بين الإصلاح والتجميل.. هل يكفي تعديل الأسماء لإنقاذ الحكومة؟

في الآونة الأخيرة، تصاعد النقاش في الأوساط السياسية والإعلامية المغربية حول إمكانية إجراء تعديل حكومي، وعلى الرغم من غياب أي إعلان رسمي حتى اللحظة(**)، فإن هذه الأحاديث تعكس حالة من الترقب والاستعداد لخطوة قد تعيد تشكيل المشهد السياسي، وتدفعنا كمهتمين وباحثين إلى التساؤل: هل هذا التعديل الحكومي سيكون مجرد إجراء تجميلي يهدف إلى تبديل بعض الأسماء على رأس بعض القطاعات الوزارية، أم ضرورة لإعادة صياغة شاملة للبرامج والسياسات الحكومية؟

ويأتي هذا النقاش في سياق اقتصادي واجتماعي معقد. فرغم التوقعات بحدوث نمو اقتصادي بنسب متواضعة، إلا أنه يعاني من ضغوط حادة بفعل استمرار الجفاف وتأثيراته على القطاع الفلاحي الذي يعتبر من أعمدة الاقتصاد الوطني. إلى جانب تأثر البلاد بتقلبات السوق العالمية، وارتفاع معدلات التضخم، وغلاء المعيشة الذي أرهق الطبقات الوسطى والفقيرة، وهي عوامل تراكمت لتولد حالة من عدم الرضا الشعبي تجاه الأداء الحكومي، إذ يلاحظ المواطن المغربي أن الوعود الانتخابية التي حملتها الحكومة لم تترجم إلى سياسات فعلية ملموسة على أرض الواقع.

إن الشعور المتزايد بالإحباط ينعكس في ردود فعل الشارع المغربي، التي تتنوع بين النقد اللاذع للحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي والتعبير عن الاستياء من تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما عمق الفجوة بين ما تروج له الحكومة وما يعانيه الشعب، أو بين ما تعتبره الحكومة حلا للأزمة وما يتطلع إليه المواطن. فتبديل بعض الشخصيات في الحكومة قد يمنح مظهرا جديدا لها، لكنه يظل حلا جزئيا في غياب رؤية استراتيجية شاملة تعيد صياغة السياسات الحكومية بما يتماشى مع التطلعات الشعبية. فالنظر إلى تاريخ التعديلات الحكومية في المغرب، والتي في الغالب ما كانت تحدث وسط الولاية الحكومية، وضحت بالملموس أن تبديل الأسماء لم يكن كافيا للتصدي للأزمات الجوهرية التي تتفاقم. وهذا ما يطرح تساؤلا حول جدوى الحلول الجزئية أمام تعقيد المشكلات التي يواجهها المغرب، والتي تحتاج إلى إصلاحات هيكلية تتجاوز الأشخاص نحو السياسات. من جهة أخرى، فإن إحداث تعديل حكومي لن يكون أكثر من مجرد “إعادة ترتيب للكراسي”، دون أن يحقق تغييرات حقيقية في السياسات. فالرهان الحقيقي لا يكمن في الوجوه الجديدة بل في إعادة النظر في المنظومة السياسية برمتها، بحيث يتم التركيز على القضايا الجوهرية التي تهم المواطنين، مثل الصحة والتعليم والتشغيل.

وإذا كان تعديل الأشخاص لوحده لا يكفي، فإن المطلوب اليوم هو إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطن. وهذه الثقة لن تتحقق بتبديل الوجوه بل بخلق برامج وسياسات واقعية تعتمد على مشاركة أوسع للأطراف المعنية. ومن ثم، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه المغرب لا يتمثل في مجرد تعديل حكومي، بل في مدى قدرة الدولة على إحداث تحول حقيقي في طريقة إدارة الملفات والأولويات، عبر اعتماد مقاربة شاملة ترتكز على الشفافية والمساءلة والفعالية. كما ينبغي، أن تكون هناك رؤية واضحة حول الأولويات الوطنية، تتجاوز الشخصيات إلى الأبعاد الهيكلية والاقتصادية والاجتماعية. مع تعزيز كفاءة الإدارة العمومية، من خلال تبني أساليب حديثة في الإدارة والتخطيط، واستغلال التكنولوجيا الرقمية لتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين. إلى جانب إعادة النظر في كيفية إدارة الحوار الوطني، بحيث يتجاوز نطاقه الفعاليات الشكلية إلى حوارات حقيقية تستند إلى احترام آراء المواطنين ومطالبهم.

