هناك بعض الأدباء علينا أن نستخلص منهم العبر والدروس، بالنظر إلى أن مسارهم الإبداعي والفكري وتجربتهم الحياتية لم تكن عادية أو سطحية، وبلا شك أن الأديب السوري حنا مينة الذي وافته المنية قبل حوالي أسبوع يعد واحدا من هؤلاء.
لم يقف عجزه عن إتمام دراسته حائلا دون أن يثبت وجوده في ميدان الإبداع الأدبي، حيث أغنى المكتبة العربية بعشرات الروايات والقصص والمقالات الأدبية التي أكدت على جدارته في أن يتبوأ مكانة محترمة بين غيره من الأدباء المثقفين، وهذا بفضل مثابرته وإصراره على التعلم والتثقيف الذاتي.
عارك الحياة من أجل أن يؤمن لنفسه ولأسرته الصغيرة العيش الكريم، ولهذا اضطر إلى أن يزاول عدة مهن بسيطة، غير أن ذلك كان له إسهام كبير في إغناء مخياله بالعديد من الصور والوقائع المثيرة التي استطاع في ما بعد أن يوظفها في أعماله الروائية والقصصية بأسلوبه البسيط والأخاذ.
إن كتاباته تجسد بحق مقولة السهل الممتنع. ولا شك أن كل من حاول أن يقلده، فشل في أن يشكل خلفا له أو يعمل على تجاوزه.
هناك فعلا العديد من الأدباء الذين – مع مرور الزمن- صارت تجاربهم الإبداعية متجاوزة، غير أن تجربة حنا مينة ستظل خالدة بالنظر إلى أنها تجمع بين الموهبة والمعايشة الميدانية، فهو لم يكن يكتب من منطلق عكوفه في مكتبه أو في برجه العاجي، حسب التعبير المتداول، بل كان يخوض في الميدان، سافر كثيرا وسبر أغوار البحر وعايش البؤس والفقر واستأنس بالرعب والجوع مثلما خبر الجمال والحسن والعلاقات الإنسانية النادرة..
يخيل إلي أحيانا أنه في كل البيوت، بيوت العرب على الأقل، لا بد من أن نعثر على كتاب من كتبه أو أكثر، محشورا بين الرفوف، لا يرجع ذلك إلى أنه كان غزير الإنتاج، ولكن بالنظر إلى أنه استطاع أن يحقق معادلة صعبة، وهو أن يخاطب ويتجاوب مع مختلف الشرائح والمستويات؛ فكتبه يمكن أن يقرأها المثقف العالم بنفس المتعة التي يقرأ بها المواطن المحدود الثقافة، كما أنه يمكن للعجوز أن يقرأ كتاباته بنفس المستوى الذي يقرأ به الطفل البريء.
وشخصيا؛ فإن أولى الأعمال الروائية الحقيقية التي أقرأها في حياتي، كانت لهذا الأديب بالذات، وكان ذلك في سن مبكرة، في بداية المراهقة على الأرجح، وكانت الرواية بعنوان: المصابيح الزرق. استعرتها من مكتبة الإعدادية، وكان لها وقع السحر، غير أن حادثا مثيرا وقع لي بخصوص لقائي الأول بهذا الكتاب، يجدر بي أن أذكره، حيث منذ ذلك الحين، صرت أتعاطى للتدخين، ليس لأن شخوص الرواية كانوا مدخنين، ولكن بالنظر إلى أن غلاف هذا الإصدار بحد ذاته كان يتضمن صورة كبيرة للمؤلف وهو يمسك سيجارة بين شفتيه؛ فمن شدة تجاوبي وإعجابي بكتاباته، تأثرت حتى بسلوكه في ما يخص التدخين، وهنا لا بد من فتح قوس للقول إن على الناشرين وكذا المشرفين على البرامج التلفزية أو غير ذلك، أن يتجنبوا إظهار ضيوفهم وهم يدخنون أو يمارسون أي سلوك سلبي، اعتبارا لأن المتلقي المراهق كما في حالتي في ذلك الإبان، لا شك في أنه سيقتضي بسلوكهم.
برحيل حنا مينة، نكون قد افتقدنا كاتبا نادرا، يستحق الوقوف عند تجربته الأدبية والحياتية من طرف أجيال وأجيال، والاستفادة من دروسها وعبرها.
عبد العالي بركات