المغــرب الثـقـافـي

 

نـحـو سـيـاسـة وطـنـيـة للـثـقـافـة
أصدر الباحث محمد بهضوض سلسلة من الكتب تحت شعار «التحدي الثقافي في المغرب» من منشورات وزارة الثقافة سنة 2014: الكتاب الأول تحت عنوان «المغرب الثقافي»، والثاني تحت عنوان «المشهد الثقافي»، والثالث تحت عنوان «الفكر الثقافي». وهي الكتب التي قام فيها الباحث بتحليل دقيق للوضع الثقافي في بلادنا، والتوقف عند عدد القضايا الثقافية ذات الصلة (مثل التراث واللغة والتربية والقيم والمعرفة والدين والجمهور والوساطة…) واقتراح أرضية لميثاق وطني للثقافة قصد التداول والنقاش. وهذا في أفق إعداد مشروع أو «سياسة وطنية للثقافة» متوافق بشأنها بين كل الفعاليات الثقافية والفنية في المغرب.
وحتى نعطي فكرة عن الخلفية والأهداف العامة لهذه القضايا ننشر فيما يلي المقدمة التي خصصها الباحث لثلاثيته.

هل تخضع الثقافة للتخطيط؟ وهل ثمة ضرورة لوضع استراتيجية أو ميثاق وطني للثقافة بشكل عام، وفي المغرب بشكل خاص؟ المسألة فيها نظر، إذ أن التاريخ البشري عرف ثقافات وحضارات قدمت إلى البشرية عطاءات صناعية وفكرية وإبداعية كبرى دون أن تعرف مخططات أو استراتيجيات أو مواثيق للثقافة تذكر. كما أن هناك دولا متقدمة لا تتوفر على وزارات للثقافة أو سياسات ثقافية أصلا. ومع ذلك، فقد عرفت – ولا تزال – تقدما في المجال الثقافي. والعكس، أي أن هناك دولا لها استراتيجيات ومواثيق ثقافية، بل ووزارات للثقافة وسياسات ثقافية، وخطابات عن الثقافة، دون أن تعرف بالضرورة أي تقدم ملحوظ في هذا المجال.
إن المسألة ترتبط في تقديرنا بتقاليد وخصوصيات كل مجتمع أو بلد، والأهمية التي تعطى فيه للثقافة، بغض النظر عن اختلاف النظم الثقافية المتبعة، أو وجود مواثيق ثقافية أو لا. والمغرب لا يخرج عن هذه القاعدة. فقد عرف خلال تاريخه الطويل ثقافة أو بالأحرى ثقافات غاية في الغنى والإشعاع الثقافي والحضاري. كما أن التعثر الذي أصاب مجاله الثقافي، على نحو ما توقفت عنده عدة دراسات وكتب وتحقيقات، لا يرجع إلى غياب بيانات ومقترحات أو استراتيجيات للثقافة الوطنية طيلة السنوات التي أعقبت الاستقلال، بقدر ما يرجع إلى ضعف السياسة التنموية ككل، وغياب إرادة سياسية فاعلة على المستوى الثقافي بشكل خاص، تقوم بتنفيذ ما جاءت به هذه البيانات والمقترحات والاستراتيجيات.
وهنا، لا مجال لمسح الطاولة، والتنكر للمجهودات التي بذلتها الدولة طيلة أكثر من نصف قرن، والتي تمثلت في خلق نظام للتعليم، وحماية جزء من التراث، وخلق بنيات ثقافية (خزانات، ومؤسسات ثقافية، ومتاحف…)، ومؤسسات للتكوين الثقافي، وإقامة مهرجانات ثقافية وفنية، وتأسيس نظام لدعم الإبداع وحماية المبدعين…، وما إلى ذلك من المنجزات التي سنأتي على ذكرها في المتن. لكن المؤكد كذلك، أن هذه المجهودات لم تكن في حجم حاجيات ومطالب السكان وانتظارات المثقفين، إذ ظلت الثقافة غائبة لمدة طويلة عن الدستور والبرامج الحكومية المتوالية. كما ظلت رهينة لتقلبات السياسة واجتهادات شخصية لبعض الوزراء، ولم تندرج لذلك أبدا في أي منظور مستقبلي لخدمة الثقافة.
