صناعة السياسات العمومية أمام الغموض السياسي

إذا كانت الدراسات الكلاسيكية في مجال السياسة الأمريكية قد اهتمت بالسلوك السياسي، (comportement politique)، فان الدراسات الحديثة في هذا المجال، اهتمت بالتدبير العام management publique))، نجد التطور المهم الذي عرفه هذا التخصص العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الستينات، والذي تأسس أثرها على مفهوم الحكومة، حيث أن أعمال هيجل وماكس فيبر وكارل ماكس ظلت مهيمنة على البحث داخل أوروبا حيث انطلقت السياسات العامة من مفهوم الدولة، أي المؤسسة التي تهيمن على الجميع(1).

هذه الوضعية، تفسر الغموض الذي عرفته السياسات العامة في علاقتها بالسياسات العمومية، بعد أن عرفت السياسات العمومية صعوبات كبيرة لتجد لها موطئ قدم في فرنسا لدى جماعة من العلماء لهم معرفة قانونية وفلسفية بالدولة لذلك فان التقارب بين التقليديين الأنكلوسكسوني والأوروبي، هو الذي سمح بطرح السؤال الصحيح حول السياسات العامة من خلال التمييز الكلاسيكي بين السياسات العمومية كبرنامج عمل Policy، والسياسات العامة كنشاط عام olitics ضمن مراحل تبلور تبقى خاضعة لتدافع سياسي يحاول إدماج الانتظارات المتناقضة  داخل سيرورة تقديم الجواب على المشاكل العامة، على الرغم من أن هذا الاستنتاج يختلف حسب الأزمنة والدول، وبالنظر كذلك لطبيعة الأنظمة السياسية ومستوى دمقرطتها، فالسياسات العامة تعد مدخلا رئيسيا لفهم الديمقراطية في حالة فعل.

كما أن هذا الاختلاف بين مدى مساهمة الجهاز الإداري في صياغة السياسة العامة، والتمييز بين ما يعتبر مجالا للسياسات العامة من جهة وللسياسات العمومية من جهة أخرى، فإذا كان من الطبيعي ان يشارك هذا في هذه الصياغة، فإن دوره ووزن مشاركته يختلف أيضا من نظام سياسي إلى آخر، فالدور الذي في الدول النامية أكبر نسبيا من دوره في الدول المتقدمة (2).

إن ما يميز مجال السياسات العمومية محددات ارتباطه بحقل علم الاجتماع السياسي هو سعيها الدائم إلى الدولة انطلاقا مما يصدر عنها من أفعال وأعمال، أي من خلال ما تحدثه من تغيير وآثار على حياة الناس خاصة مع ذلك الجديد الذي أتت به الثورة السلوكية في حقل العلوم الإنسانية وكذلك الفكرة التي يراد التأسيس لها الدور الجديد للدولة، وهو الذي باتت تمليه ظروف المرحلة الراهنة وتوسع مجال تدخلها ليشمل قضايا أوسع تندرج في نطاقها قضايا مثل البيئة، الأسرة.

يعد تدخل الدولة محورا لتخفيف الأمن والدفاع عن السيادة الوطنية، وهو ما جعل برنامج الحكومة للسياسة العمومية يتسع ليشمل مجالات كانت بعيدة كل البعد عن اهتمام رجل السياسة.

لقد ساعدت السياسات العامة ضمن المنظور الجديد لعلم الاجتماع السياسي والذي ظهر بصيغته الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع القرن العشرين باعتباره علما جديدا مستقلا عن هذا التراث، يعطي الأولوية الأمبريقية والاستقراء والجمع الممنهج للمعطيات، وتجريب الفرضيات على المعطيات على عجز السياسة بمفهومها الكلاسيكي، أسبابه عوض الاقتصار كما كان في السابق على الدراسات الوضعية للمؤسسات والنصوص أو تقديم افتراضات حول الشأن السياسي لا تتأسس على تجميع ممنهج للمعطيات المادية فقط، وهو في هذه الصيغة غير المسبوقة يقترب من شروط العلوم البحثة، إلى قوانين حول السلوك السياسي تسمح ليس فقط بمعرفة حقيقة السلوك في الحاضر، بل وقادرة أيضا على التنبؤ بمستقبل هذا السلوك.

