بوح الليل ..

في تلك المدينة الغريبة، وجَدتُني، في أحد تلك الشوارعِ المُتَشابِكة، اتَّصَلتُ بذاتي من جديد، وعرَفتُ قيمةَ الحياة. وانسكبت في لحظةٍ عَشوائيةٍ محشورةٍ في زاويةِ يومٍ طويل، داخلَ أحشاءِ الزمن.
في تلك اللحظةِ الغريبة، أطلَقتُ سراحَ الماضي وأعلَنتُ ولادَتي الجديدة.
كنت دائماً أحدث نفسي، إني سأدون بعدستي كل شيء في بيتنا العتيق.. سأوثق كل لحظة هاربة من محطاتي.. هنا أريكة والدي وذاك عطره.. وتلك النافذة التي أشتاق..
كل شيء وإن بدا غير لافت..
أجلت كثيراً..
وعندما بحثت عني لم أجدني هناك..
أضعت المفتاح والدرب أصبح كفيفاً..
خانتني ذاكرة كل شيء..
ولم يكن وفياً تقريبا أي أحد ..
غرفتي لم تعد على مقاس أحلامي.. وخزانتي لم تعد تعرف أثوابي..
وهناك في تلك الزاوية كانت لوحة لأشجار النارنج تساقط ثمرها سهواً فوق حنيني.
محزن أن ينكرك حتى السنونو الذي أنقذته يوماً من يد القطة..
دالية الدار عافت العناقيد.. والعابرون أصبح همسهم غربة..
على قارعة الحلم ما زالت الذاكرة تجهش بالعناء ..
وهناك حيث دفنت بالقرب من السروة بعض النبض نامت يمامة، جناحاها من شرود وهديلها أهازيج وداع..
من بعيد سمعت صوتاً مرهقاً كان صوت غيمة عرفتها وأنكرتني.
كم عمراً أظلت همومي وكحلت عيون الخافق بالنرجس..
كل شيء تغير…
والماكثون أصبحوا غياباً فلا تحدثوا أنفسكم كثيراً..
احتضنوا اللحظات ولا تدعوها تهرب..
لا تؤجلوا المواعيد ودثروها بالدفء..
حدثوا النجمات.. صافحوا بالقبل أحداق الأحبة..
فلن تعاد الأوقات مرتين..
ولن تستعاد الأعمار..
ولن تهبك الأماكن وإن حنت العمر من جديد ولهفتين ..
هناك أحاديثُ مُهِمّةٌ لكنها لا تُقال، إنها تَعلَقُ في تلك البُقعةِ السوداء، ما بين العقلِ واللسان. هناك حيث يُحتجَزُ الكثيرُ من الكلامِ الصادق، يغدو سَجينَ الكتمان ويبقى حتى يتَعَفَّن، يتَراكَمُ عبر السنين حتى يَخنُقَنا، ثم يتحَوَّلَ إلى سيلٍ من الدُموعِ الفَيّاضةِ التي تنهَمِرُ بلا سببٍ واضح.
تسائلت كثيرا، ماذا لو مررت بذاك الحي المغدق بالعتق استنشقت عبق الدروب المنسية..
وبحثت عن الوجوه الضائعة..
سألت العابرين في الذاكرة وكل من يمر بجانب الجدران المطلية بكل ذرة حنين..
ماذا لو طرقت الباب الغافي وهمست له أن يفتح لقلبي..
صعدت الدرج المكبل بأنفاسي..
تحسست كل موضع فيه.. وبالكاد استطعت أن أصل باب غرفتي..
ياه كم أصبحنا انا وهي أغراب..
ياه كم اصبحتُ هرمة.. وكم أصبحتْ هي عتيقة..
تجولت في أرجاء البيت أبحث لنبضي عن مأوى.. بكيت.. ناديت..
وتمنيت أن يكون الصدى صوت أحدهم..
ترى كيف يرقد ذاك السرير وحيداً.. وكيف للنوافذ أن تصمت كل هذا الوقت؟!
كيف يمر اليمام بجانب الشرفة ولا يلقي السلام؟
وكيف لتلك التوليبة الصمود هكذا دون روح؟!
ترى كيف يكون حزن الأماكن؟!
وكيف لها البقاء واللهفة تقتات على بقاياها؟!
حزمت ما تبقى مني مع كومة دمع.. وأسدلت الستائر على قبضة من ريق الشمس.. وقلت للذكريات نامي على رف النسيان إن استطعتِ..
أغلقت الباب من جديد.. وعدت أدراجي بعد أن تركت جزءاً من شغافي هناك..
ترى كيف تذوق الراحةَ ذاكرة؟!!!
ليس حَتميًا أن تَحدُثَ تَوَقُّعاتُنا الآن، ليس من الضَرورةِ أن ننجحَ في هذا العمر أو أن يُحالِفَنا الحظُّ في القريب حتى. ليس ضَروريًا أن نحصلَ على تلك الوظيفة المرموقةِ أو تلك السيارةِ الفارِهةِ أو ذلك الزواجِ السعيد في وقتٍ مُعيَّن.
فتلك المَقاييسُ الزمَنيةُ والعُمريةُ التي وضعَها المجتمَعُ ليست حقائقَ مُنَزَّلة. لنسمح للزمنِ أن يُمارِسَ سُلطَتهُ ومَزاجيَّته.
لٍمَ يصبح الليل أحياناً سحابة من أرق؟
لنسمح للنجاحِ أن يَغلي على مهلٍ وبهدوءٍ كالقهوة. لندَعِ الأقدارَ تلعبُ دورَها بحُرّيةٍ في مسرحيةِ الحياة. قد تكونُ المسافةُ ما بين الكافِ والنون بعيدةٍ جدًا، لذا لابدَّ من الاستِمتاعِ بالرحلة.
مازلتُ أبحَثُ رغم أن البحثَ عمَليةٌ مُضنيةٌ ومؤرِّقة تَدعو للشفَقة، مازلتُ أبحثُ عني بين أيامي الرَتيبة، بين خطواتِ الزمنِ السريعة.
مازلتُ أبحثُ عني في ثَنايا روايةٍ جميلة، أو في رَشفةِ قهوةٍ لاذِعة. مازلت أسعى لالتِماسِ طَيفي كالمجنونة، لكنني لا أجِدُ سوى الصمتِ الطويلِ.
فبين يدي الزمن نمضي، نحمِلُ أعباءنا على أكتافنا، نبحثُ عن هوانا، عُمرٌ يسير وعمرٌ يقف طويلاً لا يتحرك، نيران تُرجَم بها الأرواح فتصبح رماداً منتثِرا، وقلوب أرهقها الانتظار، وبين هذا وذاك نمضي إلى حيث لا ندري،
طويلٌ الطريق وشاق، مُثقلو الأقدام..
لا نصل.. مُتوَرّطونَ في حياة لم نخترَها، تأخذُنا طرُق الغايات ولا ندري أينَ ستكون النهاية.. لقد مرّ العمر سريعاً.. ولم ننتَبِه إلا لملامحَنا التي تغيّرت كثيراً من قساوَة ما عِشناه وعاشَ فينا..

بقلم: هند بومديان

Top