من هنا السؤال لماذا؟ لماذا لم يتم طيلة هذه المدة الاتفاق على مشروع أو برنامج أو مخطط أو ميثاق أو استراتيجية وطنية (لاتهم التسمية) تلبي حاجيات الدولة والمجتمع والمثقفين إلى الثقافة؟ تصعب الإجابة عن ذلك في عجالة، بالنظر إلى أنها ترتبط بإشكالية التأخر أو التخلف في بلداننا العربية، ومنها المغرب، والتي ترجع لأسباب مركبة تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وانثربولوجية ودينية…، تم تناولها بإسهاب في عدد من المؤلفات التاريخية أو الفكرية منذ عصر النهضة وإلى اليوم .
نكتفي من جهتنا بالقول إن هناك عموما خمسة أسباب رئيسية في ذلك، هي:
– أولا- غموض مفهوم الثقافة، وشساعة الحقول التي يغطيها، والتي تنطلق من الثقافة الشعبية التي تشمل الدين والتقاليد وأنماط العيش والإنتاج والاستهلاك والسلوك والقيم (المفهوم الانثربولوجي للثقافة) إلى الثقافة العالمة والتي تشمل الآداب والفلسفة والفنون (المفهوم الجمالي للثقافة). وهو ما جعل من الصعوبة بمكان الاتفاق على تحديد مضمون أي برنامج أو اتفاق وطني حول مفهوم الثقافة، إذ عن أي ثقافة يجب أن نتحدث هنا؟.
– ثانيا- اقتران السياسة الثقافية، لمدة طويلة، بالدولة/المخزن ومصالح النخبة العالمة التي ارتبطت بها، ومن هنا إهمال الثقافة بمفهومها الحديث (الآداب والفكر والفنون) لصالح الثقافة بمفهومها التقليدي (التراث، الدين، الفولكلور…). وهذا بغض النظر عن بعض الاستثناءات أو الإنجازات التي لم ترق أبدا إلى سياسة عمومية حقيقية للثقافة. ومن هنا الشرخ الذي حدث بين الدولة والثقافة والمثقفين على هذا المستوى.
– ثالثا- أنه إذا كانت طبقة المبدعين والمثقفين قد استطاعت، في غياب الدولة أو معها أحيانا، بل وضدها في غالب الأحيان، أن تخلق نهضة ثقافية تشمل في أهميتها كل المجالات (الأدب والفكر والمسرح والسينما والموسيقى والتشكيل… ) خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فإنها لم تستطع بالنظر لاختلافاتها السياسية والثقافية والشخصية أن تخلق “مرجعية ثقافية وطنية”، كما أشار إلى ذلك الأديب المغربي محمد بنيس.
– رابعا- أن القطاع الثقافي، تتدخل فيه كما هو معروف عدة قطاعات رسمية وغير رسمية، من إدارات عمومية (وزارات: التربية الوطنية، الاتصال، ولشباب والرياضة، والسياحة، والأوقاف…)، وجماعات محلية، وقطاع خصوصي، وجمعيات المجتمع المدني، إضافة إلى المبدعين والمثقفين أنفسهم. والحال أن لكل قطاع تنظيمه وسياسته وبرامجه وخريطته التنموية…، والتي غالبا ما يصعب التنسيق بينها.
– خامسا- أن الثقافة، بالنظر لاتساع دلالتها كما ذكر، تضم مجالات ذات حساسية كبرى مثل الهوية والدين واللغة والتنوع الثقافي والحق في الثقافة…، والتي كثيرا ما حالت أبعادها والإشكاليات التي تطرحها (العلاقة بين الدولة والمثقفين، والمركز والهامش، والوحدة والاختلاف…) دون فتح نقاش واضح حولها، ومواجهتها بالشجاعة المطلوبة (وفقا لمبدأ “كم حاجة قضيناها بتركها”) وهذا في غياب مشروع ديموقراطي حداثي، يشجع على ذلك.
اليوم، بعد الدينامية السياسية التي عرفها المغرب عقب مصادقته على دستوره الجديد في فاتح يوليوز 2011، يبدو أن الوضع أخذ في التغير نسبيا، أو هكذا نتمنى على الأقل. ذلك، أن الدولة أظهرت عزمها المبدئي على تطوير قطاع الثقافة، على غرار باقي القطاعات الأخرى، ضمن “بالمشروع المجتمعي” الذي تسعى إلى تطبيقه، كما أعلن عن ذلك الدستور المذكور، والبرنامج الحكومي، إضافة إلى برنامج عمل وزارة الثقافة سنة 2012.