من هنا تظهر أهمية العلاقة التفاعلية التي تجمع السياسة بالسياسات العامة، ولا تستدعي تفكيرا علميا تفكيكا تحليليا ينظر إلى المكونات المفاهيمية باعتبارها وحدات تتميز بخصوصيتها من جهة ونمطا تفاعليا يسمح حسب مفهوم المنظومة بالتفكير بالسياسة التي تقوم بطريقة مميزة بين السياسة والسياسات العامة في علاقة بالسياسة، تطرح إشكالا حقيقيا عبر عنه “فيليب برو” متسائلا: هل من السهل على السياسي بلوغ تعريف لا يكون تعسفيا بشكل مفرط ؟(3).

إن صعوبة الجواب حسب “برو” تعود للميوعة الدلالية غير العادية لكل من politique الذي يدل الاشتقاق اليوناني على أنها: “ما يمس المدينة la cite  من خلال التوسع فيما يتعلق بحكم المجموعة، لكن خارج نطاق هذا التثبيت، تنتقل كلمة سياسة لتحمل دلالات متنوعة للغاية، وتدخل كلمة سياسي كصفة في سلسلة من التعارضات والتناقضات: إقرار سياسي /قرار سياسي/ قرار تقني/ مؤسسة سياسية/ مؤسسة إدارية/ الحل السياسي/ الحل العسكري/ أو بصفة أوسع، الكل القائم على القوة، تظهر مجموعة من الاستعمالات والتعابير التي تصل إلى نشاط متخصص أو إلى القادة جماعة عامة، أو بشكل خاص للدول….. تعمل الكلمة المؤنث سواء في اللغة العربية أو في اللغة العلمية، ويمكن أن نستعرض هنا مختلف الدلالات العلمية(4):

– السياسي كحيز رمزي للتنافس بين المترشحين لتمثيل الشعب (الدخول في السياسة)؛

– السياسة كنشاط متخصص؛

– السياسة كخط سلوك، أي كسلسلة مواقف متخذة وسلسلة متماسكة من أعمال وتصرفات (السياسة الحكومية)

– سياسة عامة… المعنى السابق، وتعني هنا النشاط المعتمد المطبق على موضوع خاص (السياسة الصحية، السياسة البيئية…)

وبالذكر يستعمل الموصوف على نطاق أضيق حيث يبقى وفقا بشكل خاص على الأدب العلمي فـle politic  يحيل إلى الميدان الاجتماعي الذي تهيمن عليه صراعات المصالح الذي تنظمه سلطة محتكرة وهي تغزها للقهر الشرعي وهذا التعريف المستوحى من الفيبري يسمح بإدخال موضوع علم الاجتماع السياسي مباشرة”، ضمن حقل معارف ومدارك السياسات العامة باعتبار أن مختلف مراحل تشكلها تتضمن وبشكل أكيد صراعات المصالح التي تدفع إلى بنائها توافقات أو توازنات خفية أو مرئية، وتجعل من اعتماد علم الاجتماع السياسي وفق هذا المنظور الجديد مسالة أساسية لفهم العلاقة بين السياسة العامة والسياسة بما يسمح بالتفرقة بين السياسة العمومية باعتبارها برنامج عمل programme d’action)) والسياسات العامة كنشاط عام politics)) عبر ربط السياستين بالتحولات العميقة في أدوار ووظائف الدولة التي فرضتها الانعطافات المدنية الحديثة، التي فرضها التحول من المحدد الترابي le déterminant territorial)) كمحدد رئيسي في منح الانتماء للأفراد، إلى محدد يقوم على الهوية المهنية identité professionnelle))، وكذا بالتعارضات القائمة بين  القرار السياسي والقرار التقني وبين المؤسسة السياسية وبين المؤسسة الإدارية بما يحدده مجال التماس بإمكانيات ضعيفة لفهم التقاطعات التي تجمع بينهما(5).

