الباحث إبراهيم عمري يقارب مسرحية “يقظة الزنج” لمحمد الزروالي

نظمت مؤخرآ فرقة مسرح التأسيس بتازة بشراكة مع اتحاد كتاب المغرب، وبدعم من وزارة الثقافة والاتصال ـ قطاع الثقافة، وتحت إشراف المديرية الإقليمية لوزارة الثقافة والاتصال بتازة، وفي إطار برنامج توطين الفرق المسرحية بالمسارح، لقاء ثقافياً حول التجربة المسرحية للأستاذ والمبدع محمد الزروالي بقاعة دار الفتاة بتازة.
وقد تميز اللقاء بحضور جمهور غفير غصت به جنبات القاعة من أساتذة الكلية متعددة التخصصات وطلبة الإجازة وسلك الماستر والدكتوراه وعدد كبير من المثقفين والمهتمين والحقوقيين وأصدقاء محمد الزروالي. وتميز اللقاء بتقديم رئيس فرقة مسرح التأسيس المخرج محمد بلهيسي، الذي شكر فيه الحضور، نبذة عن أعمال المحتفى به الزجلية والمسرحية التي امتدت على مدى عقود من الزمن. من ديوانيه “كناش التبوريدة” و”كناش مخ السيكان” إلى مسرحيتيه “ذخيرة الأندلس” و”يقظة الزنج” الشعريتين وأعمال أخرى أغنت المكتبة المغربية بجنسين فنيين قل الخائضون فيهما وباتوا على رؤوس الأصابع.
وقد قدم الأستاذ إبراهيم عمري (أستاذ التواصل وتحليل الخطاب بالكلية متعددة التخصصات بتازة، جامعة سيدي محمد بنعبد الله فاس)، مداخلة سلط فيها الضوء على تجربة محمد الزروالي في المسرح الشعري مركزاً على “يقظة الزنج”، وقبل ذلك أشار إلى الثراء الإبداعي الذي تميزت به حياة المبدع المحتفى به وضرورة الالتفات إلى هذه القامات الإبداعية المؤسسة للفعل الثقافي والفني، كما أصر على أن يشكر فرقة مسرح التأسيس على تنظيمها لهذا الحفل واختيارها لفضائه الدال. وفي هذا السياق أكد إبراهيم عمري أن هذا الحضور اللافت لأساتذة الكلية وطلبتها من مختلف الأسلاك، بل وبعض موظفيها وعميدها هو تجسيد حقيقي لاعترافهم بمبدعي المدينة وتقديرهم للأدب والأدباء أولاً، ووعيهم العميق بضرورة انفتاح الجامعة لا على محيطها السوسيو اقتصادي فحسب، بل والاجتماعي والثقافي أيضاً. ولعل اختيار دار الفتاة التي تحتضن فلذات أكبادنا خير دليل على هذا الانفتاح.

