة، من أجل ضمان الأسواق واستنزاف خيرات الشعوب والموارد المتواجدة خارج مواطنه.
هكذا، عرفت البشرية مرحلة الاستعمار المباشر، كما عرفت حروبا كونية لاقتسام مناطق النفوذ. وأمام مقاومة الشعوب لجأت القوى الرأسمالية إلى أشكال جديدة من الاستعمار الاقتصادي والمالي، عبر الشركات المتعددة الجنسيات والصناديق المالية الدولية، بقصد فرض التبعية والخضوع على البلدان الفقيرة والسائرة في طريق النمو.
كما لجأت القوى الامبريالية إلى إشعال عددٍ من الحروب والتوترات، بهدف مزيد من السيطرة والربح، على حساب السلم العالمي والأمن والاستقرار في مناطق عديدة من العالم. ودعمت أيضاً أنظمةً غير ديموقراطية تابعة لها، في مقابل شن حروبٍ لمواجهة أنظمة سياسية لا تدور في فلكها، تحت شعار الدفاع عن الديمقراطية والعالم الحر، والذي يعني عندها عمليا حرية الهيمنة على الشعوب وخيراتها.
بهذا المنطق، يتم تدمير بلدان مثل العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان واليمن، بدعوى مكافحة الإرهاب. كما يتم اللجوء إلى سلاح الحصار والعقوبات الاقتصادية، وإلى افتعال حروب تجارية أو حروب عسكرية ذات تداعيات مدمرة على الإنسان، بغاية بسط النفوذ والهيمنة على البلدان والشعوب والموارد والأسواق.
3/ النزاعات الدولية: صراع حول النفوذ والهيمنة والأسواق
إنَّ النزاعات الاقتصادية والتجارية والديبلوماسية والعسكرية بين القوى الكبرى، تُرافقها حروبٌ إعلامية تقوم بالأساس على التلفيق والكذب والتزييف. هكذا عرفت السنواتُ الأخيرة حربا تجارية بين الولايات المتحدة والصين الماضية قُدُماً في التحول إلى أول قوة اقتصادية في العالم، مع تجنبها التورط، إلى حد الآن، في صراعات بشكل مباشر ومكشوف. إنه صراع تحركه أساساً المصالحُ الاقتصادية، وإنْ كانت الصين تُـــبدي دعما للحركات المناهضة للرأسمالية.
كما تصاعد الصراع بين روسيا والولايات المتحدة بالتدريج، في السنوات الأخيرة، حول مناطق النفوذ، بعد أن خَفَتَ دور روسيا عالميا، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. بل إن روسيا حاولت لسنوات بعد هذا الانهيار الاندماج في النظام الدولي، في جوانبه الاقتصادية والمالية والديبلوماسية. غير أن روسيا عادت بقوة في عهد بوتين الى الساحة الدولية، مُحاوِلة احتلال الموقع الذي كان يحتله الاتحاد السوفييتي، بخلفيةٍ قومية تم إحياؤها. وبدأت هذه العودة، بشكل خاص في الشرق الأوسط، بالعمل على خلق توازنات جديدة في المنطقة، بأفق تشكيل تحالف جديد ينافس الولايات المتحدة الأمريكية ويحد من هيمنتها شبه المطلقة.
وبلغ هذا الصراع ذروته باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والتي هي في جوهرها حرب بين روسيا من جهة، وبين الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين من جهة ثانية. هذه الحرب المؤلمة يذهب ضحيتها الشعب الأوكراني، لكن أيضا الروسي وشعوبٌ في كل مناطق العالم، وفي أوربا وأمريكا نفسهما، نتيجة التداعيات التي تخلفها إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا وعلى مستوى تهديد السلم العالمي.
4/ نحو بزوغ أقطاب متعددة لصالح الشعوب
إن التطورات التي يعرفها العالم تؤشر على مخاض لميلاد عالمٍ بأقطاب متعددة، وبالنتيجة تكسير هيمنة القطب الأمريكي الأوربي كقطب وحيد. حيث نشهد التلاقي المتصاعد بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، في مقابل بزوغ دور روسيا والصين الشعبية في تطلعٍ يمكن أن يخدم مصالح مشتركة آنية لهذين البَلَدَيْن. وذلك إضافة إلى تطلع عددٍ من الدول الأخرى نحو احتلال مراتب متقدمة على الساحة الدولية.
وحتى إنْ كانت دواعي هذا المخاض الدولي المعقد هي في جوهرها صراع مصالح ونفوذ، فإن كسر الهيمنة الأمريكية الأوروبية، التي تمثل الأحادية القطبية، لن يكون سوى في صالح الشعوب التي يمكن لها استثمار التناقضات بين الأقطاب، والتوازن الذي تخلقه التعددية القطبية، بأفق التحرر من الهيمنة وإملاءاتها السياسية والاقتصادية. وهو التوجه الذي يعكسه تصاعد الحركات المناهضة للنيوليبرالية ولعولمة الرأسمالية والأمبريالية في عدد من البلدان.
الفرع الثاني: تحديات عالمية مشتركة في حاجة إلى نظام عالمي بديل
إذا كان ما يجمع قوى الرأسمال في مختلف البلدان هو السعي نحو الربح بمختلف الوسائل، فإن ما يجمع الشعوب والقوى المحبة للسلام والتقدم هو مواجهة تحديات مشتركة تتعلق بالتنمية والاستقرار والديموقراطية، مما يقتضي تضامناً دوليا حقيقيا، من خلال مؤسسات دولية تعبر عن مطامح الشعوب. غير أن التضامن الدولي، في شكله الحالي، عاجز عن مواجهة التحديات المطروحة على الإنسانية، نظرا لسيطرة القوى المهيمنة على مجمل المؤسسات الدولية، واستعمالها لتحقيق مصالحها الخاصة، مما يطرح ضرورة إحداث تغييرات جذرية على هذه المؤسسات.
1/ آفات دولية تستدعي المواجهة المشتركة بالموازاة مع الاعتماد على الذات
من أبرز التحديات العالمية التي تصعب مواجهتها بشكل منفرد، وبدون تعاون دولي، آفات الإرهاب والجريمة المنظمة والفقر والتخلف والتغيرات المناخية وقضايا البيئة بوجه عام.
فالإرهاب، بمختلف أشكاله ومصادره، يُشكِّلُ مشكلة عالمية تتسبب في مآسي بمناطق مختلفة. إن الإرهاب ليس له دين محدد، بل هو استغلال الديانات من طرف قوى سياسية، أو توظيفها من قِبل قوى دولية إمبريالية، وبالخصوص الولايات المتحدة الأمريكية التي توظف تارةً حركاتٍ إرهابية منسوبة للإسلام، وتستعملها كأدوات لخلق الفتن أو تصفية حسابات مع قوى سياسية غير خاضعة أو منافسة، وتارةً أخرى تحاربها عندما تتحول هذه الحركات إلى تهديدٍ لها.
وتبقى النتيجة الوحيدة لكل هذه التمظهرات الإرهابية هي إثارة الفتنة، وزعزعة استقرار عدد من الدول، وتدمير مظاهر التقدم الذي راكمته هذه الأخيرة، مثلما يحصل في العراق وليبيا واليمن وسوريا وأفغانستان وغيرها.
ومن الآفات التي تتحدى البشرية آفة التخلف والفقر، وآفة الهجرة بمختلف أنواعها، وآفة الجريمة المنظمة، بالإضافة إلى ظاهرة التغيرات المناخية الناتجة عن إنهاك الطبيعة والموارد.
إنه من الممكن التخفيف من حدة هذه الآفات، بل القضاء عليها، من خلال تضامن دولي حقيقي. لكن يظل من الأساسي، لمواجهة الفقر والتخلف وكافة المعضلات، أن تتحلى البلدانُ المعنية بالإرادة، وأن تتحمل مسؤولية استنهاض هِمم شعوبها، وتعبئة طاقاتها الذاتية، وإجراء إصلاحاتٍ ديموقراطية ذاتية، وتحسين أنظمتها السياسية وأساليب حكامتها، والدفاع عن مصالح شعوبها.
2/ التضامن الدولي في حاجة إلى توجه جديد
يتم التضامن الدولي وفق آليات متعددة، منها التعاون الثنائي أو المتعدد الأطراف بين الدول، والمنظمات التابعة لهيئة الأمم المتحدة، ومنظمات وهيئات وتكتلات إقليمية أو قارية دولتية، ومنظمات دولية غير حكومية.
إن معظم المنظمات الدولية الرسمية، أو غير الحكومية، تتحكم في تمويلها وقراراتها، عموما، الدولُ الكبرى، والرأسمالية بوجه خاص. وهي بالتالي خاضعة لمصالح وحسابات هذه الدول. والتضامن الذي تقوم به هذه المنظمات محدود التأثير ومُوَجَّهٌ في الغالب من أجل خدمة أجندة سياسية محددة.
وقد كانت جائحة كورونا مناسبة لتأكيد عجز المنظمات الدولية القائمة على معالجة التحديات المطروحة، حيث لم تقم المنظمات المعنية بجهود ملموسة وفعالة لدعم الدول الفقيرة. كما قامت أغلبُ الدول الكبرى باحتكار وسائل مواجهة الوباء عموماً. لكن لا يتعين أن نغفل بعض الإشراقات التضامنية بين بعض الدول، كما حدث بالنسبة لمبادرة بلادنا إزاء قارتنا الإفريقية، فضلاً عن تجارب أخرى هنا وهناك شكلت الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
إن ما ينبغي أن يكون عليه التضامنُ الدوليُّ هو الانطلاق من المبادئ الإنسانية، على أساس المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين الشعوب، وتقاسم الإمكانيات ووسائل مواجهة الآفات المتعددة، ووضع مصالح كل الإنسانية فوق الاعتبارات الأنانية والمصلحية والقومية الضيقة. غير أن ذلك يتطلب مراجعة جذرية للمنظمة والمؤسسات الدولية على أسس جديدة. ومن هنا ضرورة إرساء نظام عالمي بديل قائم على الاستفادة المشتركة من الموارد والخيرات، وعلى تَحَمُّلِ الدول الغنية لمسؤولياتها التاريخية تُجاه البلدان المستَغَلّة، والإسهام بالنصيب الأكبر في توفير الإمكانيات المالية التي تتطلبها المواجهةُ الفعلية والناجعة لهذه الآفات، والكف عن استنزاف واستغلال خيرات البلدان الفقيرة، وتمكينها من وسائل وفرص التنمية على قدم المساواة.
الفصل الثاني: انتعاش فكري وسياسي لليسار عالميا
الفرع الاول: تجارب سياسية ناجحة لليسار عالميا تفتح الآفاق نحو مستقبل أفضل للبشرية
عرفت السنوات الأخيرة انتعاشًا نسبيا لليسار على المستوى العالمي، فكريا وسياسيا، بعد سنوات من التراجع والخفوت، بعد انهيار التجربة الواقعية للاشتراكية وسيادة العولمة الرأسمالية، لدرجة أن مُنَظِّــــرِي الرأسمالية رَوَّجُوا لفكرةٍ واهيةٍ تدَّعي نهاية التاريخ والانتصار النهائي للرأسمالية. وأصيبت قوى اليسار بصدمة، بل بزلزال فكري وإيديولوجي، أضعف مُؤقتا ثقتها بنفسها وقدراتها على النهوض والتفكير والفعل السياسي. فانكمشت على ذاتها لسنوات، باحثةً عن سبل الخروج من أزمتها الإيديولوجية والسياسية، وعن سُبل فهم وتجاوز أسباب انهيار منظومة لطالما جسدت سندًا لكل اليسار في العالم، وأملاً لكل الشعوب المقهورة والطبقات المُستضعفة.
إن منطق الديالكتيك والصراع الطبقي كمحرك للتاريخ، والذي ظل مستمرا رغم الإعلان التضليلي عن “نهاية الإيديولوجيا” من طرف مُنظري الرأسمالية، كان لابد أن يُـــفرز نهضةً لليسار على المستوى الفكري وعلى مستوى الممارسة السياسية. وهكذا بزغت في مناطق مختلفة من العالم حركاتٌ يسارية جديدة عززت القوى اليسارية القائمة. كما ظهرت أشكالٌ جديدة من مقاومة الرأسمالية والإمبريالية تمثلت أساساً في ائتلافاتٍ تضم قوى يسارية وحركات اجتماعية بتلوينات متعددة، وذلك من أجل تقديم البديل عن النيولبرالية والعولمة الرأسمالية. وتقدم هذه الحركات والائتلافات والتحالفاتُ الناجحة درسًا مفاده أن الوحدة هي الطريق الأنجع إلى تحقيق التغيير نحو الأفضل.
