يعتبر المحامي الفرنسي جاك فيرجيس أحد أكثر المحامين قوة، وألمعهم في العالم وأشدهم قدرة على الدفاع وإثارة للجدل. اشتهر بـ”محامي الشيطان”، بسبب دفاعه عن قضايا كبيرة ومثيرة يخشى محامون غيره الاقتراب منها، كما يلقب أيضا بـ “سفاح المرافعات” و”محامي القضايا الميؤوس منها”. دافع وترافع عن الكثير من الشخصيات المثيرة للجدل، منها الفنزويلي كارلوس والناشط اللبناني جورج إبراهيم عبدالله، إلى جانب مجرم الحرب النازي كلاوس باربي والدكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش وقائد الخمير الحمر السابق كيو سامفان، والرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والمفكر روجيه غارودي المتهم بإنكار محرقة اليهود. وكان الرجل القصير القامة صاحب الوجه الساخر والنظارات المستديرة والشعر القصير المولع بالسيكار، مقربا من شخصيات سياسية من العالم أجمع وكذلك من سائر المناضلين الذين كانوا يعملون في السر مثل الحركات التي نفذت هجمات في السبعينيات والثمانينيات .
وللوقوف عن قرب على مسار المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، أرتأينا نشر مجموعة من الحلقات حول كل ما يتعلق بمساره الشخصي والمهني والنضالي وكيف ناصر القضية الفلسطينية، ووقف ضد بلاده من أجل نصرة القضايا العادلة وفي مقدمتها الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.
صدمة في الأوساط اليسارية بعد قرار فيرجيس الدفاع عن كلاوس باربي
في الفيلم الوثائقي “محامي الرعب” (2007) الذي خصصه الألماني باربيت شرودر لسيرة المحامي جاك فيرجيس، كشفت ماجدلينا كوب بعضاً من أسرار علاقتها العاصفة بفيرجيس. كما عرض الفيلم بعضاً من وثائق استخبارات ألمانيا الشرقية سابقاً، وبينها محاضر سرية مكتوبة بخط يوهانيس فاينرش تبيّن أن فيرجيس كان منضوياً في منظمة كارلوس تحت الاسم الحركي “هيرزوغ”.
لكنّ فيرجيس تهرّب من التعليق على تلك “الشبهات”، تاركاً الأسئلة التي طُرحت في الفيلم عالقة. وظل حتى وفاته يرفض التوضيح ما إذا كان انخراطه في تنظيم كارلوس ناجماً عن موقف إيديولوجي أم مرتبطاً بوقوعه في غرام ماجدلينا كوب ورغبته في تهريبها من السجن أو تدبير عملية فدائية لإرغام السلطة الفرنسية على تحريرها. وهو ما حدث بالفعل. التحق بها فيرجيس في ألمانيا الشرقية بعد إطلاق سراحها، وكان مستعداً ــ كما اعترفت هي ــ لـ”ترك كل شيء من أجل العيش معاً”. لكنها لم تلبث أن هجرته لتعود إلى أحضان كارلوس!
رغم أنّ هذا المسار غير اعتيادي لمحام يقيم في دولة غربية، إلا أنّ التعاطف اليساري الذي حظي به منحه مناعة حصّنته ضد المضايقات القانونية والأمنية. أسهم في ذلك كون فيرجيس لم يكتسب شهرته من مرافعاته المدوية في المحاكم فقط، بل انخرط في نشاطات سياسية ونضالات يسارية خوّلته إقامة صداقات شخصية وثيقة مع قادة بارزين من ماو تسي تونغ إلى فيدل كاسترو، خصوصاً خلال الفترة التي تزوّج فيها البطلة جميلة بوحيرد، حيث استقر في الجزائر، وعمل مستشاراً للرئيس الراحل أحمد بن بلة، ومديراً لمجلة “الثورة الإفريقية”. لكن لسبب غامض، أصدر بن بلة عام 1964 قراراً بنفي فيرجيس من الجزائر، فيما هدّدت مطلقته جميلة بوحيرد بقتله إن قابلته مجدداً! تلت ذلك فترة رمادية عاد خلالها فيرجيس إلى ممارسة المحاماة في باريس قبل أن يختفي إلى وجهة مجهولة 7 أعوام. وقد عجزت كل أجهزة الاستخبارات ووسائل الإعلام عن تحديد سرّ ذلك الاختفاء!
المجرم النازي كلاوس باربي[/caption]
لكنّ الأوساط اليسارية التي كانت تتعاطف مع فيرجيس صُدمت عام 1987 بقراره الدفاع عن المجرم النازي كلاوس باربي. لم يفهم محبّوه كيف أمكن لمناضل معروف بأفكاره اليسارية الراديكالية أن يرافع عن سفاح نازي، خصوصاً أنّ فيرجيس التحق عام 1940، وهو في الـ 14 بصفوف المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. إلا أنّ فيرجيس عرف كيف يستثمر الجدل والهالة الإعلامية الكبيرة التي استقطبتها محاكمة باربي، لابتكار “إستراتيجية القطيعة” التي باتت اليوم نظرية تُدرَّس في معاهد القانون. قلب فيرجيس محاكمة باربي كمجرم نازي إلى محاكمة للدولة الاستعمارية الفرنسية. ووقف في المحكمة ليخاطب القضاة قائلاً: إنّ “موكلي مجرم نازي، نعم. وهو مذنب، ويستحق القصاص. لكن من أنتم حتى تحاكموه؟ أنسيتم ما اقترفتموه من مجازر وجرائم في المستعمرات؟”.
ورغم الصدمة التي أثارها دفاعه عن باربي، إلا أنّ فيرجيس لم يندم، وأصرّ على أن قراره كان صائباً. في الفيلم المخصص لسيرته، حاول باربيت شرودر خلخلة قناعاته بخصوص المرافعة عن شخصيات مقيتة من مجرمي الحروب، فاستفزه قائلاً: “يخيّل لي أنه لو أُتيحت لك الفرصة لقبلت بالدفاع عن هتلر نفسه؟” وإذا بفيرجيس يجيبه ساخراً: “لستُ مستعداً للدفاع عن هتلر فقط. يمكن أن أقبل حتى بالدفاع حتى عن جورج بوش”. وأضاف: “شَرطي الوحيد في هذه الحالة، أن يعترف موكّلي أمام المحكمة بأنه مذنب ويستحق القصاص”!
>إعداد: حسن عربي