أزمات العالم الاقتصادية -الحلقة 9-

تعتبر الأزمات المالية والإقتصادية إحدى أبرز الظواهر الإقتصادية التي يكون لها أثرا عميقا على حركة النشاط الاقتصادي وعلى العلاقات الاقتصادية الدولية.
وتحتاج الأزمات المالية، مدة زمنية قد تكون طويلة جدا، للتعافي من آثارها السلبية، كما أنها تهدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي للعلم بشكل عام والدولة المعنية بشكل خاص.وأمست الأزمات المالية والاقتصادية من أبرز سمات العقود الأخيرة، مثيرة اهتمام اهتمام الكتّاب والباحثين والاقتصاديين وحتى السياسيين في مختلف دول العالم وتطور الفكر الاقتصادي الذي يتناول الأزمات ويبحث في مسبباتها وكيفية معالجتها.
ولا غرو أن الأزمات الإقتصادية والمالية لها آثار سلبية عديدة تتعدى الجانب الاقتصادي ممتدة إلى الجوانب الأخرى كالسياسية والاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها، لذا فإن دول العالم تحاول قدر الإمكان التخفيف من آثار هذه الأزمات.
وفي هذا الصدد، سنحاول خلال هذه الفقرة اليومية طيلة هذا الفضيل، تسليط الضوء على أبرز الأزمات الاقتصادية التي عرفها العالم، مسلطين الضوء على سياقها وأبرز أسبابها ونتائجها.

“انهيار عام 1962”

وسنتطرق في فقرة اليوم، ل”انهيار عام 1962″، عرف اقتصاديا بالهبوط السريع لأسواق المال الأمريكية إبان حكم الرئيس جون كينيدي، وامتد الانهيار من نهاية عام 1961 حتى منتصف عام 1962، وقد حدث بعدما حققت هذه الأسواق نموا متصاعداً لعقود منذ أزمة 1929، ولم تتعاف الأسواق الأمريكية إلا مع اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية.

وبعدها جاءت مرحلة تصحيح لوضع السوق، تعرف لدى المتداولين في البورصات بفترة تلي بلوغ مؤشرات الأسهم مستويات مرتفعة جداً، تعقبها مرحلة بيع واسعة لجني أرباح ارتفاع الأسعار، وهنا خسر مؤشر ستاندرد آند بورز 22.5% من قيمته، وهبط مؤشر داو جونز بنسبة 5.7%، وهو ثاني أكبر هبوط للمؤشر الثاني في تاريخه.

في الثامن والعشرين من مايو حدث “انهيار صاعق”. وإن كنت لم تلحظ ذلك فلأنه لم يقع في 2010 بل في 1962. وتوفر ذيوله بعض الخيوط لما يمكن أن يحدث في أعقاب الانهيار الصاعق الذي وقع في السادس من مايو الماضي.

ففي 29 ماي 1962 كتبت صحيفة وول ستريت جورنال تقول: “هبط سوق الأسهم أمس, وأحدث هزة وانهاكاً بين المتداولين”. وهبط مؤشر داو جونز الصناعي 5.7 في المئة في ذلك اليوم متراجعاً 34.95 نقطة، وكان ذلك ثاني أكبر هبوط تم تسجيله.

وتضيف الصحيفة : “الهبوط كان شديد الوقع بالنسبة الى حجم التداولات الى درجة ان مسجل العمليات لم يتمكن من إنهاء الإبلاغ عن صفقات القاعة حتى الساعة 5:59 مساء أي بعد ساعتين و29 دقيقة على موعد إغلاق السوق”.

ومثل الانهيار المفاجئ هذه السنة حدث التغير في السوق في 1962 بعد تحسن دفع العديد من المستثمرين الى الشعور بالرضا. وفي عام 1961 ارتفعت الأسهم 27 في المئة مع تداول أسهم التقنية الرائدة مثل “أدوات تكساس” وبولارويد بمكاسب بلغت ما يصل الى 115 ضعفاً. ثم, وبدون إنذار, هوت الأسهم.