الفرع الثاني: عودة أفكار اليسار
في كل العالم، شكلت جائحة كورونا مناسبة لعودة الفكرة اليسارية إلى الواجهة، وتأكيد نجاعتها، أمام عجزٍ بَـــيِّـــنٍ للمقاربات اللبرالية عن مواجهة تداعيات الجائحة على الاقتصاد والمجتمع.
هكذا برز دور الدولة أساسيا، وحضر القطاع العمومي بقوة، وعلى الخصوص المستشفى العمومي والمدرسة العمومية، وتَصاعَدَ الاقتناع بضرورة تأميم القطاعات الاستراتيجية. كما تم اللجوء إلى تقديم دعم الدولة المباشر للفئات الأكثر تضررا.
كل ذلك يعبر عن انتصارٍ لأفكار ومقاربات اليسار، سيكون له ما بعده، خاصة أن الرأسمالية تعيش أزمة بنيوية تغلبت عليها في الماضي باللجوء لأفكار يسارية، من قبيل توجيه الاقتصاد وتخطيطه، والرفع من الأجور وتعميم الحماية الاجتماعية والاعتماد على الخدمات العمومية.
غير أنَّ هذه العودة القوية لأفكار اليسار، يتعين استثمارها من قِبَل القوى التقدمية في كافة بلدان العالم. وفي نفس الوقت فإنَّ هذه المرحلة مناسبة من أجل استنهاض المبادرات المشتركة وإحياء العمل المشترك بين مختلف هذه القوى اليسارية، في إطار مبدأ التعاون والتضامن، وذلك دفاعاً عن القيم المشتركة.
الفصل الثالث: سُبل التموقع الجيد للمغرب في محيطه الدولي
الفرع الأول: ديبلوماسية رسمية ناجعة في حاجة إلى إسناد بديبلوماسية موازية نشيطة
المؤكد أن بلادنا تمكنت، ولا تزال، من تحقيق نجاحات ومكتسبات هامة، بما يُعزز مكانتها دوليا وقاريا وإقليميا، وبما يخدم قضايانا الوطنية، وفي مقدمتها قضية وحدتنا الترابية. كما أكدنا على ذلك في مستهل الباب الأول من هذه الوثيقة.
إن حزب التقدم والاشتراكية، وهو يعتز بالدعم المتزايد للقضية العادلة لبلادنا، يؤكد على ضرورة مواصلة هذه الدينامية الديبلوماسية، بنهج النجاعة واليقظة الضروريتين، وعلى ضرورة تحصين وتمتين هذه المكتسبات التي تراكمها بلادنا، في اتجاه الطي النهائى للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وترسيخ سيادته الوطنية على كافة ترابه.
إنَّ تثمين هذه المكتسبات يقتضي تقوية حضور بلادنا في كافة التكتلات القارية والاقليمية والدولية. كما يتطلب مساهمة كل القوى والفعاليات الوطنية في الدبلوماسية الموازية. وكل ذلك يتعين أن يجري بالاستناد إلى جبهة داخلية متينة ومتماسكة.
ويتعين أن يتقوى البعد الاقتصادي في المجهود الديبلوماسي لبلادنا، من خلال تنويع الشراكات. كما ينبغي تقوية ودعم كافة أشكال الديبلوماسية الموازية: البرلمانية، الحزبية، الجمعوية، النقابية، الثقافية، الرياضية والعلمية.
وإذا كانت بلادنا قد تمكنت من العودة القوية إلى المنتظم الإفريقي، وتعمل على تطوير علاقاتها مع شركائها التقليديين، فإنها يجب أن تواصل الانفتاح على علاقاتٍ مع شركاء جُدد ومتنوعين، مثل الصين، وروسيا، والهند، وغيرها من البلدان.
بهذا الصدد، فحزبُ التقدم والاشتراكية يواصل توظيف علاقاته مع الأحزاب الصديقة عبر العالم، واستثمار حضوره في جميع المحافل والهيئات الدولية، في خدمة المصالح والقضايا الحيوية لبلدنا، وفي طليعتها قضية وحدتنا الترابية.

الفرع الثاني: المغرب في محيطه المغاربي والعربي والإفريقي
1/ المحيط المغاربي
نظرًا لما يكتسيه العمق المغاربي من أهمية بالغة، ورغم عرقلة حكام النظام الجزائري ومعاكستهم الممنهجة لبلادنا، ورغم الخطوة الرعناء التي أقدم عليها الرئيس التونسي الحالي، من خلال استقباله رسميا للرئيس المزعوم للجمهورية الوهمية، فمن الحيوي مواصلة السعي نحو تحقيق هدف المغرب الكبير، من خلال تهييئ الشروط الكفيلة بإحياء الاتحاد المغاربي، وجعله تكتلاً سياسيا واقتصاديا قويا قادراً على الاستجابة لتطلعات شعوب المغرب الكبير في التقدم والازهار والتنمية والديموقراطية، خاصة وأن البلدان الخمسة للاتحاد تمتلك كل مقومات الوحدة والتكامل، لما لشعوبها من روابط تاريخية وجغرافية وحضارية، ولما لها من مصالح وتطلعات مشتركة، تجعل من مصيرها مصيراً مُشتركاً.
2/ المحيط العربي
اعتباراً للروابط المتميزة التي تربط بلادنا بالبلدان العربية، فإن تقوية التعاون معها يظل ضرورة حيوية، على الرغم من الوضع العربي الحالي، والمتسم بكثيرٍ من التشتت والنزاعات والحروب الداخلية، بفعل عوامل بعضها ذاتي، ولكن أساساً بفعل ما تتعرض له المنطقة العربية من مظاهر تمزيق نسيجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري، من قِبَل القوى الأمبريالية، بهدف السيطرة على خيراتها تحديداً.
وهنا، يُجدد حزب التقدم والاشتراكية تضامنه مع كافة شعوب المنطقة: العراق، السودان، سوريا، اليمن، ليبيا، لبنان، وخاصة مع الشعب الفلسطيني.
ولقد حان الوقت من أجل مساءلةٍ حقيقية لدور جامعة الدول العربية، حيث يتعين إصلاح وتطوير هياكل هذه المنظمة، من أجل أن تكون جزءً من الحلول، بما يضمن الاستقرار والتنمية للشعوب، ودعم المسارات الديموقراطية لبلدانها.
وفي هذا السياق، يتعين أيضا تعزيز العلاقات الوثيقة لبلادنا مع بلدان مجلس التعاون الخليجي، بما يخدم المصالح المشتركة والتضامن العربي.
3/ العمق الإفريقي
رغم المشاكل والمعضلات التنموية التي تعيشها إفريقيا، فإنه بالإمكان صنع مستقبل زاهر لقارتنا التي تُعد ضحية بامتياز للسياسات الاستعمارية والإمبريالية متعددة الأشكال.
إن عودة بلادنا إلى الاتحاد الإفريقي خطوة كبيرة وهامة في اتجاه تعزيز عمقنا الإفريقي. وينبغي علينا مواصلة توطيد العلاقات مع البلدان الإفريقية جميعها، في كافة المجالات، بناءً على الاحترام المتبادل والمصالح والتطلعات المشتركة.
في خضم أزمة كوفيد19، وما أبانت عنه من انحسار في التعاون والتضامن الدوليين، وعن فشل الحكامة الدولية، سارع المغرب إلى تجسيد التعاون جنوب جنوب، بمبادرته لتقديم الدعم لبلدان القارة الإفريقية، حتى تتمكن هذه الأخيرة من مواجهة الجائحة. وهو دعم شمل أصعدة متعددة، خاصةً الصحية منها.
إن حزب التقدم والاشتراكية، وهو يثمن هاته المبادرات التضامنية والإنسانية، يؤكد على توسيع هذا التعاون بما يتيح تسريع وتيرة التنمية البشرية الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز المجهودات الاستثمارية التي تقطع مع كل أشكال الاستغلال التي عرفته القارة الإفريقية، وتمكين مجتمعاتها من الانعتاق والتحرر وحماية مقوماتها الذاتية.
الفصل الرابع: مغاربة العالم ومسألة الهجرة
الفرع الأول: مغاربة العالم: طاقة وطنية حقيقية في الحاجة إلى التمكين من كافة الحقوق
لمغاربة العالم أدوارٌ أساسية يضطلعون بها فعليا، سواء على مستوى الدفاع على قضايانا الوطنية وإشعاع بلادنا دوليا، أو على الصعيد الاقتصادي، حيث تشكل عائداتهم المالية أهمية بالغة، أو على صعيد الإسهام في تنمية بلدان المهجر.
وقد مَكَّن الدستورُ مغاربة العالم من آلياتٍ متعددة، تحتاج إلى التفعيل الأمثل، لحماية حقوقهم ومصالحهم، سواء في وطنهم المغرب أو في بلدان الاستقبال، بما في ذلك حق المشاركة السياسية، من خلال التصويت والترشيح وحق التمثيلية المؤسساتية في وطنهم المغرب، وواجب الدولة في الحفاظ على الوشائج الإنسانية معهم، ولا سيما الثقافية منها، وصيانة هويتهم الوطنية متعددة المكونات والروافد، والسهر على تقوية مساهمتهم في تنمية وطنهم المغرب.
ويطرح الحزبُ سؤال الهجرة، اليوم، بمفاهيم جديدة فيما يتعلق بالتحولات النوعية والجيلية لمغاربة العالم من جهة، والمكانة التي أضحت تحتلها بلادنا في تيارات الهجرة على المستوى القاري والعالمي.
يُقدر عدد مغاربة العالم بأزيد من خمسة ملايين مغربية ومغربي، موزعين على القارات الخمس، بنسبة كبيرة في القارة الأوروبية. ويُسجَّلُ تطورٌ نوعيٌّ على مستوى الصورة النمطية للمهاجر. فلم يعد الأمر يتعلق فقط بالهجرة التقليدية التي شهدها النصف الثاني من القرن الماضي، والتي كانت تتشكل من قوى عاملة ذات مؤهلات محدودة تُستغَلُّ بشكل مفرط في الأعمال الشاقة، وكانت قليلة الاندماج في مجتمعات الاستقبال، وظلت تعاني من العنصرية والتمييز.
فاليوم، تتشكل الجالية المغربية أيضاً من نسب متزايدة من الجيل الثالث، أو من الشباب ذوي الكفاءات العالية، والذين يعملون في قطاعات ومجالات رائدة.
لقد بات من الضروري تحديث مقاربتنا وتصورنا تجاه مواطناتنا ومواطنينا الذين يُقيمون ويعملون في الخارج. فإذا كان النموذج التنموي الجديد يَعتبر مغاربة العالم رافعة أساسية لتنمية بلدنا، فإن ذلك لا يتعين أن يتم من منظور إنتاجي ونفعي ضيق. بل ينبغي تمكين مغاربة العالم من جميع الحقوق المنصوص عليها في الدستور، مع مراعاة الخصوصيات التي تعنيهم والصعوبات التي تعترضهم. وذلك ما يستدعي تأهيل الإطار المؤسسي المخصص لهم.
الفرع الثاني: مسألة الهجرة نحو بلدنا: مسؤولية ثابتة لأوروبا ينبغي أن تتحملها
من جانب آخر، تقع على عاتق المغرب مسؤولية ثقيلة ناتجة عن موقعه الجغرافي، كحلقة وصل بين إفريقيا وأوروبا. وهكذا، من دولة باعِثة للهجرة في البداية، تحولت بلادُنا إلى بلد مستضيف للمهاجرين، وإلى بلد عبور للمهاجرين من جنوب الصحراء أساساً نحو إفريقيا.
هكذا، يعيش اليوم في بلدنا مهاجرون من عدة جنسيات، غالبا إفريقية. وهذه الساكنة الجديدة، التي رحبت بها بلادُنا طواعية، في إطار التضامن مع البلدان الصديقة وشعوبها، تستفيد، على قدم المساواة، من نفس الحقوق المخوَّلة للمواطنات والمواطنين المغاربة.
