قصة قصيرة: لمعلم ادريس

لمعلم ادريس، هكذا يسمى خياطنا، إنه ليس كمثل باقي الخياطين، امتهن هذه الحرفة منذ زمن بعيد، اكتسب شهرة كبيرة في مدينته الصغيرة، حيث تروى حوله حكايات تزيد من عدد زبنائه الكثر، خاصة من النساء الشعبيات، فهناك من تأتي لترقيع ملابس زوجها أو أبنائها، وهناك من تقصده راغبة في خياطة ثوب جديد لها. في الوقت الذي تكون السيدة منهمكة في شرح تفاصيل الشكل الذي تريد أن يكون عليه ثوبها، يهب لمعلم ادريس زبونته كل الاهتمام، مصغيا إليها، متتبعا بدقة كل كلمة تتفوه بها، وعندما كان يقاطعها بين الفينة والأخرى، فلكي يضيف بعض ملاحظاته ومعلوماته عن عالم الخياطة الذي يعرف تفاصيله حتى الدقيقة منها مضفيا على أسلوبه روح النكتة والدعابة التي تفك لسان زبونته، وترخي عضلات فكرها ليدمج الحديث عن الثوب المرغوب خياطته في أحاديث الوقت والزمان وأحوال الناس البسطاء، فمن يقصد لمعلم إدريس، فقد دخل عالم الخياطة من بابه الواسع، من يرغب في الخياطة التقليدية يجد ضالته عند لمعلم ادريس، ومن كان يفضل النوع العصري فخياطنا لن يبخل عليه بإبداعاته التي لاحد لها، ناهيك عن الزمن الطويل الذي تقاومه خياطة لمعلم ادريس فهي لا تفنى كما يردد ذلك زبائنه بإعجاب! خاصة وأن أثمنته لا تخضع لتحديد مسبق، فهي متقلبة بحسب مزاج خياطنا ونوع زبائنه، فإذا كانوا من النوع القابل لتجاذب أطراف الحديث المرح، فإن ثمن الخياطة يصبح قابلا للتفاوض، أما إذا حدث وزاره زبون أو زبونة من الصنف العبوس أو الفهايمي، فإن خياطنا لا يتنازل عن الثمن الذي يصفه في البداية و”لوطارت معزة .” ورغم ما نعرفه عن شخصية لمعلم ادريس من خلال زبنائه، فإن حلاوة اللقاء به لا تكتمل إلا إذا زرته في دكانه الذي يقع في حي تجاري يدعى السويقة بجوار بائعي الدجاج والخضر والفواكه، وكأن صاحبنا متمرد على زملائه الخياطين الذين غالبا ما يختارون موقعا نظيفا وأنيقا لممارسة حرفتهم، فهو مازال يحتفظ بآلة خياطة قديمة من نوع سنجير، والتي لا يخفي تدمره منها في كل مرة تزوره فيها، بجوار هذه الآلة وضع جهاز راديو من صنف ترانز ستور حيث يتابع فيه أخبار العالم عبر إذاعة لندن التي يحبها لأنها تقول الحقيقة كل الحقيقة مرددا بثقة كبيرة. بوجه باسم، مشرق، هادئ، يستقبلك ويدعوك للجلوس على مقعد خشبي، متوسط الطول لا يقل عمرا عن آلة الخياطة وجهاز الراديو، ثم تدفع له طلبك الذي جئت من أجله خياطة ثوب جديد، أو ترقيع لباس قديم، وإذا ما انشغلت عن تفقد حاجتك بعد أن تضعها عند لمعلم ادريس، تجدها انضمت إلى كومة الأثواب المتراكمة، وكأنها طبقات رسوبية يستطيع وحده خياطنا العثور عليها.

