تضييع الفرص

أحيانا يصاب المرء بالأسى جراء تحول مبادرات أو قضايا وطنية كبرى إلى مجرد مواضيع للسجال الحزبي العقيم، ما يعرضها للنسيان، ومن ثم تضيع على بلادنا كثير فرص لتفعيل إصلاحات إستراتيجية جوهرية لفائدة شعبنا ومستقبله. النقاش مثلا حول لغات التدريس في منظومتنا التعليمية الوطنية تحول إلى ملاسنات واتهامات متبادلة أبعدتنا جميعا عن عمق المشكلة وأعمت كل الأنظار عن تأمل الأزمات الحقيقية والفظيعة لتعليمنا ولمستوى تلاميذنا ولخطورة كل ذلك على مستقبلهم وعلى مستقبل البلاد، ولكن كل هذا لن يعفينا من ضرورة وضع حد لمأساة نظامنا التكويني الذي تتخلله معضلات بنيوية خطيرة.
الحديث مؤخرا عن معاشات البرلمانيين والوزراء اكتسى طبيعة سطحية واستهدافية ولم يستثمر للانتقال بالكلام إلى مستوى المبادرة المؤسساتية الرامية لتفعيل إصلاح حقيقي.
السجال الحزبي والإعلامي الذي تابعناه في الشهور الأخيرة بشأن المادة30  وصندوق التنمية القروية بقي كذلك محصورا في الذوات ولم يتقدم نحو بناء مؤسساتي ينسجم مع مقتضيات وروح الدستور الحالي.
وحتى مراجعة قوانين الصحافة والنشر، رغم أن الحديث بشأن بعض نصوصها لا زال متواصلا، فقد طغى على مناقشاتها البرلمانية والإعلامية ووسط المهنيين دعم وزارة الاتصال لرواتب الصحفيين ولم يجر استثمار الفرصة لتفعيل حوار وطني حقيقي حول مستقبل قطاع الصحافة المكتوبة وواقع المقاولات الصحفية وسبل تطوير الممارسة ككل عبر مبادرات ملموسة وناجعة، والانتقال بصورة بلادنا على هذا المستوى إلى مراتب أحسن.
هي فقط أربعة أمثلة لا زالت حاضرة في بال الكثيرين منا يمكن تجديد التأمل فيها وفي مآلات النقاش الوطني حولها، ولكن يمكن إضافة نماذج أخرى غيرها.
منجزات حقيقية وإستراتيجية تحققت مثلا في قطاع الصحة خلال السنوات الأخيرة، وبدل تمتين اجماع وطني حولها والسعي الجماعي لتطوير آثارها الميدانية، فجأة تحول كل الانشغال الى موضوع العمل في المناطق النائية والإضرابات ذات الصِّلة وغرق الكثيرون في الضربات تحت الحزام للوزير وللحكومة وتوخي الإثارة على حساب التفكير في سبل تأمين التغطية الصحية وتخفيض سعر الأدوية والمستلزمات الطبية ومحاربة الفساد بالقطاع، وذلك بما يخدم مصالح أوسع فئات شعبنا بمختلف الجهات.
إصلاح القانون الجنائي وقطاع العدل برمته لم يفلت هو أيضا من الالتفافات القطاعية والفئوية الضيقة، وتسببت المُلاسنات وتبادل الاتهامات بين الأطراف في التوجه نحو التوافقات بدل الإصرار على ضرورة تفعيل تشريعات عصرية ومتقدمة تعزز دولة المؤسسات وقيم حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها كونيا.
النماذج المعروضة أعلاه ربما هي نتاج تأمل بسيط للواقع ولمجريات الأحداث كما نقلها الإعلام وتداولتها مناقشات السياسيين والبرلمانيين، وهي بالتأكيد تقتضي قراءة أخرى أكثر عمقا، ولكنها في كل الأحوال تكشف عن وجود سلوك سياسي وإعلامي غريب في مجتمعنا يصر على تضييع الفرص والنزول بمناقشة القضايا الجوهرية الكبرى إلى مستوياتها الدنيا وإفراغها من كامل محتواها والاكتفاء ببعدها السجالي والتلاسني، وبعد أن تبرد حرارة الصراخ تضيع كل هذه القضايا لتصير إصلاحات مؤجلة.
محصلة كل هذا الكلام، أن هذا السلوك لا يخدم مستقبل بلادنا ولا يتناسب مع إيقاع عالم اليوم وتحدياته.
لنغير عقلياتنا و… حساباتنا.

[email protected]

Top