البروفايل الوزاري… صعوبة التوفيق بين الكفاءة المهنية وسلم الترتيب الهرمي داخل الحزب

عادة ما ينظر إلى الحكومة على أنها انعكاس لموازين القوى داخل التحالف الحزبي الحاكم، حيث يسعى كل حزب إلى ضمان حصوله على تمثيل وزاري يتماشى مع ثقله الانتخابي. والغالب أن هذا التوجه يتعارض أحيانا مع الحاجة إلى تعيين كفاءات عالية في المناصب الوزارية. إذ ليس من السهل دائما إيجاد الشخصيات التي تجمع بين الكفاءة المهنية والقدرة على الانسجام مع قواعد اللعبة السياسية والحزبية، وهو ما يجعل التوفيق بين هذين العاملين تحديا حقيقيا في تشكيل الحكومة. فعلى سبيل المثال، قد يجد الحزب نفسه مضطرا لاختيار شخصيات بناء على الولاء والتدرج التنظيمي داخل الحزب (سياسة إرضاء الخواطر)، حتى وإن لم تكن لديهم الخبرة الكافية في القطاع الذي سيتولونه، وهو ما يؤدي إلى تعيين وزراء يفتقرون أحيانا إلى الدراية العميقة بالملفات التي يشرفون عليها. إلى جانب ذلك، فإن الولاء الحزبي قد يكون سلاحا ذا حدين. فمن جهة، يضمن للحزب سيطرة أفضل على وزرائه وتناغما سياسيا أكبر. ومن جهة أخرى، قد يؤدي إلى تقييد الكفاءة والإبداع، خاصة إذا ما تم إقصاء الشخصيات المستقلة أو غير الحزبية التي تمتلك خبرة تقنية عالية، لكنها لا تتناسب مع الحسابات الحزبية الضيقة. وبالتالي، فإن التساؤل الرئيسي الذي يطرحه هذا التوجه: هل يمكن تحقيق توازن حقيقي بين الكفاءة المهنية للوزراء وسلم الترتيب الهرمي داخل الأحزاب؟ أم أن المحاصصة الحزبية ستظل عائقا أمام استقدام الكفاءات، مما يؤثر على جودة التدبير الحكومي ويحد من قدرته على تلبية تطلعات المواطنين؟

في سياق التحولات السياسية التي عاشها المغرب منذ الاستقلال، تظل إشكالية التوفيق بين تعيين الكفاءات الوزارية وإرضاء التوازنات الحزبية دائما قائمة. فكلما تم الحديث عن تعديل حكومي، يبرز النقاش حول مدى قدرة الأحزاب على تقديم وزراء يتمتعون بالكفاءة المطلوبة لتسيير القطاعات الحساسة، ومدى انعكاس تلك التعيينات على الأداء الحكومي. فعلى مدى السنوات الماضية، عكست تركيبة الحكومات المغربية المتعاقبة أبعادا متعددة لهذا التوتر. فالحكومة، بوصفها تجسيدا للتحالفات السياسية، باتت تمثل مزيجا معقدا بين القوى الحزبية، التي تسعى إلى توطيد سلطتها من خلال فرض شخصيات قريبة منها، وبين الضغوط المتزايدة من الشارع والنخب بضرورة الاعتماد على الكفاءات القادرة على إنقاذ القطاعات المتعثرة.

إن التحدي الحقيقي في هذا الإطار يكمن في أن العديد من الأحزاب تتعامل مع المناصب الوزارية كمكافأة على الولاء الحزبي أو التدرج داخل التنظيم، بدلا من التعامل معها كفرصة لتعزيز الكفاءة وتطوير أداء القطاعات. ففي حالات عدة، يتم تفضيل الشخصيات التي تملك علاقات قوية داخل الحزب حتى لو كانت خبرتها ضعيفة في المجال الموكل إليها، وهذا الأمر يطرح تساؤلا حقيقيا حول أولويات الأحزاب ومدى التزامها بتحقيق المصلحة العامة بدلا من تعزيز نفوذها الداخلي.