إنها طريقة فريدة لتنظيم العمل عنده، لا يهم فمن أجل التمتع بجلسة مع لمعلم ادريس الكل يهون. ذات يوم جاءه زبون ليرقع له سروالا قديما، حياه ثم دعاه لمعلم ادريس بالجلوس، تقدم الزبون بشرح ما يجب على خياطنا أن يفعل حتى يصبح السروال جديرا باللباس. كانت الجلسة ممتعة: لأول مرة أحس لمعلم ادريس أن زبونه ليس كباقي الزبناء، يقول كلاما موزونا بدا للمعلم ادريس وكأنه شاعر موهوب. حدث بين الطرفين انسجام رغم فارق السن والعلم بينهما. مد الزبون يده إلى جيبه مخرجا “سبسي” وطلب الإذن من لمعلم إدريس ليأخذ معه شي شقيف. رحب الخياط فاستغرقت الجلسة سويعات. كان لمعلم إدريس مستغرقا في عمله بكل نشاط، بينما الزبون يتلو عليه أشعاره. كانت كلها تغزلا بنساء عرفهن أو تخيلهن، فكانت تلك هواية لمعلم إدريس أيضا، فهو يحسن الحديث مع زبوناته. تكررت زيارة الزبون إياه، وتكرر معها استمتاع لمعلم إدريس “بشقيفات” الكيف التي يدخنها مع زبونه الشاعر. تناسى خياطنا سروال زبونه، ونسي هذا الأخير الغرض من مجيئه إلى هذا الدكان الذي كان” الداخل إليه أكثر من الخارج”، هل بسبب رائحة الكيف الزكية التي تغمره، أم بسبب الحيوية والنشاط التي أصبح يتمتع بها خياطنا، فبعد ما كان لمعلم إدريس يكتفي بترقيع ملابس قديمة أو خياطة ملابس جديدة على طريقته القديمة، أصبح يبدع في الموضة أيما إبداع، وكأنه في دار كوكوشانيل. أصبح دكان لمعلم إدريس ينظر إليه على أنه وكر من أوكار الفساد، من طرف زملائه في الحرفة المتناثرين في المدينة، خاصة عندما شاع خبر تردد الفتيات، والنساء الشابات عليه حاملين إليه كل ما أبدعته الموضة ليخيط لهن أثوابهن الجميلة، التي أصبحت تتوافد عليه بالجملة، الأمر الذي جعل صديقه الشاعر يتدخل لمساعدته بأن وضع له سجلا بأسماء
الزبونات ونوع طلباتهن، والثمن المدفوع نصفه أو بعضه. كانت العلاقة بين المعلم إدريس والزبون الشاعر  تزداد يوما عن يوم قوة واستمتاعا، فتحسن مدخول خياطنا وأدخل تحسينات وتلميعات على دكانه وعلى ملابسه الخاصة أيضا، فأصبح يتعطر، ويحلق ذقنه على
غير عادة. لم ينس صديقه الشاعر من هذا الترف الذي يرجع الفضل إليه كما يردد دائما لمعلم ادريس في حضوره أوغيابه. أصبح لمعلم إدريس يخصص مدخولا لصديقه الشاعر الذي كان يصرفه في شراء الكتب ولوازم جلسة “التكييفة”. في نهاية أحد أيام الأسبوع، كان لمعلم إدريس وصديقه الشاعر قد اتفقا أن يستغل هذا اليوم الذي لا يعمل فيه لمعلم إدريس ليجلسا جلستهما الخاصة، ويستمتعا بدردشاتهما التي كان يرى فيها كل واحد استلهاما له، الخياط يأخذ من الشاعر ما يفيده في إبداعاته الحياكية، والشاعر يستلهم من قصص لمعلم إدريس مع زبوناته أشعاره. طالت الجلسة إلى غاية فجر اليوم الثاني، توادعا الصديقان على أن يلتقيا في عشية اليوم الموالي.وبينما  هما في طريقهما إلى الدكان، رمقا دخانا يتصاعد من الزقاق الذي يوجد فيه حانوت لمعلم ادريس، تقدما بخطوات سريعة ليتحققا من الأمر، جثم لمعلم إدريس على الأرض غير مصدق ما رأته عيناه: دكانه يشتعل نارا.

Top