فليس لبلدنا خيار آخر للوفاء بالتزاماته تجاه أصدقائه، وبتوجهاته الإنسانية والتضامنية إزاء الجميع، وإزاء أصدقائنا الأفارقة وغيرهم، سوى المثابرة على هذا المسار وتعميقه وتعميمه، ووضع وتنفيذ سياسة أكثر نجاعة لاستقبال المهاجرين تتماشى مع الاتفاقية الدولية للهجرة.
ولكن، إلى جانب هذه الهجرة النظامية، هناك هجرة غير نظامية من المتوقع أن تزداد حدة في المستقبل، بسبب الأزمة الغذائية وآثار تغيرات المناخ وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي السائد في عدد من البلدان. ولن يحدث ذلك دون التسبب في مشاكل خطيرة لبلدنا وللمهاجرين الضحايا على حد سواء، كما حدث مؤخرًا في الحدود المصطنعة مع مدينة مليلية المحتلة.
لذلك، يتعين اتخاذ تدابير وقائية في بلدان المغادرة. وعلى البلدان الرأسمالية، والأوروبية منها على وجه التحديد، التي استعمرت واستغلت، ولا تزال، الشعوبَ الإفريقية، أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية والسياسية والأخلاقية في تنمية إفريقيا، والتخلي عن سياسة نهب ثرواتها وتفقير شعوبها. كما على البلدان والشعوب الإفريقية أن تستنهض هممها لإعادة بناء ذاتها على أسس التنمية والديموقراطية والسلام والتعاون. وهو ما بدأت تلوح معالمه مع بعض التجارب الإفريقية الناجحة والنموذجية بهذا الشأن.
إنَّ حزب التقدم والاشتراكية يعتبر أن بلادنا لا يمكنها الاستمرار في لعب دور “الدركي لفائدة أوروبا”، متحملةً بذلك أعباء مالية وسياسية وأمنية تفوق بكثيرٍ قدراتها. وتبدو الحاجة مُـــلِــحَّـــة إلى تدبير دولي جماعي لهذه الظاهرة، يرتكز على المسؤولية والتعاون والتضامن، بشكلٍ فعلي وحقيقي ومتناسب، بدءً بالدعم التنموي الملائم للبلدان المستضيفة للمهاجرين، وإعادة تشكيل نظام اقتصادي عالمي بديل، أحد مقوماته نظام عادل للتجارة العالمية.
الفصل الخامس: التضامن مع القضايا العادلة للشعوب
الفرع الأول: وجوب التحرك والدعم لمواجهة محاولات تصفية القضية الفلسطينية
جسدت، ولا تزال، قضية الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه المشروعة موضوعاً مركزيا بالنسبة لحزبنا. ويعتبر الحزب أن الكيان الصهيوني المحتل، بأساليبه الإرهابية، مَــثَّلَ نموذجاً للظاهرة الاستعمارية كامتدادٍ للإمبريالية. وعلى هذا الأساس، ندد الحزبُ، دائماً، بالنظرية الصهيونية ذات الكنه الاستعماري والعنصري. وهذا الموقف الحزبي يدعمه الشعور الوطني بالعلاقات المصيرية التي تجمع تاريخيا الشعبين المغربي والفلسطيني
إن القضية الفلسطينية تحظى بمكانة خاصة في وجدان المغاربة. وأمام المحاولات الرامية إلى تصفيتها، يجدد حزب التقدم والاشتراكية التأكيد على تضامنه المطلق ومساندته الكاملة لنضالات الشعب الفلسطيني، من أجل حقوقه المشروعة في بناء دولة فلسطين المستقلة والموحدة وعاصمتها القدس، ولكفاحه ضد الغطرسة والعدوان المستمر وسياسة الاستيطان والتنكيل الممنهج لقوات الاحتلال الصهيوني.
وتستدعي القضية الفلسطينية، اليوم، في ظل تراجع الاهتمام العالمي بها، وفي ظل محاولات التصفية التي تتعرض لها، إلى رجة للضمير العالمي، ولا سيما تحركاً وازنا للقوى العالمية المناصرة للقضايا العادلة للشعوب، لأجل الضغط، والتفسير، بجميع الوسائل المتاحة، مؤسساتيا وجماهيريا. كما يتعين إبرازُ الأبعاد الحقوقية للقضية الفلسطينية، باعتبار أن اللغة الحقوقية هي الأكثر نجاعةً في المحافل الدولية اليوم. فانتهاكات وجرائم إسرائيل، مثلاً، تستدعي المساءلة الجنائية والملاحقة أمام العدالة الدولية.
كما يتطلب الوضع تدخلاً وضغطا دوليين لحماية الشعب الفلسطيني، وللحفاظ على الوضع الخاص لمدينة القدس، وإيقاف سياسة تهويدها، وحماية المقدسيين الصامدين في وجه سياسة التطهير العرقي والثقافي والديني التي تنهجها قوة الاحتلال لطمس تاريخ وهوية فلسطين والقدس خاصة.
إن حزب التقدم والاشتراكية، وهو يؤكد انخراطه في كل المبادرات التضامنية التي تنتصر للقضية الفلسطينية، يتطلع نحو أن تسهم الخطوات الانفتاحية لبلادنا على إسرائيل، في المساهمة في إيجاد تسوية سلمية ونهائية وعادلة ودائمة تضمن حقوق الشعب الفلسطيني، على أساس حل الدولتين، واحترام إسرائيل للقانون والشرعية الدوليين.
الفرع الثاني: التضامن الأممي لحزبنا المحب للسلام مع القضايا العادلة للشعوب
انطلاقا من البُعد الأممي للحزب، منذ نشأته، وباعتباره فصيلاً ضمن الحركة الاشتراكية العالمية، يؤكد مواصلته نصرة قضايا السلم والتضامن بين الشعوب.
وبالنظر للانعكاسات الوخيمة للحروب والنزاعات المسلحة، يتشبث حزبُـــنا بخيار التفاوض والحوار لفض النزاعات بتغليب الحلول السياسية على المقاربات العسكرية، وينشد السلم والسلام لضمان الأمن والاستقرار في العالم باعتبار أنَّ هذين الأخيرين هما الأساس الذي لا محيد عنه لتنمية المجتمعات الإنسانية.
إن حزب التقدم والاشتراكية، من موقعه الإيديولوجي والسياسي، يعمل مع القوي اليسارية عبر العالم، ومع كافة الحركات السياسية والاجتماعية المحبة للسلام، على مناهضة الرأسمالية والإمبريالية، ورفض الحروب، والانتصار لقيم الحوار والسلام والمساواة والتضامن، والتعايش والحوار بين الحضارات والثقافات والشعوب، واحترام سيادة الدول. وذلك على عكس العالم الحالي الذي تسوده النزاعات والحروب والهيمنة واستغلال الإنسان والطبيعة على السواء.
ويربط حزبنا نضالاته مع النضال الايكولوجي، خاصة مع البروز المتنامي للحركات الإيكولوجية عبر العالم، والتي تناضل لأجل حفظ وحماية حقوق الأجيال الحالية والقادمة. وتتصدى لظاهرة التهجير بسبب التلوث ومسببات وآثار التغيرات المناخية والإضرار بتوازنات الأنظمة الأيكولوجية واستنزاف الموارد،
ويؤكد حزب التقدم والاشتراكية على التضامن مع كافة الشعوب المكافِحة من أجل الاستقرار والتحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقد

الباب الرابع: هوية الحزب، مشروعه السياسي وأداته التنظيمية
الفصل الأول: هوية اشتراكية ثابتة وانفتاح على الأفكار والتجارب الإنسانية
يستمد حزبُ التقدم والاشتراكية سبب وجوده ومعناه بتبني الاشتراكية، بمعناها الماركسي، فكرا ومنهجًا للتحليل وقيمًا وأفقا لعمله السياسي. غير أن هذا التبني ليس دوغمائيا، بل إنه منفتحٌ باستمرار على التجديد في الفكر والممارسة، فبقدر ما هو وَفيٌّ لهذه الهوية العامة الثابتة، بقدر ما هو وفيٌّ أيضًا للتجديد والإبداع والاستفادة من تطور الفكر الاشتراكي عبر السنين وتجارب الشعوب انطلاقا من الواقع الوطني، التاريخي والاجتماعي والحضاري والسياسي.
إنَّ هذه الهوية الثابتة والمتجددة هي الوعاء لروافد ومناهل متنوعة وأبعاد وطنية، ديمقراطية، حقوقية وأممية وإنسانية، بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية، المعتز بكونه وريثاً وامتداداً للحزب الشيوعي المغربي ثم التحرر والاشتراكية.
الفرع الأول: الوفاء والتجديد في الهوية الاشتراكية للحزب
جدلية الوفاء للهوية الاشتراكية والتجديد مقاربة عَملَ بها الحزبُ منذ تأسيسه. هذه الجدلية المنتجة لتعامل خاص وخلاق مع النظرية والواقع الوطني، في ذات الآن، هي التي مكنته من الاستمرار والتجذر في هذا الواقع واحتلال مكانة ترتقي باستمرارٍ في المشهد السياسي الوطني.
فالوفاء للهوية الاشتراكية لا تعني، في منظور الحزب، التحجر الفكري والجمود العقدي، واستنساخ تجارب أخرى لها سياقها التاريخي والوطني الخاص. بل يعني أساسا التمسك بالمفاهيم المركزية للنظرية الاشتراكية ومنهج التحليل الجدلي والقيم الإنسانية السامية للاشتراكية، من قبيل العدالة والمساواة ومحاربة استغلال الإنسان للإنسان. والتجديد لا يتوخى التخلي عن هذه المحاور الرئيسة للنظرية، بل تكييفها وتطويرها مع الواقع وتحولاته وطنيا ودوليا.
1/ الهوية الاشتراكية أساسٌ لمعنى وجود الحزب
إن الهوية الاشتراكية الواضحة للحزب هي التي تبرر وجوده ومعناه وضرورته. فالمجتمع الطبقي تخترقه إيديولوجيات مختلفة تعبر عن مصالح طبقية وتؤطر، بشكل واضح أو خفي، العمل السياسي وتموقع الأحزاب السياسية التي تبقى، في نهاية المطاف، تعبير اً عن مصالح طبقية.
فالمجتمع المغربي يعرف، على غرار باقي المجتمعات، وجود صراع طبقي بين طبقات مستَغِلّة تهيمن على الخيرات ووسائل الإنتاج، وتستغل القوى العاملة يدوية وفكرية، من جهة، وبين طبقات أخرى مُستَغَلَّة من جهة أخرى.
ولذلك، كان من الطبيعي بروز تعبيرات إيديولوجية وسياسية لهذه الطبقات المتصارعة. فكان نشوء الأحزاب السياسية لممارسة هذا الصراع في النظرية والواقع السياسي والاجتماعي عموما. وكان لابد للطبقات الكادحة والمستغَلة بكل أشكال الاستغلال وعموم الجماهير التي لا تملك وسائل الانتاج، من تعبيرات ايديولوجية وسياسية. فكان الحزب الشيوعي المغربي، الذي أصبح، لاعتبارات مختلفة، حزب التحرر والاشتراكية، ثم حزب التقدم والاشتراكية، باعتباره حزبا منحازا للطبقات الكادحة والمهمشة والمهضومة الحقوق، وحاملا لمطالبها وطموحاتها، ومدافعا عنها بكل أشكال النضال المتاحة، واعتبارًا لكون الاشتراكية هي المعبرة، كنظرية كونية، عن هذه الطبقات.
2/ الاشتراكية كأفق وهدف أسمى للإنسانية
غير أن تبني الحزب للاشتراكية لا تعني، بالضرورة، أنها مطروحة في جدول أعماله اليوم، وأنه يسعى إلى تحقيقها حالاً وفي المرحلة الراهنة. بل هي أفق يستنير به، كما كل الإنسانية التواقة للتحرر من الاستغلال، وللعدالة والمساواة بين البشر. إنها عملية تاريخية طويلة ومعقدة، وعملية صراع متواصل مع الرأسمالية وقواها. إن الاشتراكية هدف أسمى للإنسانية يتقاسمه حزب التقدم والاشتراكية مع مجموع القوى السياسية والفكرية، عبر العالم، والتي تسعى في المدى البعيد نحو تحقيق حلم البشرية في التحرر والانعتاق من الاستغلال.