التعبير بالماضي عن الحاضر

عنون الباحث والناقد المغربي إبراهيم عمري مداخلته “التعبير بالماضي عن الحاضر في “يقظة الزنج” لمحمد الزروالي، قراءة من وحي العنوان”. وما جاء فيها “لم يكتب الزروالي في ما أعلم مسرحياته إلا شعرأ، فنصوصه: “الفراشة” و”أمنتيا” و”ذخيرة الأندلس” و”يقظة الزنج” شاهدة على روح الشاعر القابعة في مؤلفها والمتسللة إلى نصوصه المسرحية. ولا شك في أن هذا الاختيار بعيد عن الاعتباطية لسببين اثنين على الأقل، أولهما أنه ليس سوى تأكيد لرؤية صاحبه للمسرح ولما به يكون المسرح أباً حقيقياً للفنون؛ وثانيهما هو اعتبار الزروالي الكتابة مغامرة. والمقصود بالمغامرة هنا هو أن اللغة الشعرية حققت تلك المعادلة الصعبة، فهي لا تكتفي بلفت الانتباه إلى ذاتها وإنما تستجيب لخاصية الحوار الدرامي بما هو أس المسرح وعماد الصراع والمفارقة فيه، وتظل في الوقت نفسه منسابة دون تعسف أو تمحل مخاطبة أذن قارئها الموسيقية.
وعلى الرغم من تباين دواعي هذا الاختيار بين موضوعية وذاتية، فإن ما يستشعره القارئ من حضور جلي للنزعة الإنسانية في إبداعات الزروالي لا يلبث يتأكد شيئا فشيئاً، فهي تهمس إلى قارئها اللبيب بانتصارها لقضايا العصر العادلة ولكرامة الإنسان بمعناها الرحب والنبيل. ولعل هذا هو الخيط الرفيع الناظم الذي يخترق هذه التجارب خلسة، ويعبر مشاهدها وحواراتها دون جلبة أو شعارات. ينسحب العامل الموضوعي على تجربته الأولى “أمنتيا” وهي لا زالت حبيسة الاختمار في كواليس المؤلف، وعلى مسرحية “ذخيرة الأندلس” حيث تحضر فيهما معاً القضية الفلسطينية بكل ثقلها وأبعادها التاريخية وتجذرها في متخيلنا الجمعي. ولا غرابة في ذلك مادام المؤلف قد عايش حدث النكسة وهو يافع تتأجج داخله مشاعر الخيبة. أما الدافع الذاتي فيتجلى أكثر ما يتجلى في مسرحية “يقظة الزنج” حيث كان موضوع العبودية والميز وسلب الحريات نابعاً لا من واقع المؤلف السياسي المفروض من الخارج، بل من واقع الطفولة والماضي البعيد وصورهما المتداخلة المعششة في الذاكرة والمفتقدة لوضوح الألوان والملامح.
وأشار الباحث إلى أن ما يوحي به لفظ “يقظة” هو شبه وعد يستنفر ذاكرة القارئ الثقافية والتاريخية، ويستدعي كل معاني الثورة والتمرد والمواجهة والوعي الممكن. ولأن اليقظة، لغة واصطلاحاً، وبشهادة الحاضر والماضي، فعل واقع لا ريب فيه، فإن المسرحية تستميل قراءها منذ استهلالها إلى توقع هذه اليقظة الموعودة وانتظار تحققها. وعلى هذا الأساس يسارع القارئ إلى التهام لوحاتها الشعرية، أو فصولها الثمانية تلبية لنداء العنوان هذا. أما لفظ “الزنج” فسيخصص معاني اليقظة العامة والمحتملة، ويحدد مجالها الدلالي. وبذلك يوحي المركب الاسمي منذ الوهلة الأولى بحدث بعينه محدد في الزمان والمكان. فالنص، كما أكد إبراهيم عمري ليس من طينة النصوص المنصاعة التي تبوح بمكنوناتها مع القراءة الأولى خاصة إذا كانت ماسحة ومتعجلة، بل إنه مسنن يجبرنا على معاودة الكرة، وفك شفراته حتى نظفر منه ببعض الإشراقات الكامنة بين أبياته وسطوره.
