الجفاف يزحف على واحات النخيل ويدفع بالساكنة نحو “الهجرة الإيكولوجية”

تشكل الواحات في الجنوب الشرقي للمغرب، أهمية كبيرة في توفير الموارد المائية والزراعية في المناطق الصحراوية، بيد أنها في السنوات الأخيرة، بدأت تواجه هي الأخرى تحديات عديدة، تتعلق أساسا بالإجهاد المائي، نتيجة التغيرات المناخية والاستخدام الزراعي المكثف والنمو السكاني.
وزارت جريدة بيان اليوم، مؤخرا، واحات إقليم زاكورة، ووقفت عند الوضع الصعب الذي يعيشه النخيل في هذه الظرفية الحرجة، خصوصا وأن منسوب المياه الجوفية الذي يغذي الآبار والأنهار هو الآخر انخفض بشكل واضح بل جف ببعض المراكز.
وأدى الإجهاد المائي بالمناطق شبه الصحراوية في زيادة معدلات التصحر وتدهور جودة التربة، مما يؤثر على الإنتاج الزراعي والحيواني في المناطق الواحية، التي يعتمد اقتصادها على هذه الأنشطة أساسا.
وأفرزت هذه العوامل، ارتفاع ظاهرة الحرائق في الواحات، حيث تدمر في كل مرة هذا التراث اللامادي لساكنة المناطق الواحية، ومن أجل تدبير أمثل يطالب الفلاحون بتوجيه اهتمام السياسات العمومية الفلاحية نحو توظيف التقنيات التكنولوجية في الاستخدام الفعال للمياه، وتحسين تقنيات الري الحديثة، وتشجيع ممارسات الزراعة المستدامة.
وكشف عبد الرحمان بنعمر الفاعل الجمعوي بتزارين إقليم زاكورة، أن وضع الساكنة المحلية بات جد صعب، بفعل تفاقم ظاهرة الجفاف في المنطقة، التي أدت إلى موت العديد من أشجار النخيل واللوز والتفاح.
وأوضح عبد الرحمان بنعمر في تصريح لجريدة بيان اليوم، أن الساكنة لا تفكر حاليا إلا في المياه الصالحة للشرب، تأمينا لظروف عيشها اليومي، موضحا أنها تنتظر طيلة النهار زيارة سائقي شاحنات الصهاريج المائية للمنطقة، في ظل جفاف الآبار، والخطارات.
وذكر بنعمر أنه يتم الانكباب حاليا “على جلب الماء من منطقة تبعد عنا بحوالي 50 كلم، لكن هذا المشروع مازال متأخرا نوعا ما، نظرا لعدم وجود بنية تحتية مسبقة لذلك، وهو ما سيصعب من حياة الساكنة خلال فصل الصيف”.
وأفاد الناشط الجمعوي أنه أقل ما يمكن أن يوصف به الوضع الفلاحي بالمنطقة، هو أنه “حرج لدرجة لا تتصور”، مشيرا إلى أن الصهاريج المائية التي توفرها السلطات المحلية بالكاد تكفي الساكنة المحلية، فبالأحرى يتم التفكير في سقي الزراعات الواحية بها.

الواحات والتحدي البيئي
من جهته، أبرز جمال أقشباب رئيس جمعية أصدقاء البيئة، أن زاكورة ونواحيها تواجه اليوم تحديا بيئيا كبيرا، يستأثر باهتمام الرأي العام المحلي والمجتمع المدني، يتمثل في العجز المائي بالواحات، بعد الخصاص الذي كنا نعرفه في هذه المادة الحيوية بالمنطقة.
وأوضح جمال أقشباب في تصريح لجريدة بيان اليوم، أن هذا العجز يرتبط بمجموعة من العوامل في مقدمتها سنوات الجفاف التي شهدها الإقليم منذ سنة 2015، حيث تراجعت التساقطات المطرية بشكل كبير، وأصبحت لا تتعدى 20 ملم في السنة، وهو ما ساهم في ارتفاع درجة الحرارة، التي تؤدي إلى تبخر المياه التي تراجعت بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ درعة.

