الرواية في الأدب الفلسطيني المَحلي

إن فنَّ الرّواية في الأدب الفلسطيني المَحلّيِّ ما زالَ في البداية، أي في التّجريب، إذ أنّ معظمَ ما نُشر من روايات تفتقدُ للعنصر أو للمُركّب الرّوائيِّ الأساسيِّ، لكن قد نتساءلُ: لماذا هذا النوع بالذّات تأخّرَ عن الأجناس الأدبيّة الأخرى كالقصّة والشِّعر؟. هل لذلكَ علاقةٌ بالواقع الاجتماعيِّ والسّياسيِّ مَحلّيًّا؟ وهل كلُّ ما نُشِرَ يفتقرُ إلى مُقوّمات عديدة هي الأساسُ في كتابة الرّواية؟.

تظهرُ على السّاحةِ الأدبيّة بينَ الفترة والأخرى رواياتٌ، تكادُ تكونُ تاريخًا وتوثيقًا خاليًا من الدّهشة وتَفجُّر اللّغة، إذ إنّ كتّاب الرّواية لم يستطيعوا حتى الآن الخروجَ مِن إطارِ الكتابةِ الخطابيّةِ التّاريخيّةِ، وهناكَ مَن يُحيلُ ذلكَ إلى أسبابٍ منها؛ الظّروفُ الّتي يعيشُها الفلسطينيُّ، والّتي أدّتْ إلى إشكاليّةٍ كبيرةٍ في قدرةِ الكاتبِ، بالتّعاملِ معَ الخطابيْنِ التّاريخيِّ والأدبيِّ. لكن، بينَ هذا وذاك نتساءلُ:

أينَ قدرةُ الكاتبِ في التّوازن ما بينَ الخطاب التّاريخيِّ والإبداعيّ؟ للأسف الشّديد أكثريّةُ الإنتاجات الأدبيّة سيطرَ عليها الخطابُ التّاريخيّ، وكان ذلك على حساب الخطابِ الأدبيّ، وهنا تبرزُ هذه الإشكاليّةُ بالأدب السّياسيّ، بسبب الوضع القائم محلّيًّا من صراع وعدمِ استقرارٍ، بعد أن ذاقَ شعبُنا الاحتلالَ والتّهجيرَ عبْرَ هذا التّاريخ، ليَحملَ أدباؤُهُ جمراتٍ محترقةً كرَدِّ فعلٍ ودفاعٍ عن القضيّةِ، مِن أجل إلهابِ الجماهيرِ، وتحريكِ نفوسهم العطشى للمقاومةِ والإصرار، وبما أنّ الإبداعَ “فانتازيا” وتحليقٌ بعالمٍ آخرَ متخيّلٍ وساحرٍ، فيدخلُ المبدعُ في حالةٍ بينَ الوعيِ واللاّوعي، لذا؛ ليسَ مِنَ المعقولِ تخطيطُ وبرمجةُ قوانينٍ، ووضْعُ العملِ الإبداعيِّ داخلَ أطرٍ مهندسةٍ، عندَها سيفقدُ العملُ فنّيّتَهُ، ومن هنا ندركُ أن على المبدعِ أن لا يضعَ أمامَهُ معادلةً للموازنة، بل عليه استشراق الجوانب الكاملة للحدث، ولا أن يكتبَ الحدث كما هو، بل يحاول تكوينَهُ من جديد، فينفخ فيه روحا جديدة متناغمة، كتعبير عن أيِّ حدث وكأنّه شاملٌ للحدث، وذلك بالخروج من كلاشيه التّقريريّة أو الكتابة الصّحفيّة، وباحتواءِ وإدراك ما يكتبُه.

ونتساءلُ.. هل للرّواية في أدبنا المحلّيِّ هُويّة أو بطاقة تعريف؟ وهل دوْرُ النّقدِ سلبيًّا فقط؟

علينا الاعتراف أنّ حركةَ النّقدِ غائبةٌ كقيمةٍ أدبيّة، لأنّ معظمَ النّقدِ في الرّواية هو عمليّةُ استعراضٍ للعمل، أو عدمِ الالتفاتِ لِما يجري في الحركةِ النّقديّةِ في الإبداع المَحلّيّ، وإن تمّ الالتفاتُ فالنّاقدُ لديهِ مِن أسماءِ الرّوائيّين مَن يعرفُهُ ليُبرزَ اسمَهُ، وتُغيّبُ أسماءٌ أخرى في ظلِّ الأسماءِ المعروفةِ والكبيرة، وخاصّةً في شعرِ المقاومةِ، الّذي طغى على الرّوايةِ والقصّةِ القصيرة.

