البعد الشعري التأملي في “انثيالات عشق” للشاعر ياسين اليعكوبي

صدرت شذرات “انثيالات عشق” عن منشورات جمعية عبور الثقافية للنشر، 2023، للكاتب والشاعر ياسين اليعگوبي، تشكلت القصائد الشذرية في طبعة جميلة وأنيقة جدا ساهمت في جماليتها أياد فنانة خبرت اللغة ومحاسنها، وزاد جمالية الطبعة لوحة الغلاف التي تعود للفنانة دواني فاطمة. يتكون الكتاب من 54 شذرة متفاوتة الطول بين سطر وثلاثة أسطر، يبلغ عدد صفحاته 74 صفحة.

تقديم:
تعد الكتابة الشذرية صنف جديد في الأدب المغربي الحديث، غير مألوفة على الأقل كشكل مستقبل، لأن البعض يعود بالشذرة إلى النثر الجاهلي وإلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وخاصة إلى ما كتبه المتصوفة من شعر ومن شذرات مفتوحة غير محكومة بقوانين النوع الضيقة.

الكتابة الشذرية تتيح لذات تفكيك ذاتها، تحيك خيوط أفكارها عبر أزمنة منفصلة، والهدف ليس إلغاء الحدود وتفكيك الذات، وإنما جعلها حركة وليس جمودا، منحى وليس نقطة، هجرة وليس إقامة، نسيانا وليس ذكرى، تعددا وليس وحدة، تباينا وليس وفاقا.

في هذا المنحى يقول الناقد عبد العلي الودغيري: “يمكن أن ندعوها أيضا خواطر، وأشتاتا من الكلام الفني الرصين المختصر مما لا يمكن أن يكون مقالة، أو شعر، أو قصة، أو غيرها من فنون القول المعروفة”.(1(، في نفس السياق يقول محمد الأمري: “هذا اللون من الأدب يذكرنا بالحكم المتداولة والجمل القصار. التي تحفل بها الكتب الأدبية، وتتداولها الألسن نظرا لإيجازها، ولعمق معانيها، ولكونها تصلح لكل زمان ومكان” (2(.

يمكننا القول إن القصيدة النثرية الشذرية تقترب من الحكمة ومن أساليب الفلسفة التأملية، لكي تكون أكثر تأثيرا في المتلقي وأكثر استجابة لهواجسه وتطلعاته ورغباته.

العنوان:

هذا العنوان “انثيالات عشق” مليء بالدّلالات التي تضفي على الكتاب ثراء معنويّا وبعدا أدبيّا خاصّا. هو عنوان رمزيّ مثير للفضول يمكن تفسيره بطرق شتّى، فهو يطلق العنان لخيال القارئ ويغريه بالتعمّق في هذه الشذرات وسبر أغوارها.

كما يبدو الكاتب وكأنّه يضع نفسه في هذا العنوان الذي يشير إلى نضج اختياره، فـ “انثيالات عشق” رمز للتدفق والكثرة، مليء بالأحداث والمشاعر، ينهمر ويتلاطم ويكبر؛ كتجاربه التي كبرت ونضجت مع مرور الوقت وحملت معها عبق الماضي وحكمة الحاضر. و”انثيالات عشق” يصوّر الرومانسية المتدفقة والمتكاثرة، وهو أيضا رمز للحلم والرّغبة المتوقّدة في التحرّر من قيود الواقع المادية.

تيمة الشذرات: البعد العاطفي

يتألف هذا البعد من الخيوط الشعورية والنفسية المتشابكة، هو مزاج من المشاعر والأحاسيس المختلفة، الأمر الذي أكسب شذرات هذا البعد قدرا طيبا من التنوع والغنى.

وتتردد ملامح هذا البعد ما بين الاحتفال بالحبيبة الذي يشرق في ثنايا حياة الشاعر، والآسي على حب مشكوك في صحته، وما بين هذين العاطفتين تتنوع التجارب الخاصة وتتعدد. إنه يتحدث عن محبوبة تتصف عن غيرها من الفتيات الأخريات، فهي تتسامى وتتسامق، لتصل إلى مرتبة السمو، يقول في شذرة (سبويه): “ولو أن سبويه رأى جمالك، لوجدناه ينصب الفاعل ويرفع المفعول به، فما بالك بهذا العبد الضعيف” ص49.