إن فهم مسار تشكل السياسات العامة يستدعي الأخذ بعين الاعتبار أنها ليست مجرد عملية لصنع القرار، يمكن فهم دواعيها وأسبابها فقط بالمحددات البنيوية او الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية… فقط، بل الأمر يستدعي أكثر من ذلك عبر فتح العلبة السوداء la boite noir)) بما يعني تحديد المتدخلين والمشاركين في تحليل السياسة من أجل فهم استراتيجياتهم وفهم الدوافع الحقيقية الموجهة لاتفاقاتهم، وبالتالي تنكشف القوة الحقيقية للمعطى السياسي ودوره في التأثير على عملية صنع السياسات العامة بما يوفره فضاؤه العام كمجال للصراع حول السلطة، أو فقط المشاركة فيها (الحالة المغربية) من إمكانيات لفهم السلوك السياسي من خلال قدرته على قيادة مهمة أولى تنصب على هدم الصورة التي يحاول الفاعلون إعطاءها على أنفسهم عبر القوانين المزعومة في صناعة السياسات العامة، ليتم الانتقال بعد ذلك إلى تعقيدات شبكات الفاعلين المشاركين في الفعل العمومي حسب تعبير “بير ميلر”. في حين أن حقل السياسات العامة داخل الاصطلاح الإداري هو المفهوم الوصفي descriptive)) لحقيقة الفعل العمومي، فمفهوم الإداري ضمن هذا الحقل، يعبر عن طرق عمل الدولة الحديثة وعقلنة نماذج الحكم وخاصة ضمن نماذج الفعل البيروقراطي، والنماذج الحديثة لتطوير السياسات العامة وقواعد الضبط الإداري عبر وسائل عملها (الموارد المالية، البشرية، والفكرية والتنظيمية…) فبدون إدارة يبقى العمل العمومي أو العمل الحكومي مبهما incertain)) وهشا fragile)). في حين وظفت العديد من الدراسات، وخاصة  في إطار أعمال مركز سيسيولوجيا أعمال (كروزي crozier مثلا)، على أن التأثير المتزايد لرجال الإدارة والأجهزة في المجال السياسي، حول النظام الإداري إلى نظام للسلطة قائم بذاته على الكفاءة والخبرة والتخصص في إدارة الشؤون العامة، حيث تمنح الاحترافية شرعية خاصة تعتمد على امتلاك المعرفة بتطور وتعقد المشاكل. فالسياسات كما كتب “كودناو coodnow” ترتبط بصياغة إدارة الحكومة بتحكيم القيم عند المفاضلة بين ما ينبغي أن تقوم به الحكومة أو ما تمتنع عن القيام به الإرادة من خلال سلطها التنفيذية والتنظيمية من خلال إدارتها التي تتكلف بها هذه الإدارة وتنفيذ القرارات الصادرة عن سلطة الدولة، ما هو وليس ما يجب أن يكون، والبحث عن الوسائل الكفيلة أو الطريقة الأحسن لتنفيذ السياسات العامة(6).

إن السياسات العامة على هذا المستوى تصبح بحثا عن تحقيق المشروعية العقلانية، بغاية بلوغ الفعالية، من خلال منطق عمل مبني على الأرقام والمعطيات التي تشكل أحد المرجعيات الأساسية والمهمة في تشكيل الفعل العام، وتبرير المبررات والدوافع وراء قيام سياسة عامة عبر تشكلها كسندات لمدخلات النظام، أو ارتدادها رجعيا كمخرجات لذات النظام، إنها المعنى الذي أعطاه “ماكس فيبر” تعبير عن قدرة سلطات المكاتب على جعل نظامها القيمي من طرف باقي المكونات الاجتماعية الأخرى من خلال خلق الاعتقاد أنها في مصلحة الجميع.

ويحدد جون كلود توين jean cloud thoenig)) خمسة عناصر مكونة للسياسة العامة وهي:

– السياسة العامة مكونة من مجموعة من الإجراءات الملموسة التي تحدد مستوى للسياسة العامة.

– تتكون كذلك من قرارات وأشكال منح الموارد مع حضور الإكراه سواء كان ظاهرا أو غير ظاهر؛

– السياسات العامة تتخذ في إطار عام للعمل وهذا ما يميزها عن مجرد إجراءات؛

– السياسات العامة تحدد مبدئيا أهدافها التي ترمي للوصول إليها حسب معاييرها وقيمها.