3/ المادية التاريخية والتحليل الجدلي منهج الحزب في التحليل وبناء المواقف
إن الانتماء للنظرية الاشتراكية يعني الانتماء إلى نسق متكامل يشمل المضمون ومنهج التحليل والنظرة للعالم والمجتمع، كما يعني أيضا انتماءً لجهاز مفاهيمي ولغة خطاب، ذلك أن المفاهيم ليست دوما بريئة ومحايدة، بل تكون في كثير من الأحيان معبرة عن إيديولوجية واضحة أو مُضمرة، وتكون وراءها مصالح طبقية في العمق، كما أن لغة الخطاب قد تحمل مضامين إيديولوجية مستترة قصد التعتيم أو الاستلاب، بدعوى الموضوعية والحياد. فالمفاهيم واللغة ليست محايدة بالمطلق، بل قد تنتمي إلى منظومة إيديولوجية تتوخى تزييف الواقع لإدامة الهيمنة (الإيديولوجيات الرأسمالية)، أو بالعكس إلى منظومة إيديولوجية تتوخى التحرر من الوهم والهيمنة الطبقية والاستغلال (الاشتراكية)، وهي التي ينتمي إليها حزبُ التقدم والاشتراكية.
ويستند الحزب إلى المادية التاريخية والتحليل الجدلي، لاقتفاء واستشراف حركة التاريخ، ولفهم الواقع الملموس وتحليله بشكلٍ ملموس، سواء الوطني أو الدولي. وجوهر المادية التاريخية هو أن تاريخ الإنسانية هو تاريخ صراع الطبقات الاجتماعية، وانطلاقا من ذلك لا يمكن فهم وتحليل الوضع السياسي دون ربطه بمفهوم الصراع الطبقي. وهذا ما يقوم به حزب التقدم والاشتراكية عند تحليله للوضع السياسي وإنتاج الموقف السياسي في كل مرحلة، مستندا إلى مفهوم آخر في هذه المنظومة الفكرية هو مفهوم موازين القوى الطبقية، والتي تنتج عنها موازين قوى سياسية يأخذها الحزب بعين الاعتبار في تحديد مواقفه، وتحديد التناقض الرئيسي في كل مرحلة، ومن ثمة تحديد التحالفات الممكنة للسير قُدما نحو حل هذا التناقض، واستيعاب الإشكالية السياسية الأساس في كل مرحلة.
وعلاوة على كون التحليل الجدلي يُمَكِّنُ الحزبَ من فهم طبيعة الصراع في كل مرحلة، وتحديد المهام المرحلية المطروحة عليه، واتخاذ المواقف الملائمة والصائبة، فإنه يُمَكِّنُ كذلك من فهم التأثير المتبادل بين مستوى تطور المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ومستوى الوعي الطبقي للطبقات الكادحة وعموم الجماهير الشعبية. فمستوى الوعي ذاك يؤثر في حركة الواقع، فالجدل يعني باختصار التأثير المتبادل أو التفاعل بين بنية المجتمع في شموليتها وبين مستوى الوعي الطبقي. وهو ما يحدد في نهاية المطاف، في مرحلة تاريخية محددة، موازين القوى السياسية التي لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها عند اتخاذ أي موقف سياسي.
4/جدلية الخاص والعام؛ الوطني والأممي
إنَّ حزب التقدم والاشتراكية حزبٌ ذو بُعد أممي راسخ، ويندرج، في آن واحدٍ، ضمن حركة التحرر الوطني وضمن الحركة اليسارية العالمية، وقد تجلى هذا الترابطُ الجدلي في وضع الحزبِ، عند تأسيسه، لقضية الاستقلال الوطني وتحرير كافة التراب المغربي، في مقدمة نضاله ومطالبه، مع ربط النضال من أجل الاستقلال الوطني بالنضال من أجل إرساء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وبعد الاستقلال وضع الحزبُ على رأس اهتماماته المسألة الديمقراطية، بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وجعلها في قلب عمله النضالي وأطروحاته الفكرية وتوجهاته السياسية، وذلك إلى جانب النضال من أجل استكمال الوحدة الترابية لبلادنا كانشغالٍ مركزي لديه، من خلال الدفاع عن تحرير الصحراء المغربية في جنوب المملكة والثغور المحتلة في شمالها. واعتبر الحزبُ ذلك كلَّهُ مسيرة تحرر وطني.
فهو إذن حزب وطني وحزبٌ أممي في آن واحد، لأن نضاله الوطني غير منفصل عن النضال الأممي ضد الاستعمار بكل أشكاله، وضد الإمبريالية والرأسمالية العالمية. وهو ما يوحده في الأهداف مع باقي فصائل اليسار العالمي. كما عمل الحزب وما يزال بمبدأ التضامن الأممي مع الشعوب في نضالها من أجل التحرر والانعتاق من الهيمنة الرأسمالية والإمبريالية.
إنها جدلية العام والخاص. فالعام هو ما يوحد نضال كل الشعوب ضد الإمبريالية في مرحلتها الاستعمارية المباشرة، ثم مرحلة عولمة الرأسمالية والهيمنة الاقتصادية وحتى السياسية، والخاص هو الوطن الذي يجري فيه هذا النضال فعليا وما يرتبط به من خصوصيات وطنية. فلا وجود لعام بدون خاص يتجسد فيه هذا النضال ويتخذ فيه الشكل الملموس المناسب لأوضاع كل بلد على حدة.

الفرع الثاني: تعددٌ في روافد ومناهل الحزب ضمن وحدة فكرية
1/ البُــــعد الوطني في هوية الحزب
إن هوية الحزب الوطنية واضحة كما هو مبين أعلاه في فقرة جدلية العام والخاص، الوطني والأممي. وعلاوة على ذلك فإن الحزب ينهل من المبادئ التحررية والمتـــنورة في الدين الإسلامي، وفي تراثنا الوطني، الثقافي والحضاري والتاريخي، ومن القيم الإنسانية النبيلة في ثقافتنا الوطنية. ومن ذلك، بشكل خاص، قيم التضامن والتآزر، والعمل الجماعي، ونبذ الظلم، والتطلع إلى العدل والحق، والحرص على الكرامة الإنسانية.
ومن تجليات قيمة التضامن والعمل الجماعي “التويزة” التي كانت سائدة في المجال القروي (حرث وزراعة وحصاد جماعي بالتناوب، وبناء جماعي للمساكن والطرق، وإحياء المناسبات العائلية…). كما تتجلى قيمة العدل في التوزيع العادل لماء السقي، بل حتى المِلكية الجماعية، أحد أسس النظام الاقتصادي للاشتراكية، موجودة في تراثنا الوطني، وما زالت بعض مظاهرها مستمرة، مثل أراضي الجموع، والأراضي السلالية، والمراعي المشتركة وغيرها.
وقد أبانت جائحة كوفيد 19 عن تجذرٍ راسخٍ لقيمة التضامن في المجتمع المغربي. كما تزال أشكال من التضامن المادي بين العائلات المحصورة والممتدة متواصلاً.
فالاشتراكية اذن ليست مسألة غريبة عن تراثنا وقيمنا الوطنية. ويعتبر حزب التقدم والاشتراكية نفسه حاملا لهذه القيم النبيلة ومدافعا عنها ضمن أشكال جديدة مُدمجَة في العصر بتحولاته.
2/ البُعد الديموقراطي والحقوقي في هوية الحزب
إن البُعد الديمقراطي حاضرٌ بقوة في هوية الحزب. ويُعتبر الفكر الديمقراطي أحد مصادر ومناهل تفكيره وأطروحاته السياسية. فقد ربط الحزبُ في الماضي بين الاستقلال والديمقراطية، كما هو وارد أعلاه، واتخذ النضال الديمقراطي اختيارًا مبدئيا له منذ ستينات القرن الماضي، نابذا لكل أشكال العنف في الممارسة السياسية، سواء عنف الدولة أو العنف من أجل الوصول إلى السلطة، ورافضا لكل الأشكال الانقلابية والمغامِرة التي أدانها بوضوح حينما تمت محاولة تجريبها بالمغرب في بدايات السبعينات من القرن الماضي. وأدان حصولها فعليا في عدد من البلدان تحت شعارات ثورية براقة سرعان ما تحولت إلى ديكتاتوريات مقيتة تنبني على القمع والتسلط.
كما ينـــهل الحزب من الفكر الحقوقي. ويَعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إحدى مرجعياته في الممارسة السياسية. غير أن الحزب يعتبر حقوق الإنسان غير قابلة للتجزيء، فهي ينبغي أن تكون شاملة لكل مناحي الحياة (الحريات الجماعية والفردية، الحقوق السياسية، المدنية، الثقافية، اللغوية، البيئية، الاقتصادية، حقوق الأقليات، الحق في التنمية والكرامة، وفي المساواة وتكافؤ الفرص…. إلخ).
3/ البُعد الإيكولوجي مُكَوِّنٌ أساسي في هوية الحزب
في مؤتمره الاستثنائي، في سنة 2016، أدمج الحزبُ، بصفة رسمية البُعد الايكولوجي ضمن هويته، وضمَّن هذا البعد في قانونه الأساسي.
ويندرج هذا البُعد ضمن النسق الفكري والإيديولوجي للحزب المناهض للرأسمالية والنيولبرالية التي تهدف فقط إلى مراكمة الربح لصالح فئة محدودة، على حساب الإنسان والطبيعة ومواردها المختلفة، وعلى حساب حق الأجيال الحالية واللاحقة في مناخٍ سليم وبيئة نظيفة.
إن نمط الإنتاج الرأسمالي، وما يرتبط به من أنماط استهلاكية، يقوم على استغلال الإنسان واستنزاف الطبيعة دون الاكتراث بالعواقب الوخيمة على حياة الإنسان والطبيعة. وهو نمط يتعارض مع متطلبات الحفاظ على المنظومة البيئية وتجديدها في إطار التنمية المستدامة. كما أنه نمطٌ يضع الربح فوق أي اعتبار. ومن هنا فإن مناهضة الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية واستخدام الطاقات غير النظيفة والصناعات الملوِّثة للبيئة، بما يسببه ذلك من تأثير على صحة الإنسان، ومن انحباس حراري وتغيرات مناخية تهدد الجنس البشري، هو في عمقه مناهضة لنمط الإنتاج الرأسمالي. وهذا بالذات ما تقوم عليه فكرة الاشتراكية التي تضع الإنسان، وليس الربح، في قلب اهتماماتها، بما يتعارض أيضاً مع بعض الممارسات الاقتصادية المعتمِدة على الإنتاج المفرط للثروات دون اكتراث بالانعكاسات البيئية في بعض التجارب التي تتبنى الاشتراكية.
وعليه، فإن النضال الإيكولوجي بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية لا يقل أهمية عن النضال من أجل حق الإنسان في العمل وفي التوزيع العادل للثروة، لأن الرأسمال المتوحش الذي يستغل القوى البشرية المنتجة هو نفسه الذي يستغل الأرض والطبيعة كقوة منتجة، وهو حين يفعل ذلك يدمر حق الإنسان في الحياة.
4/ التجارب الناجحة للشعوب في مواجهة الرأسمالية والإمبريالية: مصدر للاستئناس والاستلهام
باعتباره حزبا أمميا، إلى جانبِ كونه حزباً وطنيا أصيلاً، في ترابط جدلي كما بيناه أعلاه، فإن حزب التقدم والاشتراكية غير منغلق على ذاته، وليس سجينَ إيديولوجيا محنطة أو خط سياسي جامد. بل هو منفتح على كل تطورات وإنتاجات الفكر الإنساني واليساري بالخصوص. وهو يسعى إلى الاستفادة من تجارب الشعوب في مواجهة الرأسمالية والإمبريالية والنيولبرالية.
إن هذا الانفتاح اليقظ لا يعني، بأي شكل من الأشكال، استنساخ تجارب لها سياقاتها ومعطياتها الخاصة، ولا يعني محاولة تطبيقها على واقع وطني غير متلائم معها، ولا تتوفر فيه نفس السياقات ونفس المعطيات. فأيُّ محاولة من هذا القبيل مآلها الفشل بالتأكيد. فالتجارب الناجحة، بالنسبة للحزب، هي بمثابة مصدر استلهام واجتهاد واستئناس، في الفكر والممارسة.
