رواد في تاريخ الإسلام..آثروا الثورة على الثروة -الحلقة 9-

“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…

أحمد ياسين.. الكرسي المُتحرك الذي قهر الميركافا الإسرائيلية

رائد الجهاد في فلسطين الأب الروحي لأطفال الحجارة

على هذه الأرض ما يستحق الجهاد

 عندما كان البريطانيون يجلبون الجراد الصهيوني من كل أصقاع الأرض لينشروه في ربوع فلسطين وليؤسسوا فيها بسطوة القوة المدججة بالأساطير دولة تسمى (إسرائيل) في عام 1948، كان أحمد ياسين في العاشرة من عمره حين تعرض سريعا (عام 1952) لحادث وهو يمارس الرياضة على شاطئ غزة ما أدى إلى شلل شبة كامل في جسده تطور لاحقاً إلى شلل كامل لم يثنه عن مواصلـة تعليمه وصولاً إلى العمل مدرساً للغة العربية والتربية الإسلامية في مدارس وكالة الغوث بقطاع غزة… كان المد القومي في تلك الأثناء (فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين) قد بلغ مداه فيما اعتقل الشيخ من قبل السلطات المصرية التي كانت تشرف على غزة بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين ليرجع إلى القطاع من جديد ويقول قولته الشهيرة “إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة والجهاد…”.

حماس  ومشوار المقاومة

بدأت قدرات الشيخ ياسين الخطابية والتنظيمية تظهر بشكل ملموس حينما كان يشارك في المظاهرات التي اندلعت في قطاع غزة إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وهو لم يتجاوز العشرين ربيعا، لينشط مع رفاقه في الدعوة إلى رفض الإشراف الدولي على غزة مؤكدا على ضرورة عودة الإقليم إلى الإدارة المصرية آنذاك…. وبدأت بذلك مواهب الشيخ الخطابية تظهر بقوة وبدا نجمه يلمع وسط دعاة غزة الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية العاملة هناك لتقرر اعتقاله من جديد بدايات العام 1965 ضمن مجموعة من الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية، حيث استهدفت كل من سبق اعتقاله من جماعة الإخوان المسلمين عام 1954 ليبقى حبيس الزنزانة الانفرادية قرابة الشهر تقريبا قبل أن تفرج عنه السلطات المصرية من جديد لعدم وجود علاقة تنظيمية بينه وبين الإخوان المسلمين.. وقال حينها الشيخ: “…..لقد تركت فترة الاعتقال آثارا نفسيا مهمة بالنسبة لي لكنها عمقت في نفسي كراهية الظلم وأكدت لي بأن شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية وكرامة ..”.
عاد الشيخ ياسين بعد هزيمة 1967 التي احتلت فيها (إسرائيل) كل الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة ليلهب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباسي الذي كان يخطب فيه لمقاومة المحتل، وفي الوقت نفسه نشط في جمع التبرعات ومعاونة أسر الشهداء والمعتقلين، ليتفق مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي بغية تحرير فلسطين أطلقوا عليه “حركة المقاومة الإسلامية” المعروفة اختصارا باسم “حماس” التي بدأت مشوار المقاومة بانتفاضة المساجد عام 1988 ليضحى بذلك الشيخ ياسين الزعيم الروحي للحركة داعيا بتسليح الشعب الفلسطيني والاعتماد على السواعد الوطنية لتحرير فلسطين وكان يقول حينها: “… لا جدوى من الاعتماد على المجتمع الدولي في تحرير فلسطين..، لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت تحارب (إسرائيل) السلاح من أيدينا بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوة الجيوش فارتبط مصيرنا بها ولما هزمت هزمنا وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين، ولو كانت أسلحتنا بأيدينا لتغيرت مجريات الأحداث”..

اعتقاله.. ومحاولات الإفراج
بعد ازدياد أعمال الانتفاضة الأولى، بدأت السلطات الإسرائيلية التفكير في وسيلة لإيقاف نشاط أحمد ياسين فداهمت بيته في غشت 1988 وفتشته وهددته بنفيه إلى لبنان….، وعند ازدياد عمليات قتل الجنود الإسرائيليين وتصفية العملاء المتعاونين مع المحتل الصهيوني قامت سلطات الاحتلال يوم 18 مايو 1989 باعتقاله مع المئات من أعضاء وكوادر وقيادات حركة حماس، وصدر حكم يقضي بسجن ياسين مدى الحياة إضافة إلى 15 عاما أخرى عليه في يوم 16 أكتوبر1991 وذلك بسبب تحريضه على اختطاف وقتل الجنود الإسرائيليين وتأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس والتي فتحت صفحة جديدة من تاريخ الجهاد الفلسطيني، ونتيجة لذلك (لاعتقال الشيخ ياسين) حاولت مجموعة فدائية تابعة لكتائب عز الدين القسام /الجناح العسكري لحماس، الإفراج عن الشيخ ياسين ومجموعة من المعتقلين في السجون الصهيونية، بخطف جندي إسرائيلي قرب القدس يوم 13 ديسمبر 1992 وعرضت على (إسرائيل) مبادلته نظير الإفراج عن هؤلاء المعتقلين، لكن السلطات الإسرائيلية رفضت العرض وقامت بشن هجوم على مكان احتجاز الجندي مما أدى إلى مصرعه ومصرع قائد الوحدة الإسرائيلية المهاجمة واستشهاد قائد مجموعة الفدائيين ليبقى ياسين داخل أسوار السجون الإسرائيلية حتى فجر يوم الأربعاء (فاتح أكتوبر 1997) ليتم إطلاق سراحه وإبعاده إلى الأردن بعد ثمانية أعوام ونصف من الاعتقال بعد تدخل الملك الراحل الحسين بن طلال مقابل الإفراج عن الجنود الإسرائيليين الذي حاولوا اغتيال خالد مشعل بالعاصمة الأردنية عمان، ليعود من جديد بعد تلقيه العلاج إلى قطاع غزة وتفرض عليه الإقامة الجبرية تارة من طرف قوات الاحتلال الإسرائيلي وتارة من طرف السلطة الفلسطينية التي كانت تلجأ دائما من خلاله للضغط على حماس وسياساتها الرافضة للاتفاقيات مع الاحتلال رغم إقرارها بأهميته (ياسين) للمقاومة الفلسطينية وللحياة السياسية الفلسطينية …