وسجل الناشط الجمعوي أن ما زاد من تأزيم الوضع أكثر، هو التراخي والسماح بزراعات فلاحية دخيلة على المنطقة تستنزف المياه الجوفية بشكل مبالغ فيه، رغم أنها كانت مصدرا للماء الصالح للشرب.
وبلغة الأرقام، كانت تستهلك زراعة البطيخ الأحمر (الدلاح) بشكل سنوي، ما بين 10 إلى 15 مليون متر مكعب من الموارد الباطنية، ويرى جمال أقشباب أن هذا الوضع ساهم فيه غياب المراقبة بفعل الفراغ المؤسساتي في تدبير الشأن المائي، “قبل أن نصبح تابعين لوكالة الحوض المائي درعة واد نون التي أحدثت سنة 2019، الموكول لها التدبير والتقييم والتخطيط للموارد المائية بالمنطقة ومراقبتها، ولكن للأسف الشديد على مستوى إقليم زاكورة لا يوجد أطر وموظفين باستطاعتهم السهر على تدبير الشأن المائي وهو ما نجم عنه إطلاق العنان لحفر الآبار بشكل غير مسبوق”.
وكشف أقشباب أن ما يعاب على السلطات المحلية، هو انفرادها بتدبير ملف الماء، بدل إشراك فعاليات المجتمع المدني، لاتخاذ القرارات بشكل مشترك، مشددا على أن موضوع الماء يهم الجميع، ومن ثم يتطلب التشاور مع الفلاحين والساكنة والجمعيات وغيرهم.
وعاد رئيس جمعية أصدقاء البيئة بزاكورة، ليتحدث للجريدة عن دراسة كانت قد أنجزت حول المناطق الواحية بالمغرب، ما بين سنة 2000 و2006، تم إعدادها بشراكة بين مجموعة من المؤسسات الحكومية ومعهد ألماني، استعملت فيها وسائل جد متطورة من أجل تشخيص الوضعية المناخية داخل الواحات سواء تعلق الأمر بإقليم زاكورة، أو طاطا، أو الراشيدية وأقاليم أخرى.
وخلصت هذه الدراسة، وفق جمال أقشباب إلى أربع نتائج، فيما يخص مستقبل الواحات. “النتيجة الأولى أشارت إلى أن مناطق الواحات ستعرف ارتفاعا في درجات الحرارة ما بين 0.5 و1.5 درجة، خلال 30 سنة القادمة. أي ابتداء من سنة 2006 التي انتهت فيها الدراسة. ومعلوم أن ارتفاع درجة الحرارة لها انعكاسات على الموارد المائية”.
أما الخلاصة الثانية، أوضحت “أن مناطق الواحات ستشهد تراجعا كبيرا في التساقطات المطرية، والتي ستنتقل من 80 ملم إلى أقل من 20 ملم في السنة. وأكيد أن تراجع التساقطات المطرية له انعكاس على الموارد المائية، ووضعية النخيل والزراعات السقوية بالواحات”، على حد تعبير أقشباب.
واستنادا إلى المصدر ذاته، تحدثت الدراسة أيضا في نقطتها الثالثة إلى تغير الفصول وامتداد فصل الصيف على الفصول الأخرى، “وهو ما نشهده اليوم، حيث نلاحظ أن فصل الصيف أصبح يمتد لأزيد من تسعة أشهر في هذه المناطق”.
وأخيرا، النقطة الرابعة، تهم ارتفاع نسبة زحف الرمال، حيث توقعت انتقال التصحر من 200 هكتار إلى 1200 هكتار، وهو ما يحصل اليوم في هذه المناطق التي بدأت تغمرها الكثبان الرملية. وكل هذه النتائج التي خرجت بها الدراسة تبدو واضحة على أرض الواقع، وبالمناسبة كانت وزارة البيئة قد عرضتها في إطار يوم دراسي نظمته جمعية أصدقاء البيئة بزاكورة، يوضح جمال أقشباب.
وبيّن أقشباب أن هذه الدراسة وضعت سيناريوهات جد محدودة لإنقاذ الواحات، بداية بتدبير ندرة الموارد المائية، عبر توجيه هذه القلة من الماء إلى اتجاهين الأول نحو استهلاكه في الشرب، والثاني الاعتماد عليه في الزراعات الاستراتيجية التي هي النخيل، لكن بشكل عقلاني. محذرة من أن تبذير الماء بشكل لا يتناسب والقلة ستكون له نتائج وخيمة على أرض الواقع.
لكن الذي حصل بعد الدراسة، وفق رئيس جمعية أصدقاء البيئة بزاكورة، هو أنه خلال سنة 2014، ستعرف المنطقة أمطارا عاصفية مهمة، الجميع يتذكرها، أدت إلى تحقيق فائض في منسوب الماء، سواء تعلق الأمر بالمياه السطحية أو الجوفية.
وانعكست هذه التساقطات على مستوى حقينة سد المنصور الذهبي، التي تعدت 500 مليون متر مكعب، وعرف واد درعة جريان ماء دائم لأزيد من 8 أشهر، لكن للأسف تعاملنا مع هذه الموارد المائية بالتبذير، حيث كانت هناك طلقات لسد منصور الذهبي اتجاه الواحات التي تمتد على أزيد من 26 هكتار. وتمت هذه الطلقات على خمس دفعات، وكانت كل طلقة تقدر بما بين 40 و60 مليون متر مكعب، وهذا الحجم من المياه كان يغمر الحقول الواحية بشكل مبالغ فيه، أي أنه لا تتم الاستفادة منه بتاتا، يشرح المتحدث ذاته.
وكشف جمال أقشباب لبيان اليوم أن هذه الموارد المائية الكبيرة، وجهت لزراعة البطيخ الأحمر المستنزف لهذه المادة الحيوية، “أي أنه لم يتم تدبير هذا الفائض من الماء بالشكل المطلوب، وكنا لنستعمه في مثل هكذا خصاص وعجز مائي، وهنا يبرز سوء التدبير”.

