في… الذات المهنية

أكثر من واقعة حدثت في الفترة الأخيرة كشفت عن إقدام صحف ومواقع إلكترونية على نسب أشياء لشخصيات عمومية، تبين أنها لم تكن صحيحة، بل إن تصريحات بأكملها نسبت لأطراف حزبية أكدت أنها لم تدل بها أصلا، أو أنها نشرت مخلوطة بفهم من نقلها، وأحيانا برأيه حتى، وبدا الفهم والرأي والتحليل كما لو أنه هو التصريح المنسوب لزعيم حزب أو وزير.
وحتى إن لم يكن الأمر قد وصل إلى حد اعتباره ظاهرة في مشهدنا الإعلامي الوطني، فهو يستحق الاهتمام فعلا، ويجب الانكباب على معالجته بالتكوين واحترام أخلاقيات المهنة من لدن مهنيي القطاع والعاملين فيه وهيئاتهم التمثيلية.
في السياق نفسه، لاحظنا كذلك، على هامش المشاورات الجارية لتشكيل أغلبية جديدة، بروز كثير كتابات في كل مرة تبشر بسيناريو وتقدم لائحة وزراء، وبعدها بأيام تنسى أن «تقيل» أعضاءها ثم تقدم لائحة أخرى مختلفة، وفي كل مرة يكون المرتكز هو هذه المصادر المطلعة العجيبة التي تحولت إلى لعبة تستهوي الكثيرين في مهنتنا.
وقبل الوصول إلى مرحلة الترويج للمستوزرين، كان بعض كتبتنا يقدمون بين الساعة والأخرى سيناريوهات المستقبل بحسب غاياتهم أو … غرائزهم، ومرة يعتبرون هذا الحزب هو الضحية، ومرة يعتبرون ذاك، ولا أدري هل سيتجرأ هؤلاء عندما تصدر التشكيلة الرسمية والنهائية للحكومة المرتقبة على الاعتذار للقراء على كل «التخربيق» الذي دبجوه طيلة أسابيع على صفحات منشوراتهم.
قد يكون مرد هذه «البدائية» إلى شح المعلومات ومصادر الأخبار في منظومتنا السياسية والمؤسساتية الوطنية، وهو ما يستدعي فعلا تقنينه وتفعيل ديناميته، ولكن ذلك لا يشفع لأي أحد أن يروج اللامعنى ويقدمه للناس على أنه حقائق و… أخبار، فضلا على أن بعض العجيبين جدا، حتى عندما تصدر قرارات مؤكدة بشأن وقائع حدثت من قبل، فهم يصرون على الكتابة «بأثر رجعي»، وإعادة نشر فهمهم الخاطئ للأشياء ضدا على… المعنى، والمشكلة أنهم يرتبون على ذلك مواقف وافتتاحيات…
إن هذه اللامهنية «توكور» لا تسيء فقط لمشهدنا السياسي، وتحوله إلى عبث لا يطاق، وإنما هي تسيء إلى مهنتنا المنهكة أصلا بالاختلالات، وتزيد من نفور القراء وعموم شعبنا من صحافته، وتكرس افتقار الصحافة الوطنية إلى المصداقية والتحري والجدية.
الصحافة السياسية التي تقوم على التحليل النزيه والرصين، وعلى الرأي الواضح، وعلى المصداقية والتحري، وعلى الفصل بين الأجناس، هي ضرورية لإنجاح مسلسل التأهيل والتحديث السياسيين في بلادنا، وأيضا لدعم الديمقراطية والتعددية ومواجهة تكلس الأفكار والمواقف والممارسات في الحقل الحزبي والانتخابي والمؤسساتي، ومن ثم وجب الانتباه إلى العورات الفاضحة في القطاع وفي سيره العام، والانكباب على معالجة الاختلالات وفق مقاربة شمولية مستعجلة، يلعب المهنيون أنفسهم فيها الدور المحوري.
الصحافة الوطنية يجب أن تبقى حليفة وداعمة وفاعلة في البناء الديمقراطي والحداثي للبلاد، وفي إشعاع المصداقية والجدية في حياتنا السياسية.
[email protected]

Top