وهكذا فإن السياسات العامة لها صبغة كبرى في تغيير المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من خلال سياسات عمومية، سواء كان مصدر هذه السياسة الحكومة أو أي جهاز آخر، وهكذا فالسياسة العامة تتخذ رسميا باسم جهاز الدولة، فإن لهذا الاعتبار تبعات مهمة وأساسية، وهذا ما يمنح للسياسات العامة مميزات خاصة تنفرد بها وتعطيها أهمية بالغة.

فالسياسة العامة تعبر منطقيا وافتراضيا على الأقل على المصلحة العامة، ثم إنها في إطار محدد مسبقا من المشروعية، ومن المفترض أن تعبر السياسة العامة عن درجة محترمة من الانسجام، وأخيرا فإن ضخامة فعل السياسة العامة وخطورة المصالح التي تمسها تتطلب شكلا كبيرا من التوقعية لكي لا تؤدي السياسة العامة إلى إثارة آثار عكسية غير مرغوب فيها، فإن دور الدولة يقوم على خدمة المصلحة العامة، والسياسة العامة هي التي تترجم عمليا المصلحة العامة التي تخدم جمهور المواطنين، إلا أن الاطلاع على الكثير من السياسات العامة يجعلها نسبية، رغم أنها تعتبر ضرورية في المراحل الأولى لتخطيط برامج السياسات العامة، ولكن المقصود منها هو أن السياسة العامة عند إفرازها يجب أن تخدم عموم المواطنين الذين يحتاجون إلى المصلحة، لإشباع احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية. ولعل النموذج الأمريكي لا يجد حرجا في اعتبار سعي مجموعة المصالح للتأثير في صناعة وإفراز سياسات تستجيب لمصالحها، ولكنها تتخذ باسم جهاز الدولة الذي يفترض فيها احترام المصلحة العامة(7).

وبما أن المشروعية تتطلب إقرار السياسات العامة من إنتاج ترسانة من القرارات والتي تترجم الأهداف إلى إجراءات ملموسة، لذلك كان ضروريا أن يحترم تدخل السياسات المشروعية القانونية، لأنها لابد من أن تحترم الإطار العام الذي تجري فيه، فالدستور بالبلاد إذا كان يحمي الملكية الخاصة، فإن سياسة التأميم تعتبر لاغية رغم إقرارها من طرف الدولة، فاحترام المشروعية من المميزات الأساسية لسن السياسة العامة، وعادة ما يقوم جهاز حكومي بإعداد دراسات قانونية تؤطر كل سياسة عامة تعتزم الدولة إقرارها، وتشير بذلك إلى الحدود القانونية التي تحيط بكل قرار غير سليم يخرج عن نطاق المشروعية(8).

ثم ضرورة الانسجام في الفعل العام، فيعتبر معيبا أن يسن سياسة عمومية تمس بإحدى السياسات العامة الأخرى لأن ذلك سيؤدي إلى الارتباك وهدر الجهد والمال، خصوصا وأن هناك تداخلا منطقيا وواقعيا بين مجموعة من القطاعات التي يؤثر بعضها في بعض، فالزيادة في أسعار الطاقة يمس من قريب أسعار النقل العام والخاص، ويمس الكثير من القطاعات الحيوية لذلك فإن الانسجام مطلوب وأساسي سواء داخل بنية السياسة العامة أو خارجها.

المراجع والهوامش:

1- فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، مرجع سابق ص 16-17 شهادة الماستر، الجزائر، 2012، ص 20.

2- جيمس اندرسون صنع السياسات العامة، مرجع سابق 124.

3- نفسه

4- حول مفهوم المصلحة العامة في مدخل الى تحليل السياسات العامة، المركز العلمي للدراسات السياسية الطبعة الاولى، 2002، ص 26  

5- عبد الله شنفار، الفاعلون المحليون والسياسات العامة المحلية، مرجع سابق، ص 11- 12- 13.

6- الطايعي امبارك، البنيات الزراعية والبنيات الاجتماعية وافق الاستمرار والانقطاع في الواحات المغربية- واحة تافيلالت نموذجا.

7- مرجع سابق ص 124

8- مرجع سابق ص7

بقلم: عبد الواحد بلقصري

باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة

Related posts

Top