أغاني  تفتقد للروح واللمسة الإبداعية

مع إشراقة كل شمس تطلع علينا، تُبادرنا آلاف مؤلفة من الأغاني والموسيقى التي تُعكر علينا صفاء اللحظة الصباحية، مغنون يتبجحون بعبقريتهم الصوتية وتنويعات ألحانهم التي تواكب العصر، والحداثة، والأغنية الشبابية، والموضة، وغيرها من الملفوظات التي يهللون بها بشكل آلي يتحول معها الفن إلى مستنقع عفن للفاشلين والمتطفلين الذين ولجوه” صحَة”. عندما تدير مفتاح المذياع أو تفتح جهاز التلفاز وأنت تمرر أصبعك على زر آلة التحكم تصادف نعيقا متواصلا لا يتوقف أزيزه، نشاز من الكلمات والعبارات والألحان لاهي بالشرقية ولا  الغربية، تفتقد للروح واللمسة الإبداعية، وتسفه ذائقة جيل بأكمله من رخيص الكلم وسوقيه بدعوى الفن رسالة، والارتقاء بالأغنية، وشتان بين الرسالة والتفاهة، آنذاك يفور الدم في الرأس وتنتفض العروق بأغاني ل faste Food اللعينة التي تعلق بالأذهان كالجرثومة الخبيثة التي تأبى الاستئصال، وتؤبد لاكتساح الرداءة، والذوق المريض. لكم أعجب أشد العجب من رؤية وسماع مقطوعات تتراقص لها الأعناق وتتمايل معها الرؤوس في انتشاء وحركة شبه بلهاء… يستحيل معها المنطق جنونا، وتتطاير لها أبراج دماغك إن بقي سالما معافى في مكانه.

 إن ما يحز في النفس أن يكون في ثقافتنا وتراثنا ما يُغنينا للتعبير عن قضايانا وآمالنا وطموحاتنا ونتلمس ذلك ونتوسله في  معين ثقافات أخرى، يختفي معها طابعنا ويضيع معها درب الخصوصية والتفرد، فنصبح كحكاية الغراب الذي أراد محاكاة مشية الحمامة فتاه عن مشيته، إلى درجة غدت فيها الأغنية في مجملها  لازمة إيقاعية واحدة متكررة وبياضات يعُوزها القلم الإبداعي، أغنية أقل ما يقال عنها أنها ” أغنية معلبة ” بمواد حافظة سريعة التلف والنسيان، سرعان ما ينتهي مشوارها عند سلة المهملات لا في “ريبيرطوار” الخالدات. ولو قمنا بتشريح بسيط لمجمل مقاطعها لتكشف جسدها عاريا تدثره كلمات فقيرة تُرهق السمع. وإنه كذلك لمن الغرابة أن يكون الموسومُ فيهم بالدرجة الأولى تقديم برامج ثقافية تقوم بتلقي انحطاط الأغنية بنوع من الدراسة والاستقراء الجاد أن تتحول إلى مكرس للتفاهة الموسيقية، حتى أن بعض البرامج التلفزية أضحت بفعل طابعها التجاري والمادي الصرف تقوم باستقطاب أسماء تمتلك أكثر “الجيمات” في مواقع التواصل استجلابا للمنفعة وتحتفي بهم بدرجة فرسان الأغنية الحداثيين، في تجاهل تام لجيل الرواد الذين قدموا للأغنية بمعناها الملتزم والواعي بلا مقابل أو انتظار أجر يؤجرون عليه، والذين لا يتم استحضارهم إلا مرور الكرام ومن باب الترف المزيف. ولعل هذا الاندحار يحملنا على استحضار أوج الأغنية المغربية العصرية في خمسينيات القرن الماضي، وكيف أسهم تضافر الموسيقى التقليدية بشقيها الشعبي والأندلسي وكذا المشرقي في بذر بذور اتجاه إبداعي راقي ومتميز، إن على مستوى الكلمة أو اللحن لا زالت لحد الساعة تتردد على أفواه العديدين، وتعود بالذاكرة إلى حنين مُفتقد، فمن منا لا تُشنف أسماعه “راحلةّ، “كان يا مكان”، “يا بنت لمدينة”، “في قلبي جرح قديم”… ومن منا لا يأخذه الوجد لزمانات “علاش يا غزالي، وعلى غفلة، جريت وجاريت، آش داني… ولنتأمل مليا كيف أسهمت هذه الروافد في خلق حركية في الموسيقى المغربية لا لشيء إلا لأنها كانت تناشد القيم الإنسانية والرؤية العميقة للوجود وتخاطب في الإنسان إنسانيته اتجاه الكون والحياة والقضايا التي تلامس معيش المغاربة والواقع العربي. ذلك أننا لو نظرنا بنفس المقياس للأغنية المغربية الآنية وتفاعلها مع الموسيقى العربية والأجنبية فإننا نعدم تلك اللمسة الخلاقة ونلمس ذلك المظهر المفارق، ما يجعلنا نتساءل حول الدرجة المتدنية التي وصلت إليها ونستفهم كذلك عن الوضعية التي صحبها شحوب في مضامينها رغم ما يحيط بها من تيارات غنائية ؟ وكيف عجزت عن خلق طفرة حداثية تكون امتدادا لسابقتها والأسباب التي ساهمت في تجسير المسافة بين المرحلتين، غير أن نظرة بسيطة عن المنجز الغنائي المغربي كاف لاستبانة كيف غدت ضحلة الدلالة سقيمة الجسد تنزع إلى التغريب، والماركوتينغ، والصورة، والاستعراض، ومظاهر التمييع على حساب النص، والكلمة، واللحن، لقد أبانت الأغنية الحالية عن افتقار الكثيرين إلى النقد الفني والموسيقي وكذا انعدام التنخيل النقدي للإنتاج الفني مما أحال الفن الموسيقي إلى هيكل غاب فيه الهم الإنساني الصادق، ونتساءل كذلك إلى هذا الانجذاب إلى الدخيل الموسيقي وفي تراثنا ما يغنينا عن تمثل قيم الآخر في كلمته وموضته، ثم إننا لما نتحدث عن الدخيل كعنصر طارئ فإننا لا نقصد إلى تجذير شوفينية الأغنية المغربية فالتفاعل قدر حاصل ونتيجة حتمية شرط أن لا يحول هذا التلاقح إلى انسلاخ أغنيتنا من خصوصيتها وتُفرغ من تمثلاتها وتجنح إلى الابتذال والتسطيح، إننا هنا لسنا بصدد محاكمة أو استقراء مثالي جامع مانع للأغنية المغربية في كليتها فهناك بعض المحاولات للارتقاء بالأغنية والدفع بها لآفاق رحبة لكنها مع ذلك تظل مجهودات باهتة وسط كم هائل من العبث الفني.

بقلم: عزيزة بن حميد