الماء واستقرار الساكنة
ويشدد أقشباب في تصريحه للجريدة، أن إشكالية الماء تعتبر داخل جمعية أصدقاء البيئة بزاكورة، “أحد انشغالاتنا الكبرى. باعتبار أن الماء مادة استراتيجية مهمة في ضمان استقرار السكان بالمنطقة. من خلال نشاط زراعة النخيل والأشجار”.
وأفاد بأنه طالبت الجمعية “مرارا وتكرارا، في أيام دراسية مختلفة، وفي مؤتمرات وطنية متعددة، بحضور جميع الفاعلين في الشأن المائي والمجتمع المدني والفلاحين، بالحاجة إلى نهج سياسة مائية وفلاحية مندمجة ومستدامة، إلى جانب إصدار قرار عاملي بمنع زراعة البطيخ الأحمر، الذي يدمر البيئة الواحية بالإقليم، حيث لم يتم التفاعل مع هذا المطلب إلا مؤخرا”.
ويلاحظ أن قرار تقنين زراعة البطيخ الأحمر، لم يتم احترامه هذا الموسم، وفق رئيس جمعية أصدقاء البيئة بزاكورة، حيث انتشرت هذه الزراعة بشكل كبير، ووصلت إلى مرحلة تحقيق الفائض والتبذير، موضحا أن القرار نفسه صدر خلال هذه السنة، لكن لا ندري هل سيتم احترامه أم لا؟ لأننا لسنا في حاجة إلى التقنين بل المنع، لأن المنطقة تعاني بصدق من الجفاف، والواحات تدهورت أوضاعها، “وكما تعلم فإن النخيل في المنطقة تشكل موردا أساسيا للسكان، لهذا لا يمكننا تصور أن تصبح هذه الأشجار أطلالا ومقابرا شاهدة على مرحلة زمنية كانت جد خصبة. وما أود الإشارة إليه هو أن نسبة الفقر قد ارتفعت في المنطقة وهو يساهم في زيادة معدل هجرة الساكنة نحو باقي المدن المغربية الأخرى”.
ونبه أقشباب إلى أن هذا الوضع، ساهم في تفاقم ظاهرة الحرائق بالواحات. “وكل هذه المعطيات التي أتيت على ذكرها تستدعي منا التأمل فيها، ومحاولة معالجة الإشكال استنادا إلى وضع مخطط استراتيجي خاص بالواحات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، يراعي ويستحضر التغيرات المناخية والجفاف وعامل الندرة”.
وخلص رئيس جمعية أصدقاء البيئة، إلى أن المنطقة وصلت “لمرحلة الكارثة، من هنا يتطلب الوضع من الجميع، الاستفادة من الأخطاء التي وقعت سابقا، وتدارك الوضع، خصوصا وأن التغيرات المناخية لا تتوقف، ناهيك عن رفض الدول الصناعية التوقيع على اتفاقيات التغير المناخي في جميع المؤتمرات للحد من التلوث والأنشطة الملوثة، وبالتالي يبقى شبح التغيرات المناخية حاضرا وبقوة، لهذا نحن في حاجة إلى الاهتمام أكثر بمناطق الواحات، ومحاولة إيجاد بدائل اقتصادية أخرى كالقطاع السياحي”.