وهنا تأتي مسألة التفكير في إعادة طرح المشروع الوطني للثقافة، لماذا؟ ذلك أنه إذا كانت التغييرات السياسية التي عرفها المغرب، تفرض ذاتها هنا كسبب رئيسي للعودة إلى هذا الطرح (وعلى رأسها النص الدستوري القاضي بخلق “المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية”)، فإن هناك أسباب أخرى أضحت تدعو إلى ذلك، منها ما طالبت به بعض الفعاليات السياسية والثقافية والفنية (مثل نداء الأديب عبد اللطيف اللعبي)، ومنها ما أصبحت تفرضه المستجدات الوطنية والعالمية. وهي التي تدفع  للأخذ بنظرة أو سياسة مندمجة ومستدامة للثقافة لها مكونات متعددة: حضارية وسياسية واقتصادية اجتماعية وثقافية وإعلامية/تكنولوجية وبيئية وحقوقية.
– حضارية، إذا اعتبرنا المأزق التي وصلت إليه الحضارة العالمية، لاسيما بعد الأزمة المالية لخريف 2008، والتي جاءت لتعكس فشل النموذج الرأسمالي الغربي (ولاسيما في نسخته النيوليبرالية المتبعة على الصعيد الدولي منذ ثلاثين سنة خلت)، والذي أوصل البشرية إلى الكارثة على مستوى الإنسان والبيئة. وهو ما دفع عدد من المفكرين إلى المطالبة بسن “سياسة حضارية” ثقافية جديدة تعطي معنى لهذا العالم.
– فلسفية، بالنظر إلى أن النظام المعرفي العام الذي كان يحكم العالم إلى حين، بدأ في الانتقال تدريجيا من الحداثة إلى ما بعد الحداثة أو”الحداثة الفائقة” (l’hyper-modernité)، أي من نظرة ترى العالم كنظام تحكمه معايير أو قيم ثابتة (العقلانية، والحرية، والمساواة، والتقدم…) إلى نظرة ترى أن هذا العالم تحكمه معايير متغيرة وقيم منسابة (التعددية، والاختلاف، والنسبية، والتنوع، والتشظي، واللامعنى أو اللايقين…).
– سياسية، بمعنى أن الديموقراطية اليوم أضحت أفقا تتطلع إليه البشرية جمعاء، وأن السياسة لم تعد تمارس بشكل عمودي فحسب، وإنما بشكل أفقي أيضا، أو تسعى إلى ذلك على الأقل. وهو ما أوضحته انتفاضات الربيع العربي وحركات “الساخطين” (les indignés) في العالم، والتي تكمن أهدافها في ضرورة الاستجابة لطموحات الشعوب، وتحقيق الديموقراطية السياسية، والثقافية منها بشكل أخص.
– اقتصادية، إذا اعتبرنا أن الاقتصاد الجاري تطبيقه على الصعيد العالمي، هو اقتصاد رأسمالي، مادي استهلاكي، يهدف إلى تسليع كل شيء، بما في ذلك الثقافة. ومن هنا الحديث عن”الصناعات الثقافية”و”الاقتصاد الإبداعي”، و”اقتصاد المعرفة”…، وما شابه ذلك. وأن هناك ضرورة بالتالي لاقتصاد آخر، يجسده في الثقافة إبداع أصيل، لا يخدم احتكارات الرأسمالية الثقافية الكبرى، بقدر ما يلبي حاجة الفن والفنانين والجمهور.
– اجتماعية، بما يفيد أن مصادر الثقافة تكمن في حياة المجتمعات، تاريخها وأساطيرها، ومعتقداتها وأحلامها وممارستها وطموحاتها. وأن المبدعين هم من يغرفون من هذه الينابيع لتحويلها إلى إبداعات خلاقة أدبية وسينمائية ومسرحية وتشكيلية. وأنه لا انفصال بالتالي بين الثقافة والمجتمع، بما يفرض تحسين الأوضاع الاجتماعية للمواطنين، وتسهيل ولوج هؤلاء إلى الثقافة، تحقيقا للديموقراطية الثقافية المنشودة.
– ثقافية، بمعناها الانثربولوجي الواسع، الذي يقوم، استنادا على فلسفة ما بعد الحداثة المذكورة، على عدم التمييز بين ثقافة النخبة (الآداب والفكر والفنون)، والثقافات والممارسات المحلية (الأديان والعادات والتقاليد وأنماط العيش والسلوك)، وأن الكل بذلك أصبح يشكل”ثقافة”، من التعبيرات الثقافية والفنية إلى أنماط العيش والسلوك…، دون المساواة بين هذه التعبيرات أو الأنماط بالضرورة.
– تكنولوجية/إعلامية: تتكون من فضائيات وقنوات تلفزية وإذاعية وحواسيب وهواتف نقالة ولوحات إلكترونية…، والتي إذا أضفناها إلى العولمة الرأسمالية والاستهلاكية الفردانية التي أفرزتها “الحداثة الفائقة”، أمكن القول إننا أصبحنا إزاء عالم ثقافي أو”عولمة ثقافية”، أضحت تشكل فكرنا، وتؤثر في قيمنا وأنماط عيشنا وسلوكنا، وتفرض علينا أخذها بالاعتبار في أي سياسة ما بعد حداثية للثقافة.
