خطاب الحكمة والحزم

التوصيف الانطباعي الأول الذي يتركه خطاب جلالة الملك، في الذكرى الخامسة والأربعين للمسيرة الخضراء، هو أنه بقدر ما كانت نبرته هادئة ومحتواه مركزا، فلغته ومواقفه ورسائله كانت واضحة وصريحة وحازمة.
الخطاب الملكي جسد الحزم من داخل الهدوء في ربط جدلي شمل مختلف المحاور  والمواضيع والقضايا التي تطرق إليها. 
لقد استعرض جلالة الملك التطورات التي شهدتها قضية الوحدة الترابية في السنوات الأخيرة، وما تحقق للمملكة من مكتسبات على مستوى الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وعلى الصعيدين القانوني والديبلوماسي، وفِي نفس الوقت حث على ضرورة مواصلة التعبئة واليقظة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وشدد على استحضار روح وقيم المسيرة الخضراء، واعتبرها مسيرة متجددة ومتواصلة.
وفِي حين أبرز أن قرار مجلس الأمن حدد الأطراف الحقيقية في النزاع المفتعل، وأن الأمم المتحدة قطعت مع المقاربات المتجاوزة، والشيء ذاته تحقق في الاتحاد الإفريقي الذي تخلص من المناورات التي كان ضحية لها، وينخرط اليوم في مقاربات بناءة تدعم جهود الأمم المتحدة بشكل حصري، وأن المطروح اليوم على الصعيد الدولي هو حل سياسي يقوم على الواقعية والتوافق، فهو، في نفس الوقت، شدد على التزام المملكة التعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة في إطار قرارات مجلس الأمن، وعلى أن المغرب سيظل ثابتا في مواقفه، وعبر عن الرفض القاطع للاستفزازات العقيمة، ولمحاولة عرقلة حركة السير بين المغرب وموريتانيا والاستغلال غير المشروع للثروات…
وهنا أيضا واضح الربط الجدلي بين الحكمة في مواجهة استفزازات الخصوم، والتأكيد على الرفض القوي لها، وفِي ذلك دعوة للأمم المتحدة وبعثتها في المنطقة للقيام بواجبها في الميدان ولدى الأطراف الأخرى، وذلك لفرض احترام وقف النار ومنع أعمال الفوضى والاستفزاز وعرقلة حركة التنقل…
من جهة أخرى، عرض الخطاب الملكي خارطة طريق تنموية استراتيجية للأقاليم الجنوبية تهدف إلى جعلها قاطرة للتنمية الإقليمية والقارية، وذلك عبر استثمار ما يزخر به مجالها البحري من مؤهلات كثيرة.
هذه الرؤية الإستراتيجية التنموية تأتي ضمن الأفق الذي كان أسسه النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية في 2015، واستمرارا للمشاريع والبرامج والاستثمارات التي أنجزت في المنطقة، وتطرح مسارا تنفيذيا لإقلاع شمولي يعتمد على الاقتصاد البحري والسياحة، ويرتكز على جعل ميناء الداخلة الأطلسي واجهة إقليمية وقارية على غرار ميناء طنجة – المتوسط شمال البلاد، وبالتالي تطوير الواجهة الأطلسية بجنوب المملكة، قبالة الصحراء المغربية، لتكون واجهة بحرية للتكامل والإشعاع على المستوين القاري والدولي.
ولتحصين هذا التوجه الإستراتيجي الكبير، ذكر جلالة الملك أن المغرب أكمل هذه السنة ترسيم مجالاته البحرية بجمعها في إطار منظومة القانون المغربي، في التزام بمبادئ القانون الدولي، ولفت إلى التزام المملكة بالحوار مع إسبانيا بخصوص أماكن التداخل بين المياه الإقليمية للبلدين في إطار قانون البحار، وشدد على الصداقة بين المغرب وإسبانيا واحترام الشراكة الإستراتيجية بينهما، وعدم فرض الأمر الواقع من جانب واحد، بهذا الخصوص.
وحتى على هذا الصعيد كانت الجدلية واضحة بين الحرص على الصداقة والشراكة والتعاون والحوار، وأيضا احترام القانون والالتزام بمقتضياته.
خطاب المسيرة جاء إذن ضمن السياق العام المتميز بمكتسبات ديبلوماسية وأممية تحققت للمغرب، وضمن خطوات فتح قنصليات لدول إفريقية وعربية بالعيون والداخلة، وكل هذا بدا واضحا من خلال مضمون الخطاب ومعجمه، وفِي نفس الآن عرض الخطاب الملكي منظومة متكاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لفائدة الأقاليم الجنوبية وسكانها، وشدد على الاستمرار في التعبئة الوطنية واليقظة لمواجهة الاستفزازات والمناورات.
مرتكزات الخطاب الملكي ومختلف تمفصلاته أطرتها جدلية الحكمة والحزم، وأفق الخطاب جاء منتصرا للمستقبل.
الخطاب رفض عقم الجمود الذي يميز سلوك الخصوم وبقاءهم حبيسي عقلياتهم المتكلسة والعبثية، ولم ينجر لاستفزازاتهم، لكن بدل ذلك واصل سيره العاقل والرصين نحو المستقبل، وعرض رؤية متكاملة وقوية لفائدة مواطنات ومواطني الأقاليم الجنوبية، ولمصلحة مستقبل المنطقة بكاملها.
المغرب يسير نحو المستقبل.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top