*****************************
عزيز بن الطالب : الإجهاد المائي بالمناطق الواحية ساهم في بروز ظاهرة “اللجوء المناخي”

كشف عزيز بن الطالب رئيس المركز الدولي للواحات والمناطق الجبلية، أن المغرب يمر حاليا “من مرحلة الإجهاد المائي بسبب التغيرات المناخية، ولكن كذلك بفعل طبيعة الممارسات البشرية”.
وأوضح عزيز بن الطالب في تصريح لجريدة بيان اليوم، أنه “إذا أخذنا على سبيل المثال، معدل الفرد من المياه الصالحة للشرب، فلقد كان خلال فترة السبعينيات يناهز 2500 متر مكعب، قبل أن ينخفض في التسعينيات إلى 1000 متر مكعب، وبلغ حاليا 500 متر مكعب، علما أن متوسط المعدل العالمي يقارب 1000 متر مكعب”.
وأبرز بن الطالب أن “جفاف الأمطار وضعف المياه في الفرشات المائية، يهدد استمرار وجود الواحات، التي في حاجة إلى تعبئة الموارد المائية، لأن هناك بعض الأنشطة الزراعية والاقتصادية للواحات تعتمد على مياه الري السطحية من خلال الخطارات، وأخرى على الباطنية من خلال تقنية الضخ المائي”.
وسجل المتحدث ذاته، أن العامل البشري ساهم هو الآخر في “تدهور الموارد المائية على المستوى الكمي والنوعي، وبالتالي كل المناطق الواحية تواجه عجزا مائيا مخيفا لدرجة تصحر بعضها، الأمر الذي ساهم في بروز ظاهرة الهجرة المناخية”.
وقال عزيز بن الطالب إن المركز الذي يشرف عليه، يستعد “لتنظيم مؤتمر علمي دولي بصبغة وطنية ودولية، بمدينة ورزازات، تحت عنوان: “أي نموذج تنموي مستدام للمنظومات الواحية والجبلية وتثمين الرأسمال اللامادي؟”، وذلك يومي 29 و30 يونيو المقبل، حيث سيناقش مجموعة من الإشكاليات، المتعلقة أساسا بتدبير الموارد المائية، ومعلوم أن التوجهات الملكية اتجهت مؤخرا في إطار التدبير الاستباقي لأزمة الإجهاد المائي”.
وأفاد بن الطالب على أنه توجد اليوم مجموعة من الحلول والبدائل المطروحة من أجل التثمين الأمثل للماء، “فهذا الأخير ليس مسؤولية المؤسسات الوصية فحسب، وإنما أيضا مسؤولية كل مغربي، وبالتالي، يجب ابتكار مبادرات خلاقة للحفاظ عليه”.
وفي هذا الصدد، استحضر حجم المجهود الذي بذلته الدولة على هذا المستوى، من قبيل إطلاق مشاريع تشييد السدود، وربط الأحواض المائية ببعضها البعض، “وأرى أن الواحات في حاجة لمثل هكذا حلول، كإنشاء مزيد من السدود التلية، وتعبئة الموارد المائية السطحية، وكذا تحويل الموارد المائية من المجالات الرطبة وشبه الرطبة نحو المناطق الواحية بصفة عامة”.
ووقف رئيس المركز الدولي للواحات والمناطق الجبلية في حديثه للجريدة، عند مستوى مساهمة الواحات بشكل كبير في نشاط الاقتصاد الوطني، “لهذا يجب إعداد نموذج تنموي خاص بها، مع ضرورة الحفاظ على خصوصيتها الثقافية والمعمارية وصون توازناتها البيئية”.
وأبرز أنه “من خصائص المناطق الواحية، تكيفها مع التغيرات المناخية، لهذا يجب الاعتماد أكثر على التحسيس بحكامة استعمال الماء، والكف عن الضخ العشوائي للمياه الباطنية، لا سيما مع ظهور الفلاحة الرأسمالية التسويقية التي تستنزف المياه من أجل منتوجات استهلاكية قد لا تفيد المنطقة”.
ويرى عزيز بن الطالب أن هذه المظاهر تساهم في تدهور الموارد المائية للواحات، وبالتالي تدفع بالساكنة نحو الهجرة، “بصيغة أخرى بتنا أمام لاجئين إيكولوجيين، يبحثون عن مناطق أكثر إنصافا في نظرهم كالمدن الساحلية التي تعرف أنشطة اقتصادية وصناعية كثيفة”.
ويرى بن الطالب أن المغاربة اعتادوا على التعايش مع ندرة المياه منذ مدة طويلة، بفعل الوضع البيومناخي، الذي لا يسمح بوجود تساقطات مطرية كثيرة، لهذا تهتدي ساكنة الواحات إلى إبداع طرق مختلفة في التوزيع العادل للمياه، وهو ما خلق لنا حضارة واحية ضاربة في التاريخ.
ودق، في الأخير، ناقوس الخطر الذي يعتري المنظومة الواحية، داعيا إلى “تنزيل مخططات استعجالية لحماية ما تبقى من مواردنا المائية، كمواصلة الاستثمار في تشييد السدود التي تمثل حلا مناسبا على الأقل بالنسبة لساكنة الواحات، التي في حاجة إلى أي قطرة ماء، فضلا عن التفكير في بناء محطات لمعالجة المياه العادمة لإعادة توظيفها في الزراعة الموجودة في الواحات، هذه الأخيرة التي تشكل 15 في المائة من المساحة الترابية المزروعة، كما أنها تحفظ ثروة نباتية مهمة لا يمكن أن نجدها في أي مكان آخر”.

إنجاز: يوسف الخيدر

Top