وفي هذا الإطار يتابع الحزب باهتمام تطورات ومآلات التجربة الصينية ونجاحاتها الأكيدة في المجال الاقتصادي، وحتى الاجتماعي، من جهة، واستنادها إلى الثقافة الوطنية الصينية وقيمها.
كما يتابع تجارب عددٍ من شعوب أمريكا اللاتينية ونجاحات أحزاب اليسار فيها، موحدة ومدعمة بحركات اجتماعية مواطِنة جديدة، مكنت من إنشاء تحالفات واسعة، وتحقيق نجاحات في مواجهتها للإمبريالية الأمريكية والنيو ليبرالية. كما يتابع نجاحات اليسار، بتلويناته وأعلامه المختلفة، في مناطق مختلفة من العالم. إنَّ هذه التجارب مُلهمة، في كثيرٍ من جوانبها، وتستفز الفكر السياسي للحزب وبرنامجه وأفق عمله وتحالفاته، بالمعني الايجابي للكلمة. وذلك محفز لإنتاج أطروحات وعروضٍ سياسية متقدمة، ضمن سياقنا وواقعنا الوطني المتميز، حضاريا واجتماعيا وسياسيا ومؤسساتيا.
الفصل الثاني: مشروع سياسي على أساس بناء الدولة الوطنية الديمقراطية
إنَّ حزبَ التقدم والاشتراكية يحمل مشروعًا سياسيًّا مرحليا، إلى جانب حمله للمشروع الاشتراكي كأفق أسمى لكل الإنسانية. ويحدد الحزب في كل مرحلة طبيعة هذا المشروع ومداه وأدوات تحقيقه، حسب مستوى تطور المجتمع والسياسة في بلادنا، مُـــحدِّدًا المهام المطروحة عليه في كل مرحلة.
الفرع الأول: مشروع سياسي على أساس مهام الثورة الوطنية الديموقراطية
1/ تراكم نضالي من أجل بناء الدولة الوطنية الديموقراطية
لقد حقق المغرب مكتسبات لا يُـــستهان بها في مجال السيادة الوطنية، والديمقراطية، وبناء الاقتصاد الوطني، والتقدم الاجتماعي، وتطوير البنيات التحتية، والتطور السياسي والمؤسساتي.
إنها مكتسبات لا يمكن إنكارها. فإذا قمنا بإجراء مقارنة بين الوضع العام الوطني قبل انطلاق المسلسل الديمقراطي سنة 1975 وبين ما تحقق من مكتسبات منذ ذلك الحين، سيتجلى الفارق واضحاً.
غير أن هذه المكتسبات التي يدعو الحزب، دوما، إلى ترسيخها وصونها وتوسيعها وضخ نَفَسٍ جديد فيها، لم يكن أبداً من الممكن تحقيقها بدون ذاك التراكم النضالي للقوى الديمقراطية والتقدمية، ومنها حزب التقدم والاشتراكية. وقد واجهت هذه القوى في سبيل ذلك القمع والمنع والتضييق، في فترات حالكة من تاريخنا المعاصر.
إن الدولة الوطنية الديمقراطية، التي دعا الحزب إلى بنائها منذ عقود وناضل لأجل ذلك، ليست مجرد قرار سياسي، بل إنها سيرورةُ بِناءٍ متدرجٍ. ومضمونها الأساس هو الديمقراطية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيكولوجية، والاقتصاد الوطني القوي والمستقل، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان وكرامته.
وهو بناءٌ يتم في خضم صراع سياسي، طبقي في جوهره، وفق موازين القوى، بين قوى رجعية مُحافِظة معادية للتقدم، وبين قوى التقدم والديمقراطية الساعية إلى إنجاز عملية البناء والتقدم فيها إلى أمام. وهذا هو جوهر الصراع الذي عرفته بلادنا في الماضي وما زال مستمرا اليوم بأشكال مختلفة.
2/ مهام المرحلة بالنسبة للحزب
إن التقدم إلى أمام في المسلسل الديمقراطي، واستكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، يلخص مهام المرحلة بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية، يؤطرها شعار “نَــفَـــس ديمقراطي جديد”، وشعار “جيل جديد من الإصلاحات” مدعوم ب”البديل الديمقراطي التقدمي” الذي يطرحه الحزب على درب إنجاز هذه المهام، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وإيكولوجيا.
فبناءً على التحليل الذي يقدمه الحزب للوضع السياسي في الباب الأول من هذه الوثيقة، والذي خلص من خلاله إلى أن المسار الديمقراطي دخل في فترة جزر وركود، وأن الإصلاحات توقفت، بل وبدأت في استنزاف المكتسبات، فإن مهام الحزب، في هذه المرحلة، هو النضال بمختلف الأشكال المتاحة، وعلى كل الواجهات الجماهيرية والمؤسساتية، من أجل أن تنفلت بلادنا من حلقة الركود والجمود هذه، والانطلاق نحو حلقة جديدة متقدمة في المسار الديمقراطي والإصلاحي. ويقدم الحزب لأجل ذلك بديلا ديمقراطيا تقدميا، مُتضمَّنًا في الباب الثاني من هذه الوثيقة. ويسعى الحزب إلى عقد تحالفات واسعة كوسيلة للتأثير في القرار السياسي، ولتغيير موازين القوى، ولتحقيق هذا الهدف لصالح تقدم وطننا وشعبنا.
الفرع الثاني: التموقع الاجتماعي للحزب في التشكيلة الاجتماعية والصراع الطبقي
1/ البنية الطبقية المعقدة للمجتمع المغربي
يُـــولي حزبُنا، منذ نشأته إلى الآن، اهتماما مركزيا، لدراسة وتحليل التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية المغربية، وتطور العلاقات الاجتماعية السائدة، سعيا منه دومًا لإبراز التناقضات، والكشف عما هو رئيسي وما هو ثانوي. ولا بد من الإقرار بكون تجديد تحليل البنية الطبقية لمجتمعنا تكتنفه كثيرٌ من الصعوبات والتعقيدات العلمية والعملية.
إن التنمية الاقتصادية في بلادنا محكومة، من جهة، بهيمنة طبقة أوليغارشية تستفيد من القسط الأكبر للخيرات. كما يغلب على الأوضاع الاقتصادية الطابع التجاري والريعي والقطاع غير المهيكل. وهذا التوجه أدى إلى إضعاف البورجوازية الوطنية.
كما لا بد من استحضار ما يعرفه عالمُ الشغل من جراء الاستعمال الواسع للرقميات، بما يؤثر في علاقات الإنتاج ويؤشر على تنامي المضمون الفكري في العمل.
تتسم التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المغربية بهيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وقطاعات تشتغل في إطار علاقات إنتاج ما قبل الرأسمالية (صناعة تقليدية، فلاحة صغيرة أو ذات طابع عائلي، قطاع غير مهيكل).
وتتسم هذه القطاعات ال”ما قبل رأسمالية” بالضعف والهشاشة اللذين يضطرانها إلى تحويل الفائض الاقتصادي لصالح الرأسمالية. وتتخذ هذه العملية الاستحواذية، أحياناً، طابعا مؤسساتيا كمخطط الجيل الأخضر.
ورغم أن تحديد الطبقة الاجتماعية يستند، أساساً، إلى الموقع بالنسبة لمِلكية وسائل الإنتاج، إلا أنه يرتكز أيضاً على مستوى وعي الأفراد وانخراطهم في التنظيم الاجتماعي، ومدى السيطرة على البنيات الفوقية، ودرجة بسط الهيمنة الإيديولوجية على المجتمع.
ولا بد من التمييز بين الطبقة الاجتماعية والفئة الاجتماعية، حيث أن هذه الأخيرة تحتل دورًا وسيطا بين الطبقات الاجتماعية الأساسية.
وعليه، يمكن، بشكلٍ مبدئي وأوَّلـــي، القول إن التشكيلة الاجتماعية ببلادنا تتكون، أساساً، من:
• الطبقة البورجوازية، والتي تتشكل من بورجوازية مالية، وبورجوازية صناعية، وبورجوازية تجارية وبورجوازية فلاحية؛
• البورجوازية المتوسطة والصغرى، الحضرية والقروية، بما فيها فئة المثقفين والمُبدعين والشغيلة الفكرية وشغيلة القطاع الرقمي، وفئة الموظفين والمستخدَمين العموميين؛
• الطبقة العاملة، والتي تعيش ظروفا تكاد تكون مأساوية، وخاصة الطبقة العاملة الزراعية، وتتعرض لأبشع أنواع الاستغلال؛
• فئات في طور البلترة، مثل الفلاحين الصغار، والصيادين التقليديين، والحرفيين والصناع التقليديين؛
• فئة المشتغلين في القطاع غير المهيكل والقطاع اللاشكلي؛
• فئة غير النشيطين والعاملون الموسميون.
2/ الحزب تعبير عن مصالح الشغيلة اليدوية والفكرية وعموم الطبقات الكادحة والمستضعفة
حزبُ التقدم والاشتراكية مُعتـــزٌّ بتموقعه اليساري، ويظل وفيا، كحزب وطني، يساري، اشتراكي، تقدمي، حداثي وديموقراطي، بكونه أداةً للكفاح بِـــــيَـــــدِ مهضومي الحقوق، طبقيا واجتماعيا وثقافيا وإيكولوجيا ومجاليا.
وتأتي في مقدمة التشكيلات الاجتماعية التي يناضل من أجلها الحزبُ: الطبقة العاملة، بمفهومها الواسع، اليدوية والفكرية، أي تلك التي تنتج الخيرات المادية واللامادية. بالإضافة إلى كل الفئات المحرومة من وسائل الإنتاج، بما فيها الفئات المقصية والمهمشة، وفئة الفلاحين الفقراء والصغار، وفئات النساء والشباب، والمقاولين الصغار والأجراء، والمثقفون المتنورون. هكذا يتموقع حزبنا اجتماعيا، فهو يوجد في صلب الصراعات الطبقية، بجانب المنتجين والفئات الواسعة من شعبنا، وهذا التموقع مبدئي وراسخ بالنسبة للحزب، كما تُمليه الظروف التاريخية وموازين القوى في المرحلة التي يجتازها المجتمع.
الفرع الثالث: التحالفات سبيلٌ لتحقيق البديل الديموقراطي التقدمي
إنَّ تحقيق البديل الديمقراطي التقدمي الذي يَــــقترحه حزبُ التقدم والاشتراكية على المجتمع السياسي ومجموع الشعب المغربي لا يمكن أن يتحقق بدون تحالفات بين كل القوى التي تتقاسم بعض أو معظم أو كل مضامينه. فسياسة التحالفات لدى الحزب جزءٌ أساسي ضمن مقارباته ومسعاه السياسي منذ عقود. غير أن هذه المقاربة العامة يتم تحيينها وتطويرها حسب تطورات الوضع السياسي وما يفرضه من مهام ظرفية أو مرحلية. هذا التطوير لسياسة التحالفات أنتج التمييز بين التحالف الاستراتيجي القائم كليًّا أو جزئيًّا على أهداف مشتركة إيديولوجية أو متصلة بالمشروع المجتمعي العام، وبين التحالف المرحلي القائم على أهداف مشتركة ظرفية. وقد أسس الحزبُ دائماً مقاربته لهذا الموضوع بناءً على ضرورة توفير كافة الشروط لمواجهة التناقض الرئيسي القائم في المجتمع، وتغليب ذلك على الخوض في تضخيم التناقضات الثانوية والخلافات الهامشية الناتجة عنها.
1/ أصناف التحالف: ضرورة التمييز
لقد كانت مقاربةُ الحزب للتحالفات مبنيةً على محورين: الأول تحالفات ضمن أسرة اليسار، والثاني أوسع منه يشمل كل القوى الوطنية الديمقراطية، في إطار ما أسماهُ الحزبُ بالجبهة الوطنية الديمقراطية. وتبلورت هذه المقاربة في أوائل التسعينات من القرن الماضي عندما تم تأسيس الكتلة الديمقراطية، مما كان له تأثيرٌ كبير على التحولات الهامة والإيجابية، عموماً، التي عرفتها بلادُنا.