– بيئية: بما يفيد أن التنوع البيئي يلتقي مع التنوع الثقافي أو يختلط معه، في أنهما يدافعان معا عن حماية التراث الثقافي والمشاهد الطبيعية و”الكنوز الحية”، كما يدافعان عن إطار العيش والثقافات المحلية والتنمية المستدامة التي لا تعني في النهاية سوى الحفاظ على ما يؤسس للثقافة ذاتها، وهي البيئة. وهو ما جعل المنظمة العالمية للمدن والحكومات المحلية تتبنى سنة 2004 “أجندة 21 الثقافية”، التي تربط بين الثقافة والبيئة.
– حقوقية: بمعنى أنه إذا كان لهذا العصر تعريف أو إبدال (paradigme) للتحليل فهو “عصر حقوق الإنسان”، وما يرتبط به، في المجال الثقافي بالخصوص، من : سياسات ثقافية، وحقوق اجتماعية وثقافية، وتنوع لغوي وثقافي، وحماية الأقليات ومنها “الشعوب الأصيلة”، والحق في التربية والثقافة، والحق في الوصول إلى المعلومات وتداولها، وضمان حرية التعبير، واحترام الملكية الفكرية (…).
هذه عموما هي الأبعاد المندمجة للثقافة، والتي تدفع إلى ضرورة الاهتمام بها عن طريق إعداد مشروع وطني للثقافة في المغرب، يمكن أن يأخذ شكل ميثاق. يبقى من هي الجهة المخولة بإعداد هذا المشروع/الميثاق وصياغته، هل الدولة في شخص وزارة الثقافة، أم المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، أم المثقفين أنفسهم باستقلالية عن أي جهة كانت؟ وما هي المضامين أو المحاور المفترضة لهذا المشروع المقترح؟ هذا ما لا يمكننا الحسم فيه، ونترك الإجابة عنه للمعنيين بالأمر.
أما عن محاور المشروع، فقد حاولنا في سياق الاجتهادات والتحولات السالفة الذكر، تقديم تصور متواضع بشأنه، ، نقدمه للفعاليات الثقافية المعنية. وهذا من خلال  3 كتب تحت شعار عام هو “التحدي الثقافي في المغرب”: يتضمن الأول أرضية أولى لمشروع أو ميثاق وطني للثقافة، فيما يتضمن الثاني تحليلا لأهم المجالات الثقافية الحديثة (النشر والكتاب والسينما والمسرح والموسيقى والرقص والفنون التشكيلية). أما الثالث، فقد خصصناه لطرح عدد من القضايا والأسئلة ذات الارتباط بالثقافة.
إن هدفنا من وراء هذه السلسلة من الكتب هو، إلى جانب تقديم عدد من المعطيات الدقيقة بشأن الوضع الثقافي، المساهمة في فتح النقاش وإشراك أكبر عدد من الفاعلين الثقافيين، بهدف التوصل إلى مشروع وطني للثقافة، متوافق بشأنه. وهذا مع الوعي بأن أي مشروع أو ميثاق، مهما كان مثاليا، لا يخلق ثقافة (لقد عاش البشر منذ قرون وهم يبدعون ثقافات وحضارات دون مواثيق تذكر)، كما أنه من أصبح من الصعب، في “عصر الفراغ” واللايقين وتراجع الإيديولوجيات والمرجعيات الكبرى، معرفة المستقبل أو ضبطه وتحديده بواسطة أي مشروع أو استراتيجية أو تخطيط مسبق.
إن المستقبل هو ما يصنعه الأفراد والمجتمعات كل يوم عن طريق العمل. وغاية ما يمكن أن تطمح إليه الفعاليات الثقافية في بلادنا، هو التوصل إلى توافق حول أفكار ثقافية مرحلية عامة، وعمل الدولة – بشراكة مع كل الفاعلين المعنيين-  على توفير الشروط المادية والمعنوية المواتية لتجسيد هذه الأفكار ما أمكن على أرض الواقع. “فالتاريخ، كما هو معلوم، يمارس خياناته، فلا يستجيـب دائما لنوايا الفاعلين الطيبيـن؛ ومن ثم ضرورة يقظة المثقفين وتدخلهم لمراجعة المسار، وتصحيح الأسئلة، وتجلية طريق المستقبل”<.

Top