وانخفضت بعض الأسهم الرابحة مثل ATandT دون توقف طوال اليوم ولكن غيرها من الأسهم هبط بسرعة أثارت هلع المستثمرين الذين لم يألفوا تقلبات السوق. وفي فترة ما بعد الظهر هوت أسهم مؤسسة آي بي إم مثل صخر اسقط من ارتفاع شاهق. وقد هبطت تلك الأسهم التي كانت تتداول قبل يوم واحد عند 398.5 دولارا من 375 دولارا الى 365 دولارا خلال دقيقتين ووصلت الى 360 دولارا بعد 6 دقائق لتستقر بعد ذلك عند 355 دولارا. وهبطت الأسهم 5.3 في المئة في غضون 19 دقيقة، وقبل ستة أشهر كانت تلك الأسهم تتداول عند 607 دولارات.

كان الهبوط في الأسهم الأصغر مثل مؤسسة برونسويك أشد قسوة، وكان سعر السهم بعد الظهر يبلغ 24 دولارا وانخفض الى 21.75 بعد 12 دقيقة أي بتراجع وصل الى 9.3 في المئة.

وفي انهيار السنة الحالية انطلق العديد من عمليات التداول وخاصة في صناديق التبادل عند أسعار مختلفة جداً عن طلبات المستثمرين. وبالمثل في عام 1962 وحسب ما جاء في تحقيق للجنة الأسهم في السنة التالية فإن “بعض الأوامر نفذت عند أسعار تختلف بشكل جوهري عن تلك التي كانت سائدة وقت إدخال الأمر”.

البعض من متداولي التردد العالي الذين يستخدمون أجهزة الكمبيوتر القوية توقفوا عن التداول في انهيار السنة الحالية منذ اللحظة التي احتاج السوق فيها بشدة الى السيولة.

وفي عام 1962 لم يكن تداول التردد العالي موجوداً, ولكن “الاختصاصيين” كانوا موجودين، ويتعين على الاختصاصيين, بموجب القانون, القيام بمحاولة تحقيق سوق عادل ومنظم لكل سهم في قاعة التداول. وعلى أي حال, أضاف تقرير لجنة الأسهم، “لم يتدخل في أي وقت خلال اليوم بكمية كافية من أجل إبطاء التدهور السريع في سعر سهم آي بي إم.

وحتى من دون وجود الإنترنت انتشر الهلع بسرعة في 1962 وتجمع المستثمرون في غرف مجالس إدارات شركات الوساطة حيث كانت اللوحات تعرض أسعار السوق. وحسب صحيفة وول ستريت جورنال “كانت غرفة وقوف فقط في ميريل لينش وبيرس وفنر أند سميث حيث اصطف الناس في مجموعات من 3 أشخاص أو أربعة في ردهة العملاء”.

وكما لاحظ تقرير لجنة الأسهم بعد سنة فإن “تصرفات السوق الغريبة أثارت قلقاً وتسببت في حدوث ارتباك في الداخل والخارج، وقد نجم عن ذلك خسارة كبيرة ومفاجئة للعديدين بينما حقق البعض قدراً من الأرباح، وأفضى الانهيار الى اثار نفسانية فورية على الولايات المتحدة.

وأمطر المستثمرون المتضررون البيت الأبيض بوابل من طلبات المساعدة والشكاوى وأعربوا, حسب تقرير لجنة الأسهم عن “استياء علني عام من السوق”. ومع خفض الناس لمشترياتهم من الأسهم ترك 8 في المئة من سماسرة الأسهم العمل طوال 1962, وقد أثرت الضربة حتى على الشركات العملاقة مثل ميريل لينش التي هبطت أرباحها الصافية بمعدل النصف عن أرقام السنة السابقة. وبينما لم تحدث هجرة جماعية بعيداً عن صناديق الاستثمار المشترك من جانب المستثمرين غير انهم خفضوا بشدة من استثماراتهم الجديدة في الصناديق التي احتاجت الى عامين من أجل العودة الى معدلات البيع السابقة.

وأفضى انهيار عام 1962 الى تصعيد الضغط على لجنة الأسهم وعلى وول ستريت لتحسين إجراءات التداول، ولكن بحلول صيف عام 1968 كانت المليارات من الدولارات تضيع في كل شهر واضطرت أسواق التداول الكبرى الى الإغلاق في ايام الأربعاء لإعطاء فرصة للوسطاء لمواكبة التأخير في عمليات المعالجة.

ويذكرنا انهيار عام 1962 أن السوق ينطوي دائماً على فوضى، وأن معنويات المستثمرين هشة على الدوام. والأكثر من ذلك فإن المشاكل التي عمل المنظمون من أجل حلها قبل نصف قرن تقريباً لاتزال قائمة اليوم وربما تكون معنا في الغد أيضا.

> عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top