الأسلوب والتأثير:

الكتابة الشذرية عند ياسين اليعكوبي هي خليط من الحكمة، الملاحظة، والحكي، والشعر، والتأمل والتفلسف والرومانسية.. وهي تتأسس على المفارقة غالبا في أفق استكشاف الجوانب غير المعروفة في الأشياء، وهو ما يحدث الدهشة، والغرابة، وتكسير أفق انتظار القارئ.

الشذرة عند الكاتب تقوم أيضا على الكثافة والاقتصاد والفجائية والومضية، وبذلك فهي تعمل على رفع الخيال بارتعاشات وانتعاشات ممتعة وعجيبة، مما يجعلنا نلمس ما لا نراه فيما نراه، أي أنها تعيد تشكيل الواقع وخلقه من جديد، أو على الأصح تخلق واقعا موازيا مختلفا عن الواقع الحقيقي، أو تحديدا تخلق واقعا حقيقيا عن الواقع المزيف، أي الواقع المعيش، الذي تنغمر فيه، فعبر هذه الشذرات نلمس الماهية والجوهر الأصيل.

وتتميز الكتابة الشذرية عند الكاتب ياسين بالتنويع في الأداء الفني، والبناء الشعري الهندسي، فهي تعمل على استغلال البياض والصمت والحذف وجعلها مكونات فنية أساسية لا تقل قيمة عن الملء والكلام والذكر. كما أنها تجمع في الآن نفسه بين الإثبات والتردد.. فالحالة الأولى جاءت في شذرة (لا يحق لي): “لا يحق لي البتة التحدث عن سوء الحظ، وقد وقعت في حبك” ص 15. أما الحالة الثانية لخصتها شذرة (منحة): “منحتك الحب بالقدر الذي كنت أتمنى أن احصل عليه منك” ص 21.
“انثيالات عشق” تجمع ايضا بين الخلل والانتظام، فالأول تجلى في (زهرة المارغريت): “على ما يبدو أن زهرة المارغريت كانت صادقة يوم أخبرتني أنك لا تحبينني”! ص 64. أما الانتظام فتمثل في (لوحة فنية): “مثل لوحة فنية، كلما أمعن فيها الشخص النظر اكتشف أشياء جديدة” ص 59.

ومن جماليات شذرات المبدع اليعقوبي جمعها بين الثنائيات المتضادة بين الإفصاح كما في (وصف): “حبي لك أكبر من ان أصفه في قصيدة” ص 48، والإضمار في (علل): “العلل لم تصب قصائدي، بل أصابت قلبي!” ص 47.

من هنا فقد أظهر الكاتب حرصه على توشيح شذراته بالفنون البديعية ولا سيما التضاد، كما برزت فنية الشاعر اليعكوبي في عنايته بتحقيق التناسب بين المتضادات والحرص على الترتيب الملائم لها، مما جعل التضاد سمة لأسلوبه الذي وظفه ليكون وسيلة لتعزيز المعنى وتكثيف الدلالة ورسم صورة رومانسية راقية.
فـ “انثيالات عشق” تعلمنا أن نرى ونسمع ونحس بطريقة جيدة، طريقة فنية. فهي توقظ المتلقي، وتشحن حواسه، وخياله، ورؤاه بطاقة جديدة فتخرجه من انطوائه وقوقعته، ومن رؤيته الرتيبة والثقيلة للعالم والأشياء… وهكذا تصبح الذات متحفزة ومستعدة لالتقاط الجمال والحسن أينما كان.
************************

الهوامش:
(1)  محمد الصباغ بأقلام النقاد والأدباء، عبد العلي الودغيري، دار الثقافة/الدار البيضاء ص 124.

(2) نفس المصدر.

بقلم: كمال العود

Top