لا ننكرُ أنّها ظهرتْ على السّاحةِ الأدبيّةِ الرّوائيّةِ إسهاماتٌ قبلَ عام 1948، لكنّها قليلةٌ، لم تُضِفْ للإبداع الحقيقيِّ الّذي كُتب في العالم العربيِّ حينَها. بعدَ الخمسيناتِ ظهرتْ رواياتٌ، لكنّها لم تُشكّلْ مرجعًا فنّيًّا مِن حيثُ المستوى، وحتّى وإن كانتْ ناضجةً، لذا فالجوابُ على بطاقةِ الرّوايةِ، أنّ قلّةٌ مِن الرّواياتِ خرجتْ عن الإطار المألوف، والّتي غلب عليها الخطابُ التّاريخيّ، ولم ترتَقِ بالعملِ إلى التّشويقِ والإدهاش، لذا فالانتقالُ أدّى إلى ركودٍ نقديٍّ، وأيضًا إلى محاولات أخرى باءت بالفشل وعدم الاستمراريّة. اليوم نرى أن هناكَ حركةٌ أدبيّةٌ نشطةٌ، إن كان شعرا أو قصّة أو رواية، لكن تبقى الجوانب الأهم، وهي المؤسّسات الثّقافيّة ودور النشر ووسائل الإعلام، والسّياسة الدّاخليّة في دمْج حضارتيْن داخل ثقافة واحدة، وماذا عن الكاتب نفسه وقضيّة التّوزيع؟ وأين وكيف؟

الرّواية كنوع أدبي فنّي تحتاج لوقت كبير، واليومَ وفي زحام هذه المعمعة بينَ التّطوّر والحرّيّة، وبين التّحدّي الّذي كان من نصيب من عاشروا وعاشوا زمنَ النّكبة، وتحدّوا للظّروف الصّعبة، للحفاظ على اللّغة العربيّةِ مِن القمع؟

هل نحنُ اليومَ بحاجةٍ لجسمٍ سياسيٍّ لولادة روايةٍ، نطلق عليها “أدب المقاومة” كما “شعر المقاومة”؟ برأيي؛ إنّنا بحاجةٍ لعمل روائيٍّ فيه اختراق، ولغة روائيّة تدهشُنا وتنقلُنا من المكان وتتصاعد، بحيث تعزّزُ فكرةَ الواقع التّاريخيّ وفنّيّةَ اللّغة، دونَ هضْمِ أحدِ الجانبيْن، فما الّذي يمنعُ روائيًّا مبدعًا خلاّقًا أن يجمعَ بينَ الخطابين، حتّى لو كانت الرّواية بمضمونها تحكي تاريخ فلسطين ومعاناته؟

وأحيانا كتوثيق لذاكرة شعبنا، ما الّذي يمنع روائيا أن يخوض هذا النوع من الفنون ويستمر في الكتابة، وهو لا يمكنه الخروج من تلبس لغة الخطابة والأسلوب التّقريري في أعماله الرّوائيّة.

لست هنا بموقف المقارنة ولا بالنّاقدة، لكنّني أتابعُ ما يُنشر محلّيًّا وعالميًّا، وأرى كم تفتقر الرّواية المحلّيّة لمن يخرجها مِن ركودها ويحييها مِن جديد، وأنا أؤكّدُ أنّ المبدع في أيِّ عمل أدبي كان، يستطيع أن يسمو بلغتِهِ الفنّيّةِ، فاللّغةُ ليستْ جمادًا ولا حِكرًا لقاموسٍ ومُعجمٍ معيّن، بل على المبدعِ أن يُواكبَ عمليّةَ الحداثةِ في حياتِنا اليوميّة، اجتماعيًّا ثقافيًّا وسياسيًّا، ليُطوّر أساليبَهُ الفنّيّة، وهنا لا أطالب الرّوائي في أدبنا المحلِّيِّ بالتّخلّي عن إنتاجٍ أدبيٍّ يَحكي تاريخَ أرضنا، ويُوثّق ذاكرة شعبنا، لكن بإمكان هذا العمل الرّوائيِّ أن يكونَ مكتمِلاً، إذا استطاعَ الرّوائيُّ أن يُوازن بين التّاريخ وفنّيّةِ الكتابة.

Top