التوازن بين السياسة والتكنوقراطية

أحد الحلول التي طرحت في التجارب الحكومية السابقة كان اللجوء إلى “التكنوقراط”، حيث يتم تعيين شخصيات غير منتمية سياسيا لكن تمتلك كفاءات تقنية عالية. وهو حل رغم فعاليته الجزئية، لم يكن خاليا من بعض المشكلات. فقد تسببت هذه الخطوة في حدوث تصادمات بين الوزراء التكنوقراط والأحزاب السياسية التي رأت في هذا النهج تهميشا لدورها في صناعة القرار .ومن الأمثلة على ذلك تجربة حكومات مثل حكومة إدريس جطو (2002-2007) التي ضمت عددا كبيرا من التكنوقراط، لكنها واجهت تحديات في التنسيق بين الوزراء المستقلين والأحزاب المكونة للحكومة، مما أثر على فعالية تنفيذ البرنامج الحكومي. وما زال السؤال قائما: هل يمكن للحكومة تحقيق التوازن بين التكنوقراطية والسياسة دون التضحية بأي منهما؟

وفي سياق الحديث عن التوازن بين السياسة والتكنوقراطية في المغرب، تبرز ظاهرة “تحزيب الكفاءات” كجزء من الديناميكية السياسية الجديدة. وقد تجلى هذا التحزيب بشكل واضح في تجربة الحكومة الحالية، إذ تم تعيين مجموعة من الوزراء الذين لم يكونوا جزءا من التنظيم الحزبي، ومع ذلك تم تقديمهم باسم الحزب كواجهة للحكومة. ورغم أن هذا التوجه قد يرى كخطوة نحو تعزيز الكفاءة في الحكومة، إلا أنه يثير تساؤلات حول مدى قدرة هذه الشخصيات على الانسجام مع الآليات الحزبية. إذ أن التحزيب في هذه الحالة يصبح أكثر من مجرد انتماء تنظيمي، بل يتعلق بإضفاء “شرعية سياسية” على شخصيات تكنوقراطية عبر تبنيها من طرف الحزب. فعلى سبيل المثال، هناك وزراء حاليون في الحكومة لا ينتمون إلى تاريخ تنظيمي طويل في الحزب، ورغم ذلك يتم تقديمهم تحت مظلته وكأنهم جزء منه. وهي تجربة تأتي كحل وسط بين متطلبات الولاء الحزبي والكفاءة المهنية، لكنها قد تثير توترات داخلية بين قواعد الأحزاب وبين الشخصيات الجديدة التي لا تحمل الإرث السياسي نفسه.

إن إشكالية تحزيب الكفاءات تكمن في احتمال خلق “ازدواجية في الولاء”. فمن جهة، يتوقع من هؤلاء الوزراء خدمة المصالح الحزبية واتباع نهج الحكومة في سياستها. ومن جهة أخرى، يتمتعون بخلفية تكنوقراطية قد تدفعهم نحو اتخاذ قرارات أكثر استقلالية بناء على خبراتهم الشخصية. وهو ما يخلق إشكالية في انسجام الفريق الحكومي ويضع تحديات إضافية على مستوى التنسيق بين الشخصيات الحزبية والشخصيات المستقلة التي تم تحزيبها لأغراض حكومية.

وإجمالا، فالنقاش حول التعديل الحكومي في المغرب ليس جديدا، لكنه يظل مرتبطا بتساؤل أعمق حول مدى التزام الأحزاب بتحقيق التحول النوعي الذي ينتظره المغاربة. ففي ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة، يتعين على الحكومة أن تتجاوز تعيين الوجوه الجديدة، نحو بناء هيكل حكومي قائم على الكفاءة، الشفافية، والمساءلة. لأن مفتاح النجاح الحكومي في المغرب لن يتحقق بتغيير الأسماء فحسب، بل بخلق منظومة سياسية أكثر انفتاحا على الخبرات، دون التضحية بمتطلبات اللعبة الديمقراطية.

بقلم: محسن الأجرومي

باحث في القانون العام والعلوم السياسية

** ملاحظة: وجب التنويه بأن هذا المقال كتب قبل إعلان إجراء التعديل الحكومي أول أمس الأربعاء 23 أكتوبر 2024. (المحرر/ بيان اليوم)

Top