وقد مَكَّنَ ذاك التحالف من وصول القوى الديمقراطية والتقدمية إلى تدبيرٍ مشتركٍ للشأن العمومي عند تكوين حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، ثم في الحكومتيْن اللاحقتين. لكن هذه التجربة الهامة في التاريخ السياسي للمغرب لم تستمر بالنظر أساساً إلى عدم صمود مكونات الكتلة الديموقراطية في الحفاظ عليــهــا وفي تمنيع المسلسل الديموقراطي ضدَّ أيِّ تراجعاتٍ وتعثرات تناولتها هذه الوثيقة في الباب الأول
غير أن ذاك التحالف فرض انبثاق مفهوم آخر بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية هو الائتلاف. فقد كان تحالف الكتلة يتم ضمن ائتلاف حكومي، وليس تحالفا سياسيا، إذ ضمت الحكومات المذكورة أعلاه أحزابا من خارج أحزاب الكتلة الديمقراطية. لقد كان في الواقع تحالفا داخل ائتلاف.
وفي مرحلةٍ لاحقة قرَّرَ الحزبُ الدخول في تجربةِ تحالفٍ مرحلــــيٍّ قائمة على أهداف سياسية ظرفية، عندما تم تشكيلُ حكومةٍ سنة 2012. فلم يكن هناك تحالفٌ استراتيجي بين حزب التقدم والاشتراكية وحزب العدالة والتنمية، بل كان تحالفاً مرحلياًّ هدفه الأساس تقويةُ قدرة الحزب على مواجهة ما اعتبره، عن حق آنذاك، خروجاً عن سيرورة البناء الديموقراطي السويِّ وعن مسار الانتقال الديموقراطي، قبل وبعد الإصلاح الدستوري لسنة 2011. ولقد جاء ذاك التحالف المرحلي استجابةً لمطلب المجتمع في التغيير على مستوى تدبير الشأن العام، من خلال برنامج محدد من داخل الحكومة بالأساس.
وهنا طُرحت على الحزب ضرورةُ التمييز بين مفهوم التحالف الذي يتميز باتساع دائرة المشترك، ويدوم في الزمن، ويشمل مرحلة تاريخية بكاملها، ويمكن أن يكون في الحكومة كما في المعارضة، وبين الائتلاف الذي يكون ظرفيا لإنجاز مهمة سياسية محددة في الزمن وتفرضه مستجدات سياسية، ويكون أساسا داخل الحكومة على أساسٍ برنامجي، كما يمكنه بدوره أن يكون في المعارضة، وإلى حد ما داخل المؤسسات المنتخبة، وينتفي بانتفاء دواعيه السياسية الظرفية.
2/ العمل الوحدوي ووحدة اليسار مسعى ثابت لحزب التقدم والاشتراكية
يَعتبر حزبُ التقدم والاشتراكية أنَّ التحالف الاستراتيجي هو تحالفُ قِـــوى اليسار. وسَعَـــى الحزبُ، بدون كلل ولا ملل، نحو تحقيق وحدة اليسار منذ عقود، لأن مثل هذا التحالف، لو تَـــم، كان بإمكانه أن يحقق برامج وأهداف أكثر طموحًا في مسار بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
ورغم هذا المسعى الثابت والاقتناع الراسخ للحزب بضرورة وحدة اليسار، ورغم كل المبادرات التي قام بها ونداءاته في كل المحطات السياسية وكل مؤتمراته الوطنية، فإن هذا الهدف لم يتحقق، ولم تتوفر بعدُ الشروطُ الذاتية لتحقيقه، رغم توفر شروطه الموضوعية، خاصة في هذه المرحلة السياسية حيث الاصطفاف الموحَّدُ لليسار ضمن المعارضة، وحيث توجد حكومةٌ تعبر بوضوح تام عن مصالح الأوليغارشية والبورجوازية الطفيلية، وعن توجهها النيوليبرالي الواضح، وحيث التأثير القوي للوبيات المصالح في سياساتها العمومية.
إن هذا المعطى في المشهد السياسي جعل الاصطفاف الطبقي، ومن ثمة السياسي، أكثر وضوحا من ذي قبل، مما يوفر الشرط الموضوعي لوحدة اليسار من أجل مواجهةٍ مُــوحَّـــدة لخصم طبقي واحد وموحد. وسيواصل حزب التقدم والاشتراكية مسعاه، كما فعل دائماً، وبكل الوسائل المتاحة، لتحقيق الشرط الذاتي لوحدة اليسار.

3/ سعي الحزب نحو تبلور حركة اجتماعية مواطِنة
بناءً على التحليل الذي قام به الحزب لوضع اليسار بالمغرب توصل إلى استنتاج أن عددًا لا يستهان به من مُناصِري فكر اليسار وتوجهاته يتواجدون خارج الأحزاب السياسية اليسارية، لاعتبارات مختلفة، كما أن عددًا مهما منهم ينشط في منظمات مدنية أو يقود حركات اجتماعية.
إن هذا التشخيص لوضعية اليسار وتشتته بين تنظيمات حزبية أو مدنية أو حركات اجتماعية، أو العزوف عن أيِّ فعل، يطرح سؤال البديل الممكن لتجميع أكبر قدر من فعاليات اليسار أمام غياب شروط ذاتية لوحدة اليسار. كما أنه يطرح سؤال التحالفات، ومدى إمكانية توسيعها إلى فعاليات غير منظمة حزبيا.
ويعتقد حزبُ التقدم والاشتراكية في إمكانية عقد تحالفات واسعة، ضمن حركة اجتماعية مواطِنة، تتعبأ وتلتف حول برنامج حدٍّ أدنى أو قضايا سياسية أو اجتماعية أو فئوية، وطنيا أو محليا، وتحقيق أهداف محددة قد لا يكون لها طابع سياسي مباشر، وتسعى بالأحرى إلى ممارسة الضغط بمختلف الأشكال المتاحة قانونًا لتحقيق أهداف ومطالب بعينها. ويمكن لها في ظروفٍ معينة ناضجة أن تشكل تكتلا بديلاً، من أحزاب سياسية ومنظمات مدنية وحركات اجتماعية، يطرح نفسه في الساحة السياسية لتدبير الشأن العام. وقد حدث مثل هذا المسار في عدد من البلدان، حيث حققت هذه التحالفات الواسعة نتائج إيجابية ملموسة.
كما يسعى حزب التقدم والاشتراكية إلى عقد تحالفات حول قضايا وموضوعات محددة، مثل قضية المساواة أو الحريات الفردية أو قضايا البيئة أو الثقافة الأمازيغية، أو المسألة الحقوقية. ويعتبر الحزب نفسه حليفا موضوعيا لكل المنظمات العاملة في هذه الحقول، أولا لأن مطالبها وأهدافها تلتقي إجمالًا مع توجهات الحزب ومواقفه منها، وثانيا لأن الحزب إما أنه أسَّسَ بعض الحركات المعنية، مثل الحركة النسائية، أو ساهم بقوة في تأسيسها مثل الحركة النقابية والحركة الثقافية الأمازيغية والحركة الحقوقية، أو يتبنى مطالبها مثل المنظمات العاملة من أجل البيئة وغيرها من القضايا الوطنية ذات الطابع الجامع لقوى وفعاليات مختلفة.
ومن ثمة، فإن الحزب لا يواجه أي عوائق موضوعية لعقد مثل هذه التحالفات التي تتجاوز الظروف المرحلية، ليكون لها طابع استراتيجي، لأنها تتعلق في الواقع بمشروع مجتمعي يعمل الحزب من أجله على مختلف الواجهات، ومنها الواجهات أعلاه.
كما أن مثل هذه التحالفات يمكن أن تتم على الصعيد المحلي حول قضايا ذات صبغة محلية تهم المواطنات والمواطنين في حياتهم اليومية، أو ضمن حركة اجتماعية محلية للمطالبة أو الاحتجاج.
هذه المقاربة لمسألة التحالفات يسعى اليوم حزبُنا إلى بلورتها أكثر. وعلى القيادة المنبثقة عن المؤتمر الحادي عشر تصريفها كلما كان ذلك ممكنا.
4/ المسألة النقابية في منظور الحزب
تبنى الحزب مفهوم الوحدة النقابية، وعمل من أجلها فعليا سنة 1955، عندما تم تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، حيث فَضَّلَ حَـــلّ المركزية النقابية التي كان يقودها، الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب UGSCM، الذي ساهم في تأسيسه الحزبُ الشيوعي المغربي، والاندماج في المركزية النقابية الاتحاد المغربي للشغل، من أجل الوحدة النقابية لكل الشغيلة المغربية. وكان هذا أول سلوك عملي وحدوي للحزب في العمل النقابي. ورفض الحزب بشكل قاطع كل الانشقاقات التي عرفها الاتحاد المغربي للشغل، منها انشقاق نقابيــــِّي حزب الاستقلال لتأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب سنة 1960، ثم انشقاق نقابيي الاتحاد الاشتراكي لتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1978.
هذه الانشقاقات لم تكن أبدا لدواعي نقابية، بل لدواعي سياسية وحزبية. وتمسك الحزبُ بالوحدة النقابية وعمل مناضلاته ومناضلوه داخل الاتحاد المغربي للشغل، رغم ما واجهوه من عراقيل لسنوات عديدة، وظلوا متمسكين بالوحدة النقابية، اعتبارًا لكون قضايا الشغيلة واحدة وتقسيمها إلى عدة نقابات لا يخدم مصالحها بل مصالح المشغِّلين.
لقد عرف المشهد النقابي تطورات أخرى، إضافة إلى الانشقاق، كما شهد بعض الانحرافات، حيث تموقعت بعض المنظمات النقابية بجانب ممثلي الباطرونا سياسيا، ودخلت منظمات نقابية في صراعات داخلية، أو فيما بينها، دون اعتبار لمصالح الشغيلة، مما أفقد العمل النقابي توهجه وأضعف تأطيره للشغيلة، وأنتج عزوف عدد من الفعاليات النقابية عن الاستمرار في العمل النقابي، وعزوف الشغيلة، خاصة في أوساط الموظفين، عن الانخراط في المنظمات النقابية. وأدى هذا الوضع غير السليم إلى بروز تنسيقيات نقابية فئوية، أو قطاعية، وطنية أو محلية، غير مرتبطة بأي مركزية نقابية.
إن هذا الوضع النقابي يُسائل حزب التقدم والاشتراكية بقوة، خاصة أنه الحزب الذي أسس العمل النقابي بالمغرب وقدم تضحيات كبيرة من أجل ترسيخه وتقويته ووحدته. وعلى هذا الأساس، يستمر مناضلات ومناضلو الحزب في الاشتغال بالأسبقية داخل الاتحاد المغربي للشغل، مع السعي نحو الإسهام في إعادة العمل النقابي إلى سكته الصحيحة. كما على الحزب أن يُــسهم في فتح آفاق جديدة للعمل النقابي، عبر طرح المسألة النقابية لنقاش معمق داخل صفوفه، من طرف القيادة التي سيُفرزها المؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب.

الفصل الثالث: حزب التقدم والاشتراكية: أداة تنظيمية لتحقيق البديل الديموقراطي التقدمي وفتح الآفاق
في المؤتمر العاشر، أجرى الحزبُ تقييماً لعشرين سنة من مشاركاته الحكومية. وخلال هذا المؤتمر الحادي عشر يُواصل الحزبُ تقييم أدائه العام، ولا سيما منذ 2010، سنة المؤتمر الوطني الثامن. حيث تطور الحزبُ كثيراً، خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية، على مستوى المكانة السياسية في المشهد الوطني، وعلى المستوى الإشعاعي والحضور الإعلامي، وصار له انتشارٌ تنظيمي أوسع، كما بات يُحقق نتائج انتخابية أكثر تقدما، باستثناء نكسة انتخابات 2016 التي كانت لأسباب سياسية عقابية أكثر منها لأسباب ذاتية.
في نفس الوقت، فإنَّ كثيراً من النقائص التنظيمية تعتري عمل الحزب، ولم ينجح في تجاوزها. وهذا المؤتمر هو مناسبة لتقديم نقد ذاتي جماعي، وأساساً من قِبَل القيادة الوطنية التي دبرت المرحلة المذكورة. وهو نقد يتعين أن يعقبه اجتهادٌ حقيقي من أجل تجديد أساليب التنظيم وطرق التدبير، وتحسين أداء ومردودية التنظيمات الحزبية جميعها، بما فيها الهيئات القيادية والفروع المحلية والإقليمية والجهوية، وتقوية أشكال المشاركة في اتخاذ القرارات الحزبية وتعزيز الممارسات الديموقراطية داخل الحزب.
