كلنا تعرفنا منذ ريعان الشباب على “هبيل” القرية. (الكلمة هنا بمعناها الاشتقاقي، “هبيل” تعني “غريب الأطوار”، “شخص استثنائي” في اليونانية القديمة).
أحيانا، يكون هناك العديد منهم:
المرأة التي تغمغم وهي تتسكع في الدروب، ضائعة في حلم باطني. حارس المقبرة الذي يمكن له أن يثير الرعب في أثناء محادثة ما، عند التلفظ بهذه الكلمة أو تلك.. (أعرف عائلة في الدار البيضاء، حيث تصاب عاملة البيت بخدر عند النطق بكلمة “عسل” أمامها، إنه في المغرب حيث كان على الدكتور فرويد أن يباشر عمله).
في الجديدة، خلال طفولتي، كان هناك شخص قوي البنية يدعى عبد المولى، كان يمارس مهنة تخطيط اللافتات. مثلا حين يقرر المجلس البلدي إقامة لافتات احتفالا بعيد العرش في الشارع المحاذي للشاطئ، فإن عبد المولى، من كانوا يقصدون. والحالة هذه أن عبد المولى كانت لديه ميزة هامة: إنه لا يبالي تماما بمحيطه. يرتدي مثل شخصيات لعبة الورق، يتحدث لوحده بصوت مرتفع، يشرب من عنق قنينة المشروب الغازي في واضحة النهار برمضان، ولا أحد يبدي له أدنى ملاحظة بخصوص ذلك.
أحيانا يتوتر عبد المولى ويشرع في الركض في كل دروب حي بوشريط وهو يصرخ:
“يا ربي، تطير العرب”
وهو ما كان يبدو على الأقل غريبا، لأن الجميع في الجديدة، كان عربيا أو يعتبر في عداد العرب، ابتداء من عبد المولى نفسه.
لكن الشيء الأهم يكمن في موضع آخر: إنه رد فعل الجديديين. في الواقع، إنهم ببساطة لا يقومون بأي رد فعل. في حدود ما، قد يهزون أكتافهم لاستفزازات عبد المولى، ثم يواصلون سيرهم. إنها حالة أغلبية البلهاء في القرية. في آزمور، كان واحد منهم يلقي دروسا في الفلسفة للطيور. الناس يطعمونه دون أن يحقدوا عليه.
في أحد الأيام، وأنا مراهق، أقضي العطلة بمنزل أجدادي، أرهفت السمع للرجل الهبيل حين مروري أمامه: كانت فعلا عبارة عن دروس مدعمة ببراهين. السلالة الطائرة كلها آذان صاغية.
(اليوم، في هذه اللحظة نفسها التي أكتب فيها هذه السطور، أنتبه إلى أن ذلك كان متزامنا مع الفترة التي تم فيها حذف تدريس الفلسفة. هل كانت هناك علاقة سببية؟ قضية تحتاج إلى تعميق البحث فيها..).
باختصار، وهنا بيت القصيد، بلهاء قرية طفولتنا لم يكن لهم أي تأثير علينا. كنا نتعامل معهم كأنهم غير موجودين بيننا. كانوا يستمرون في هذيانهم ونحن في حياتنا. وهكذا كانت الخراف تحت حراسة مضمونة. في وقتنا الراهن، مع الأسف، هبيل القرية يمتلك هاتفا ذكيا، حسابا في الياهو، تجده في أنستغرام وفي كل ما يمكن أن يضاعف جنونه. هكذا نرى باستمرار صبيانا وصبيات “يشعلون النيران” باستفزازاتهم: يضعون في تدويناتهم فيلما مصورا عنهم في بضع دقائق وهم يتبخترون عراة في كثبان الرمال، يعقدون القران بحمار أو يسبون قيمنا المقدسة، كما يقال. وخلال عدة أيام، لا يكون هناك حديث سوى عن ذلك، البرلمان يهتم بالقضية المتشائمون بالمستقبل يعلنون عن انهيار الأعراف ونهاية حضارتنا.
في أثناء ذلك، أفكر في عبد المولى. لو كان هناك أنترنت وهواتف ذكي في ذلك الإبان، لا شك أنه كان سيصير مشهورا وقد يكون سببا في سقوط وزير أو وزيرين في الرباط. ألا يعد هذا درسا بالنسبة لنا؟ لماذا لا نعامل نحن هؤلاء الصبيان المستفزين اليوم مثلما كان الجديديون يتعاملون مع عبد المولى منذ ثلاثين سنة خلت؛ بصمت حاد؟
في نهاية المطاف، ما هو الفرق الأساسي بين عصر عبد المولى وعصرنا؟ التكنولوجيا. هذا يجرنا إلى طرح السؤال: هل نحن من نخترع التكنولوجيا أم هي من تخترعنا؟
> بقلم: فؤاد العروي
> ترجمة: عبد العالي بركات