استشهاد شيخ فلسطين

في 13 يونيو 2003، أعلنت المصادر الإسرائيلية أن ياسين لا يتمتع بحصانة وأنه عرضة لأي عمل عسكري إسرائيلي، لتسارع مقاتلات الاحتلال الإسرائيلي لاغتياله في محاولة فاشلة في 6 سبتمبر/ أيلول 2003 ، بإلقاء قنبلة زنة ربع طن على أحد المباني في قطاع غزّة، وكان أحمد ياسين متواجداً في شقّة داخل المبنى المستهدف مع مرافقه إسماعيل هنية، فأصيب ياسين بجروح طفيفة جرّاء القصف….، وأعلنت الحكومة الإسرائيلية بعد الغارة الجوية أن أحمد ياسين كان الهدف الرئيسي من العملية الجوية،لتتحقق أمنية الاحتلال في النيل من شيخ المقاومة أثناء خروجه من مسجد المجمع الإسلامي الكائن في حي الصّبرة في قطاع غزة، وأدائه صلاة الفجر في يوم الأول من شهر صفر من عام 1425 هجرية الموافق 22 مارس من عام 2004 ميلادية بعملية أشرف عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ارئيل شارون عبر إطلاق مروحيات الأباتشي الإسرائيلية ثلاثة صواريخ تجاه المقعد وهو في طريقه إلى سيارته مدفوعاً على كرسيه المتحرّك من قِبل مساعديه، اغتيل ياسين في لحظتها وجُرح اثنان من أبناءه في العملية، واغتيل معه 7 من مرافقيه، وسالت الدموع بغزارة من عيون الفلسطينيين حزنا على فراق الشيخ أحمد ياسين زعيم ومؤسس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” .. في حين علت أصوات المساجد مؤبنة هذا الرجل القعيد الذي شهدته ساحاتها خطيبا وداعية ومُحرضاً للناس على الجهاد والمقاومة، لتتلبد السماء بدخان اسود انطلق من النيران التي أشعلت في إطارات السيارات بغزة، وليضج صمت المدينة بأصوات القنابل المحلية ليهرع آلاف الفلسطينيين من نومهم غير مصدقين النبأ (نبا استشهاد شيخ الانتفاضتين كما يطلق عليه) وتختلط المشاعر أمام ثلاجات الشهداء بمستشفى الشفاء بغزة، شبان يبكون وأطفال يهتفون ومجاهدون يتوعدون بالثأر وشيوخ التزموا الصمت ودموع تحجرت في المقل حزنا على الشيخ الذي طالما رأوا فيه الأب قبل القائد والأخ قبل المقاتل العنيد الذي ربى أطفال فلسطين ليحملوا الحجارة ويحرسوا الأرض التي “تستحق الجهاد”، ويعد أول قعيد على مستوى العالم يواجه بـ “الكرسي المتحرك” دبابات “الميركافا” ويكلف جيش الاحتلال الصهيوني مجلس حرب وتحريك طائراته وفرض حالة من السرية حول العملية التي أشرف عليها رئيس وزراء الصهاينة بنفسه وأرسل المقاتلات الأكثر تجهيزا وضراوة لحماية طائراته من أعلى، واغتالته يوم 22 مارس 2004.

“…ربما يكون هذا اليوم (22 مارس) يوم حزن بالنسبة للشعب الفلسطيني وللأمة العربية والإسلامية، حين تفقد فلسطين رفيق دربها ورمزا من رموزها، وربما يكون اليوم يوما تلبس فيه فلسطين ثوب الحداد تودع فيها الأب الروحي للمجاهدين الفلسطينيين، حين يختلط فيه الدم الطاهر الزكي الذي تفوح منه رائحة المسك والعنبر.. ربما نبكيك اليوم ولكن ستبقى رمزا لنضالنا وجهادنا، فالعهد هو العهد والرد هو الرد على مواصلة الجهاد حتى تحرير فلسطين…، فنم قرير العين أيها الشيخ الجليل وهنيئا لك الشهادة التي ناضلت من أجلها ودعوت الله أن تكون من نصيبك فمبروك لك هذا الوسام العظيم ونسأل الله تعالى أن يجعلك من الشهداء البررة، فإلى العليين مع الأنبياء والصديقين بإذن الله….”، بهذه الكلمات نعى إسماعيل هنية فجر يوم الثاني والعشرين من مارس للعام 2004 عند سماعه نبأ استشهاد شهيد فلسطين الشيخ احمد ياسين الذي ولد في قرية جورة عسقلان قضاء المجدل شمال قطاع غزة المحتل في الثامن والعشرين من يونيو عام 1936 قبل أن يجبر للنزوح وعائلته إلى قطاع غزة بعد حرب العام 1948….

> إعداد: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب

Related posts

Top