إن استحضار ثمانينيات القرن الماضي، زمن كتابة المسرحية، وهو الفترة التي تفنن خلالها الأفارقة السود في ابتكار أشكال التعبير النضالية أمام آلة الأبارتايد العنصرية، سيسهل على القارئ تلمس روافد أخرى غذّت إحساس المؤلف بمعاناة فئات المستضعفين المجهولين عبر العصور قبل زعمائهم المعلومين. لكن يقظة لا تستعيد الرموز والأيقونات التاريخية، بقدر ما تحتفي برجال ونساء هذه الثورات الذين سقطوا من كتب التاريخ، فأعادت لهم أصواتهم وجعلتهم يعيشون حياة ثانية.
إن هذه المسرحية تؤرخ ليقظة الوعي، وترصد صحوة العقل باعتبارهما السبيل الوحيد نحو تغيير الواقع. وقد نجحت في تشخيص هذه اليقظة مسرحياً عبر محطتين انتقاليتين تؤطران صيرورة تحول الشخصيات وصراعها الوجودي: انتقال أول من اكتفائها بالحلم إلى مرحلة تحكيم العقل، وانتقال ثان يمثله شروعها في الفعل. ولما كان المسرح فنَّ الصراع الذي بدأ عمودياً في أصوله الإغريقية بين الإنسان والآلهة، فإن مآلاته ونتائجَة في “يقظة الزنج” ستتكشّفان من خلال ثلاثة تحولات مست مستويات الموقع والكينونة والموقف.
• المستوى الأول طال وعي الشخصيات ومواقفها ورؤيتها.
• المستوى الثاني طال مواقع الشخصيات الثائرة على الركح، وفي أثنائه تشتغل الإنارة المسرحية بصريا على نحو رمزي.
• المستوى الثالث وينفذ إلى مستوى هوية هذه الشخصيات وكينونتها، وفيه تنسلخ هذه بالتتابع من نعوت مسيئة لها، وأوصاف حاطة من قيمتها وكرامتها، لتحمل بعد انعتاقها وتحررها أسماء تعيدها إلى آدميتها ووضعها الإنساني.
تتظافر هذه المستويات الثلاثة وتتكامل في ما بينها لتقود جموع العبيد الثوار إلى التمرد والمواجهة وإلى ثورة اجتماعية بعد اختمار شروطها، ثم تتعاظم وتتنامي مع تراجع الخوف والفرقة، وتخلق وعيا جماعيا يلوح في الأفق، وهنا ستنتهي المسرحية على نحو ساخر مفارق. وتتجلى المفارقة في أحد أبلغ المشاهد التي تنقلب فيها الأدوار والمواقف، ليصبح العبيد أسياداً والأسياد عبيداً.
وختم إبراهيم عمري مداخلته بالتنبيه إلى أن المؤلف محمد الزروالي يمنح بهذا العمل صوتاً لمن لا صوت لهم، ويعيد الاعتبار لكل أولائك المنسيين المحرمين عمداً أو سهواً من شرف الانتماء إلى زمرة صناع الثورات العابرين للحضارات والأمم. ومن هذا المنظور يدعونا النص إلى اعتبار معنى عنوان “يقظة الزنج” في بعده الرمزي، أي بصفته جزءاً يراد به الكل. فنحن لسنا بصدد نص مسرحي تاريخي بحصر المعنى يكرس عبارة “ليس في الإمكان أحسن مما كان”، الرافضة لكل تغيير، ولا يتعلق الأمر أيضاً بنزوع شعري عابر يعلي من شأن اللفظ وسبك التعبير على حساب المعنى والموقف، بل برؤية متكاملة لكتابات الزروالي في الزجل والمسرح، نابعة من إيمان عميق بضرورة الانتصار للإنسان بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو انتمائه أو عصره أو مرتبته الاجتماعية.
وبعد ذلك تناول الكلمة المبدع الزجال والمسرحي محمد الزروالي ليقف عند بعض محطات حياته الإبداعية الزاخرة بالأحداث والتجارب والأسرار التي كانت سبباً وراء إقباله على الكتابة في هذه الأجناس الإبداعية المستعصية، ليهدي في الأخير بعض نصوصه المطبوعة خارج المغرب للحضور، قبل أن تتدخل مديرة دار الفتاة منوهة بهذه المباردة التي تجمع في لحظات نادرة ومميزة الجامعة بما هي فضاء أكاديمي بالإبداع الأدبي وتلميذات وطالبات دار الفتاة، وهو اللقاء الذي تمنت أن يتكرر في القادم من الأيام.

Related posts

Top