وللتذكير، فقد أنتج الحزبُ وثائق متعددة لتوصيف النقائص التنظيمية ورصد المخاطر التي تتهدد القيم الأساسية للحزب، وتحديد كيفيات تفاديها. ومنها وثيقة “خارطة الطريق” في سنة 2010، وثيقة “خطة تجذر” في سنة 2017، وغيرها من الوثائق الصادرة في الموضوع منذ المؤتمر الوطني الخامس في سنة 1995. وكانت آخر هذه الوثائق وثيقة “تجذر وانصهار” التي صادقت عليها اللجنة المركزية في 14 دجنبر 2019، دون إغفال خلاصات النقاش الذي جرى في صفوف الحزب بمناسبة التحضير للمؤتمر الوطني الحادي عشر، حول أساليب وأشكال عمل الحزب.
إنَّ هذه الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني الحادي عشر تتبنى وتؤكد المضامين الوجيـــهة لكل هذه الأدبيات، وأساساً على مستوى: الحفاظ على وحدة الحزب وهويته وتوجهه السياسي واستقلالية قراره؛ الانفتاح على الحركة الاجتماعية؛ بعث الدينامية في التنظيم الداخلي للحزب؛ التكوين؛ التواصل؛ الالتزام بالواجب المالي تجاه الحزب؛ والمكانة البارزة للانتخابات والمنتخبين.
الفرع الأول: الحزب أداة للنضال من أجل تحقيق مشروعه السياسي
1/ صون القيم الأساسية للحزب مسألة أساسية
ينبغي استحضار ما يعرفه المحيط الخارجي من تحولات عميقة ومتعددة الأبعاد، لأجل ضمان استمرار الحزب، بالفعالية والنجاعة اللازمتين، وباستقلاليةٍ في القرار، في حمل المشروع المجتمعي الاشتراكي الذي تأسس من أجله.
على هذه الأسس، وبالنظر إلى التحديات التي تطرحها التحولات القيمية المجتمعية والكونية، فإن حزب التقدم والاشتراكية يؤكد على أنه حزبٌ يمارس الصراع الفكري والسياسي وفق منظومة قيم حزبية، هوياتية، أخلاقية وسلوكية، تحكم الحزب فرديا وجماعيا. وأساساً منها قِــيَمُ التشبث بالوطن ومصلحته العليا؛ والمُواطَنة؛ والثقافة الديموقراطية؛ وقيم العمل والنزاهة والاستقامة ونكران الذات والتضحية؛ واحترام الاختلاف؛ والانضباط والالتزام؛ والنقد والنقد الذاتي، والتوازن والاعتدال؛ وقيم الحرية والدفاع عن الحق والعدل والمستضعفين، وغيرها من القيم الإنسانية النبيلة، ومنها القيم المُستخلصة من نُبل هويتنا الاشتراكية بألوان مغربية.
2/ الأداة التنظيمية في خدمة المشروع الفكري والسياسي الجماعي
لقد نجح العقل الجمعي لحزبنا في أن يُفرز تحليلا سياسيا متماسكا، بالتفافٍ واسع من قِبل المناضلات والمناضلين، لتفسير المرحلة التي تجتازها بلادنا واستشراف آفاقها وتحديد مهام الحزب.
وبالمقابل، يتعين الإقرار بأن الأشكال التنظيمية للحزب لا ترقى بعدُ إلى حمل العرض السياسي الذي يُنتجه وتحويله إلى قوة دفعٍ تؤثر بقوة في حركية المجتمع، وذلك بالنظر إلى ما يشوب هذه الأشكال من قصور يجعلها محتاجة إلى المراجعة.
في هذا الإطار، فإن التنظيم، بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية، لم يكن أبداً ولن يكون هدفا في حد ذاته، بل هو الأداة لتحقيق المشروع السياسي للحزب مع صون هويته.
وبهذه المعاني، سيظل حزبُ التقدم والاشتراكية متشبثا ووفيا لمشروعه السياسي، مُجددا في أساليب وأدوات عمله وتنظيمه، بما يجعل فاعليتها متسقة مع نُبل وحجم المشروع السياسي الذي يناضل من أجله. وسيواصل الحزب، كذاتٍ جماعية، نبذ كافة الممارسات التي تنحو، عن قصد أو غير قصد، إلى تحجيم المشروع السياسي الجماعي على حساب التطلعات الذاتية للأفراد. كما سيستمر في التصدي لأيِّ محاولة لتسخير التنظيم الحزبي لأغراض وطموحات وصولية وانتهازية.
3/ مستلزمات بناء الحزب الجماهيري مع صون هوية الحزب ومشروعه السياسي
إن سياسة انفتاح الحزب على طاقات المجتمع المختلفة، وسياسة فتح أبواب العضوية فيه والترشح باسمه أمام كافة المواطنات والمواطنين، طالما أنهم يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية، ويتميزون بالنزاهة والاستقامة، ويتفقون مع التوجهات العامة للحزب، هي اختيارٌ ثابتٌ للحزب منذ سنواتٍ طويلة، تهدف إلى توسيع صفوف الحزب، وجعله جماهيريا ومؤثراً فعليا في مُجريات الأحداث الوطنية، وفاعلاً أساسيا في المشهد الوطني، حتى يتمكن من تحويل أفكاره إلى تقدم.
إن هذا الاختيار جسد مؤشراً على قدرة الحزب على التكيف والتجذر في المجتمع، حيث صار للحزب فروعٌ ومناضلون ومناضلات في كل أرجاء الوطن. وباتت مشاركته في الانتخابات تسجل أرقاما قياسية، وأصبحت نتائجه في مختلف الاقتراعات تسجل تقدماً ملحوظا، وتواجده في مختلف الهيئات المنتخبة، الوطنية والترابية، صار يتمدد ويتقوى.
وطرح هذا الانفتاح الجماهيري، ولا يزال يطرح، على الحزب تحدياتٍ من أهمها رهان التكوين. والحزبُ واعٍ بجدية وأهمية التزامه بالانفتاح، كخيارٍ لا رجعة فيه، من جهة، وبين ضرورة الحفاظ على مرجعية الحزب وخطه السياسي واستقلالية قراره ومكانته المشهود له بها في المجتمع كحزب ينبني على الأفكار والاقتراح، وعلى العمق الفكري والالتزام السياسي.
والمقاربة الموضوعية القائمة على ممارسة النقد الذاتي البناء تقتضي منا التأكيد على أن الحزب لم يتمكن، رغم ما حققه من توسع جغرافي وتقدمٍ في المجتمع، من إبراز هياكل تنظيمية متينة وناجعة ومتفاعلة مع الواقع المحيط بها، حيث يظل هذا التحدي مطروحاً كأولوية مُلِحّة بالنسبة للحزب. ويتعين في ذلك استكشاف جميع الأساليب والأشكال والوسائل المتماشية مع هوية الحزب والكفيلة بتحقيق القفزة النوعية المطلوبة.
الفرع الثاني: واجهات النضال ومستويات الفعل السياسي والتنظيمي
1/ النضال الجماهيري والنضال المؤسساتي: واجهتان تتكاملان
ينطلق الحزب، في أداء مهامه التاريخية، من منطلق أنه أداة لمشروعٍ مجتمعي تقدمي ديموقراطي وحداثي، ومن منطلق أن مجتمعنا المغربي لا يزالُ في حاجة لحزبٍ من طينة التقدم والاشتراكية.
وإذا كان الحزبُ يعتمد، من أجل إحداث التغيير المنشود، على العمل النضالي بجميع أشكاله وفي جميع مستوياته، فإنه يؤكد على ضرورة مواصلة نهج التكامل الضروري، بل الحيوي، بين الواجهة الجماهيرية لنضالاته، وبين واجهتها المؤسساتية.
فنضال القرب هو النواة الأولى لنضال الحزب، منه تنبع وتُفرز القضايا ويتم الدفاع عنها، وفي فضائه تكمن فرص توسع الحزب وخلق الالتفاف الجماهيري حول أفكاره، وهو المجال الذي يحتك فيه مناضلاتُ ومناضلو الحزب ويلتصقون بالشعب ويتجذرون من خلاله في المجتمع.
ثم تأتي قنواتُ الحزب من أجل حمل قضايا المواطنات والمواطنين، والنضال من أجل تحقيق مطالبهم المشروعة مهما كانت تبدو صغيرة أو بديهية. ويلعب هنا الحزب داخليا أيضا دور التحليل وإنتاج المواقف العامة التي تستمزج القضايا الجزئية وتركيبها ضمن قالبٍ عام وفق رؤية سياسية بمرجعية فكرية واضحة.
فالنضال الجماهيري شكَّــل، على الدوام بالنسبة للحزب، واجهة أساسية للنضال. وذلك ما يتعين استعادته. أساسا من خلال التواجد في قلب كفاحات المواطنات والمواطنين، وإلى جانب الحركات الاجتماعية المختلفة.
ذلك ما يسمح للحزب بفهم المجتمع في ديناميته وتغيراته ومستجداته، وبالإنصات إلى نبضه من التفاصيل الصغيرة إلى القضايا الكبرى. وذلك ما يتيح له إنتاج مقترحاتٍ وبرامج وتصورات وبدائل عامة ومرَكّبة صالحة لأن تكون خارطة طريقٍ لتدبير الشأن العام الذي يطمح إليه الحزب دائما بغرض تحويل أفكاره إلى قوة دفعٍ مادية في المجتمع.
بالموازاة مع ذلك، يشارك الحزبُ في مختلف الانتخابات، وفق هذا التصور العام. فالانتخابات بالنسبة للحزب مجال للاحتكاك القوي والكثيف للمناضلات والمناضلين مع واقع الناس. وهي أيضاً فرصة لإشعاع أفكار الحزب. وهي كذلك مجال لانفتاح الحزب على الطاقات. وأيضاً هي مدخل ديموقراطي لمشاركة الحزب في تدبير الشأن العام المحلي والوطني.
من هنا يأتي النضال المؤسساتي متكاملاً ومتناغماً ومنسجماً مع النضال الجماهيري. ذلك أن وجود حزبنا في المؤسسات المنتخبة أو الحكومة لا يعني الانسحاب من ساحة الصراع الاجتماعي والحقوقي والقيمي في المجتمع.
هنا، لا بد من التأكيد على دعم حضور الحزب على الصعيد البرلماني، سياسيا، وتكريس وتقوية تنسيق عمله مع قيادة الحزب. وذلك بالموازاة مع مواكبة عملنا البرلماني من طرف لجان الحزب المختصة وأطره وخبرائه، لتقديم مبادرات فرق الحزب بالبرلمان.
وهي مناسبة، لتقديمِ نقد حزبي جماعي، بسبب الانكماش الذي عرفته الواجهة النضالية الجماهيرية بالنسبة للحزب على مدى عشرين سنة من مشاركة الحزب في الحكومة. ولقد آن تصحيح ذاك الوضع، من خلال تجذير وتكريس الممارسة النضالية التي تقوم على ثنائية الواجهتين المؤسساتية والتنظيمية الجماهيرية، وذلك بأفقٍ استراتيجي يمتدُّ على السنوات القليلة المقبلة، مع إيجاد صيغ تدبيرية لتتبع وتقييم هذا السعي بشكل مسترسل.
2/الانفتاح على الحركة الاجتماعية
يواصل الحزب اجتهاده لتعميق معرفته بمحيطه الاجتماعي وتعزيز الانصهار فيه وتقوية الحضور في مختلف جبهات الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحقوقي والقيمي والثقافي والإيكولوجي، والسعي نحو استعادة المبادرة في تأطير وقيادة النضالات الجماهيرية وتوجيهها، في أوساط الفئات الكادحة، والشباب والنساء، والطلبة والتلاميذ، والمهنيين، والالتصاق بواقعهم، والحث على المشاركة، ودعم كافة التعبيرات الاجتماعية، سواء في أشكالها التقليدية أو في صيغها الجديدة، في الحواضر كما في الأرياف.
