الرسالة الملكية

تميز خطاب جلالة الملك في افتتاح دورة أكتوبر البرلمانية بمضمون نقدي واضح، سواء تعلق الأمر بالأداء العام للبرلمانيين، أو بالجماعات المحلية، وخصوصا على صعيد مدينة الدار البيضاء، أو أيضا بما عبر عنه جلالة الملك بـ «الاختلالات في التعامل مع قضيتنا المصيرية الأولى…».
وكان لافتا التفاعل القوي لجلالة الملك مع ما يحس به المغاربة من استياء جراء ما يتابعونه عبر وسائل الإعلام حول عمل البرلمان، وأيضا ما يقال ويكتب عن عمل المجالس المحلية، وخصوصا في العاصمة الاقتصادية للمملكة، ولهذا حرص جلالته منذ البداية على توجيه التنبيه الواضح إلى المنتخبين وكامل الطبقة السياسية عن وجود فرق كبير بين الانتداب البرلماني، «بما هو تمثيل للأمة، ومهمة وطنية كبرى، وليس ريعا سياسيا»، وبين الانتداب الجماعي المحلي أو الجهوي، «الذي يكتسي أهمية أكبر، في الواقع السياسي الوطني، لكونه يرتبط بالمعيش اليومي للمواطنين، الذين يختارون الأشخاص والأحزاب الذين يتولون تدبير قضاياهم اليومية».
وفي توجيه ملكي قوي لا يخلو من انتقاد أيضا لسير جلسات البرلمان ومستوى مناقشاته، شدد جلالة الملك على أن المجالس الجماعية هي المسؤولة عن تدبير الخدمات الأساسية، التي يحتاجها المواطن كل يوم، أما الحكومة، فتقوم بوضع السياسات العمومية، والمخططات القطاعية، وتعمل على تطبيقها، لافتا إلى أن الوزير ليس مسؤولا عن توفير الماء والكهرباء والنقل العمومي، أو عن نظافة الجماعة أو الحي أو المدينة، وجودة الطرق بها، بل إن المنتخبين الجماعيين هم المسؤولون عن هذه الخدمات العمومية، في نطاق دوائرهم الانتخابية، أمام السكان الذين صوتوا عليهم، كما أنهم مكلفون بإطلاق وتنفيذ أوراش ومشاريع التنمية بمناطق نفوذهم لخلق فرص الشغل، وتوفير سبل الدخل القار للمواطنين.
إن هذا التوضيح الملكي موجه أولا لبرلمانيي الغرفتين من أجل إعادة النظر في مضامين الأسئلة التي يوجهونها خلال الجلسات الأسبوعية، ودعوة لهم من أجل تقوية البعد الوطني في أدائهم، وجعل دورهم يتركز على مراقبة السياسات العمومية ومواكبة تنفيذها، أي رفع مستوى الحوار السياسي داخل المؤسسة التشريعية.
من جهة أخرى، يعتبر توقف جلالة الملك عند أهمية الانتداب الجماعي، والتذكير بدور المنتخبين المحليين، ووصف ذلك بكونه «مهمة نبيلة وجسيمة، تتطلب الصدق والنزاهة وروح المسؤولية العالية، والقرب من المواطن، والتواصل المستمر معه، والإنصات لانشغالاته الملحة، والسهر على قضاء أغراضه الإدارية والاجتماعية»، بمثابة رسالة قوية لكامل الطبقة السياسية في أفق الاستعداد للاستحقاقات الجماعية المقبلة، وضرورة الحرص على تمكين بلادنا ومجالسنا المحلية والجهوية من كفاءات تتمتع بالمصداقية السياسية والأخلاقية، وأيضا القدرة المعرفية والتدبيرية.
وإن اختيار جلالة الملك التركيز على مدينة الدار البيضاء لا يعتبر فقط تجاوبا وتفاعلا مع ما تعبر عنه الساكنة البيضاوية منذ سنوات من مطالب وشكاوى، وهو ليس فقط تعبيرا عن متابعة جلالته لما يجري في مختلف مناطق المملكة بشكل حثيث ودقيق، وإنما مرده أساسا لكون العاصمة الاقتصادية للبلاد هي وجه المملكة الحداثي المنفتح على العالم، وهي التجسيد العملي الملموس للمغرب المعاصر المتحرك والدينامي والمتطلع إلى التقدم والتنمية والحداثة، ومن ثم، فلم يعد مقبولا أن تعيش الدار البيضاء ضمن اختلالات وفضائح كما لو أنها بعد تحيا في القرون الماضية، أو كما لو أنها مجرد قرية كبيرة أو اصطفاف مساكن بلا تخطيط أو سياسة أو تهيئة أو أفق.
عندما يعلن جلالة الملك وضوحا وجهارا بأن الدار البيضاء تعاني أساسا من ضعف الحكامة، فإن ذلك يعتبر إدانة لمسار تدبيري لابد اليوم من تغييره، ولابد من جعل الاستحقاقات المقبلة مناسبة لبروز منتخبين ذوي كفاءة سياسية وتدبيرية ومعرفية للنهوض بالعاصمة الاقتصادية للمملكة.
الرسالة اليوم هي أن الانتداب البرلماني والجماعي هما عماد الممارسة السياسية التشاركية، التي ارتضاها المغاربة، والتي لن تستقيم في غياب إحداها.

Top