ويتعين أن يعمل الحزب أكثر على المساهمة في تأطير الحركة الاجتماعية وإحداث التأثير المناسب فيها، والانفتاح على الطاقات التي تزخر بها، بما فيها تلك التي تنشأ وتتنامى خارج البنيات والمؤسسات والوسائط الاجتماعية المُعتادة.
إن هذه المهمة من المفترض ألا يجد الحزب صعوبةً في الاضطلاع بها، بالنظر إلى التلاقي الموضوعي بين أفكاره ومواقفه وبين المواضيع التي تطرحها اليوم الحركة الاجتماعية المتصاعدة، بما يتيح المجال أمام إنضاج بديلٍ ديموقراطي تقدمي يمكن للحزب أن يشكل محوره من خلال حركة مواطنة جديدة للإصلاح تتأسس على تحالف واسع لمختلف الطاقات الوطنية والفعاليات الحاملة لهموم الوطن والشعب.
لذا، من الحيوي أن يبعث الحزب روحا جديدة في نضالاته على الواجهات الديموقراطية، والحقوقية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإيكولوجية، والنقابية، والثقافية. فالحزب منفتح على كافة المبادرات النضالية وتطوير دينامياتها، ومنها أشكال النضال الجماهيري، سواء كان ذا مطالب عامة أو فئوية، وسواء كان ذا بعد وطني أو ترابي.
3/ متطلبات تحقيق التطابق بين الإشعاع السياسي والوزن الانتخابي
تعيش الحياة السياسة مرحلة ركود وجزر، لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، من مؤشراتها تراجع مصداقية الأحزاب السياسية وانحباس المشاركة الفعلية في العملية السياسية. كما يعرف الخطاب السياسي المتداول والممارسات السياسية الحالية اختلالات تُفاقِم الوضع. وكذلك تم تسجيل انحسار المبادرة لدى الأحزاب عموماً، بل إن منها من فرط في استقلالية قراره.
مع ذلك، ومع كل التواضع النضالي اللازم، فإن حزب التقدم والاشتراكية يُحافظ، وسط أجواء سياسية موبوءة عموماً، على قدرٍ من المصداقية، إلى جانب فعالياتٍ سياسية وطنية أخرى. وذلك ما يُعطي للحزب امتيازاً نسبيا في الفضاء السياسي يجعله يحظى باحترام أوساط مختلفة في المجتمع. ويعود ذلك إلى جديته التي تبرز من خلال مواظبته على احترام قواعد التدبير الديموقراطي لشؤونه، ودَأبِـــهِ على تقديم الاقتراحات والبدائل الجريئة والمسؤولة، وتسجيل حضورٍ إعلامي مهم، واحترامه للفرقاء السياسيين بغض عن الاختلاف أو الاتفاق معهم. ونظافة أيدي المناضلات والمناضلين الذي يتحملون مسؤولياتٍ عمومية. وهو ما يشكل مقاربة يسعى الحزبُ نحو تكريسها وتعزيزها.
كل هذه العناصر خلقت للحزب مكانة وإشعاعاً مجتمعيا وسياسيا، وتقدماً انتخابيا ملحوظاً، لكن على حزبنا أن يجد الصيغ المناسبة للحفاظ على هذا التقدم والتميز، ولتحقيق إشعاعٍ انتخابي أقوى وأوسع.
وهي معادلة صعبة، في ظروف العزوف، والفراغ السياسي، وفقدان الثقة، واستعمال أساليب فاسدة في المعارك الانتخابية لا يمكن للحزب أن يُسايرها، بل هو في طليعة من يحاربها. لكنها معادلة ممكنة إنْ توفَّق الحزبُ في تحريك الحركة الاجتماعية، وفي إقناع جزءٍ عريضٍ من العازفين عن المشاركة في المعارك الانتخابية ومن النزهاء والغيورين على وطنهم، بالانخراط في العمل من أجل التغيير، والمساهمة الفعلية في الحياة السياسية والمؤسساتية، وفي المعارك الانتخابية ترشيحاً وتصويتاً.
الفرع الثالث: مقاربات تنظيمية جديدة تفرض نفسها لمواكبة التحولات المجتمعية وتجاوز النقائص
1/ نحو نموذج تنظيمي فعال وأساليب للعمل تواكِبُ التحولات
انتقل الحزب، منذ سنواتٍ طويلة، من المركزية الديموقراطية إلى الديموقراطية الداخلية، وظل النموذج التنظيمي دون تغييرات عميقة، حيث لا يزال هذا الأخير يعتمد على مقاربات يتعين تكييفها مع المتغيرات المجتمعية العميقة.
إن الأمر يستدعي مواصلة التفكير، بالموازاة مع الممارسة ومراكمة التجارب، في نموذجٍ تنظيمي ملائم وأشكال عمل مناسبة تتبلور تدريجيا على أرض الواقع، من خلال أساليب تتبع وتدبير، تعمل القيادة الوطنية المقبلة على إحداثها إلى جانب كافة الهياكل الحزبية.
2/ تفعيل وتقوية أدوار المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب
المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب ضرورية لنموه وتجذره. والغاية الأولى من تأسيس هذه المنظمات من طرف الحزب هو استثمار عملها الوسيطي بين المجتمع والحزب، لتقويَّ موقعها ووظيفتها باعتبارها، رافدا من روافد توسيع القاعدة الجماهيرية له.
فالشبيبة الاشتراكية، ومعها القطاع الطلابي والتلاميذي ومنتدى فتيات المغرب؛ ومنظمة الطلائع أطفال المغرب؛ ومنظمة الكشاف الجوال؛ ومنتدى المناصفة والمساواة؛ والجمعية الديمقراطية للمنتخبين التقدميين، كلها منظمات تابعة للحزب يتعين تقوية أدوارها وتعزيز حضورها المجتمعي، وتجديد أساليب وطرق عملها، إلى جانب الحزب في مختلف المعارك الفكرية والسياسية والتنظيمية.
3/ القطاعات السوسيو مهنية للحزب
القطاعات السوسيو مهنية بالنسبة للحزب فضاءٌ ملائم لحضور خطاب الحزب ومواقفه وتحاليله في الأوساط المهنية المختلفة: المحامون، الأطباء وأطر الصحة، الأساتذة، المهندسون، المقاولون، المثقفون والمبدعون، الفلاحون، الصناع التقليديون، التجار، المقاولون، الموظفون والمستخدمون…. إلخ.
وتُعبر هذه المقاربة التنظيمية عن مدى انفتاح الحزب على أساليب متجددة في العمل. ويعمل الحزبُ على رصد وتحليل الصعوبات التي تُعيق نجاعة عمل بعض القطاعات السوسيومهنية بأفق تجاوزها.

4/ مؤسسات البحث: مقاربات جديدة للعمل في إطار الحزب
بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية، الذي يعطي قيمة ومكانة خاصتين للبحث والتفكير وإنتاج الأفكار، فإن مؤسسات البحث والدراسة التابعة له من المفروض أن تلعب أدواراً أساسية، وهي التي تأخذ، عموماً، مسافة كافية عن إكراهات التدبير اليومي لشؤون الحزب، من أجل أن تتفرغ حصريا لإنتاج الأفكار التي تزود الحزب في جميع الموضوعات التاريخية، الاقتصادية، السياسية، السوسيولوجية، المالية، الفلسفية، المؤسساتية، القانونية، وغيرها.
فمركز عزيز بلال للدراسات والأبحاث؛ ومؤسسة علي يعته، مؤسستان تم تأسيسهما بقرارٍ من الحزب كإطاريْن تابعيْـــن له، حيث كلـــَف باستمرار مناضلين من الحزب بالسهر عليهما إلى جانب مجموعة من الفعاليات الأخرى غير الحزبية. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتعزز دورهما في مساعدة الحزب على فهمٍ وتحليلٍ أفضل للحياة الاقتصادية والمالية وتحولات المجتمع وقضاياه الكبرى، وفي تطوير الفكر السياسي المغربي، والرقي بمستوى النقاش الفكري الدائر على الصعيد المجتمعي.
5/ تواصل الحزب: السعي نحو تموقع جيد في عالم الرقمنة
هناك تطور حاصل في القدرات التواصلية للحزب، خاصة فيما يتصل باستثمار تقنيات التواصل الجديدة في السنوات الأخيرة. ويُسجَّل الحضور القوي للحزب في المشهد الاعلامي الوطني، وحضور الحزب على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويتعين الارتقاء بالتواصل الحديث للحزب، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت قوة حقيقية للإشعاع ووسيلة للتأثير في توجهات الرأي العام، مما يتطلب جهدا كبيرا لحضور أقوى وتطوير أداء الحزب على هذا المستوى، لا سيما من حيث رصد ما يناسب من إمكانيات، وتعزيز الشعور بالانتماء للحزب من أجل الانخراط في تعميم مبادرات الحزب ومواقفه.
و يُصدر حزب التقدم والاشتراكية، باعتباره المساهم الرئيسي في شركة BAYANE S.A للنشر جريدتــــين هما “بيان اليــــــــوم” و”AL BAYANE”، للإخبار والتعبير عن قضايا الوطن، والإسهام في تعزيز البناء الديمقراطي، وتنشيط الحوار السياسي التعددي، والدفاع عن أفكار التقدم والديمقراطية. وهو ما يتطلب مواصلة الاجتهاد من أجل الرفع من إشعاع صحافة الحزب في وسطٍ إعلامي يتسم بتراجعٍ كبير للصحافة المكتوبة.
كما يتطلب الواقع التواصلي للحزب توفر هذا الأخير على أدواتٍ تواصلية رقمية وسمعية بصرية حديثة قادرة على إيصال صوته وخطابه بشكلٍ أوسع وأنجع إلى المجتمع.

6/ التكوين الحزبي
لا مناص لحزبٍ، من طينة حزب التقدم والاشتراكية، عن العناية بالتكوين والتأطير الموجه لجميع عضواته وأعضائه، حسب حاجة كل فئة.
ولذلك، يجتهد الحزبُ من أجل تأسيس أكاديمية أو مدرسة وطنية للتكوين، تعمل بمقرر وبرنامج سنوي يغطي الجانب الإيديولوجي، والجانب السياسي، وتاريخ الحزب، ومحطاته الأساسية، ومواقفه عبر تاريخه، والثقافة التنظيمية للحزب، إضافة الى الجوانب التقنية، مثل التدبير التنظيمي وتكوين منتخبات ومنتخبي الحزب، وتكوين الفاعلين في المجال الجمعوي.
وفي انتظار تحقق ذلك، على الحزب أن يبلور ويُفَعِّلَ جميع الصيغ والأشكال التأطيرية والتكوينية المتاحة، من لقاءات وحلقات نقاش وندوات وغيرها، حضوريا أو عن بُعد، حول شتى المواضيع.

خاتمة
هذا هو حزب التقدم والاشتراكية الذي نشأ ونما وتطور في هذه التربة المغربية، والذي يضع نفسه، منذ ثمانين سنة، رهن إشارة الوطن والشعب،
حاملاً لمشروعٍ مجتمعي وبديلٍ ديموقراطي تقدمي، وفق هوية وقيم ومبادئ راسخة وأساليب عملٍ متجددة،
من أجل فتح الآفاق والإسهام في بناءِ مغرب أفضل وأقوى يتسع لجميع بناته وأبنائه، على قدم المساواة، وعلى أساس الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
هذا هو حزبُ التقدم والاشتراكية، الوطني، الأممي، الإنساني، الديموقراطي، التقدمي، والاشتراكي، الذي يُحلل الواقع بسعيٍ نحو فهمه والإسهام في تغييره، بروحٍ مسؤولة وجريئة وبناءة ومتوازنة، وبقدرةٍ على ممارسة النقد والنقد الذاتي.
إنه حزبٌ يعتز بماضيه النضالي، ويُقدِّرُ مهامه التاريخية الراهنة، ويثق في المستقبل، معتمداً على جدلية الوفاء والتجديد، في تكيفٍ دائم مع الواقع المتغير.
هذا هو حزبُ التقدم والاشتراكية المنشغل، حتى النخاع، بالمصالح الوطنية وبآمال وآلام المغاربة، متطلعاً أيضاً إلى أن يُسهم في بزوغ عالمٍ يسوده السلام، عالمٍ أكثر عدلاً وإنسانية.

Related posts

Top