الكاتب المسرع

-إلى الراحل بوطيب الحانون-
ثمة نماذج من الكتاب المبدعين الذين لا يعنون ولا يعبؤون بجمع كتاباتهم وطبعها بين دفتي كتاب، بوطيب الحانون واحد منهم.
أول لقاء لي بهذا الكاتب والمبدع الذي غيبه الموت الغادر نهاية الأسبوع الماضي، حين كنت أعمل مصححا للملحق الثقافي الأسبوعي الذي كان يصدر مستقلا ضمن منشورات البيان أواسط التسعينيات من القرن العشرين. كانت تلك الفترة تصادف إحدى الانتخابات التي كان الحانون مرشحا بإحدى دوائرها؛ فقرر أن يصحح ورقته بنفسه، وكأنه لا يثق في من ينوب عنه في التصحيح، حتى وإن كان هناك من يتكلف بهذه المهمة.
ومن عادتي في التصحيح أنني كنت أستغرق وقتا لا يستهان به في قراءة كل سطر على حدة، غير أن قراءته تمت على عجل، ولا شك أن هذه العجلة في القراءة اكتسبها من خلال تمرسه على العمل الصحافي الموسوم بالصراع ضد الوقت.
لم يطل مكوثي في قسم التصحيح؛ لألتحق بالتحرير في يومية بيان اليوم وأعمل إلى جانبه.
ومرة أخرى أنتبه إلى عشقه للسرعة؛ فعندما كنت أمسك مجموعة من الجرائد الوطنية والدولية وأستغرق في قراءتها، كان ينزعج من ذلك ويوضح أن قراءة الجرائد يجب أن تتم بشكل عمودي، بمعنى أن يتم الاكتفاء بقراءة العناوين فقط، وربما فقرة من كل صفحة أو مقال، وبالفعل ما أن كان يمسك بجريدة ما، حتى يضعها من يده ويشرع بعد ذلك في كتابة افتتاحية العدد، كان يوثر الكتابة بواسطة الريشة والمداد وليس بالحبر الجاف، وظل مخلصا لهذه العادة، وكنت أتساءل كيف لا يتضايق من هذه الريشة التي كانت تتطلب بالفعل ممارسة طويلة لتطويعها.
ومن جديد يلفت انتباهي عشقه للسرعة، وهذه المرة في الكتابة؛ فقد كان من بين الكتاب الذين لا ينتظرون الإلهام ولا يؤمنون به؛ فما أن يقترح عليه اجتماع أسرة التحرير الكتابة في موضوع ما، الذي غالبا ما يحمل طابعا سياسيا، حتى يقوم بإحضار الوريقات التي كان يعرف مسبقا أنها تكفيه لملء الحيز المحدود للافتتاحية. على هذا المنوال كان يقيس عدد الكلمات، ويشرع فورا في الكتابة: لا تشطيب، لا عجز عن توليد الأفكار، لا صعوبة في بلوغ النهاية، لا شيء كان يقف في وجه ولعه وعشقه للسرعة، ولهذا كان يسخر ممن يشكو من البطء في الكتابة وينعته بالكاتب الذي يكتب وهو نائم.
كانت الكتابة بالنسبة إليه صنو اليقظة، غير أن الفترات الوحيدة التي كان يعجز فيها عن تحدي السرعة، هو رمضان؛ فقد كان الصيام يخدره ويجعل حركاته ونطقه وخطه وكتابته وردود فعله بطيئة. وكان هذا طبيعيا، بالنظر إلى أنه خلال الأيام العادية، لم يكن يشرع في الكتابة إلا بعد أن يحضر له حارس العمارة: علبة سجائره الشقراء وقهوته السوداء وقنينة الماء المعدني الكبيرة، وكانت هذه الأشياء كلها تنفد في جلسة واحدة، ليس لأنه نهم، بل بسبب كرمه، حيث لم يكن يمنع أحدا من أن يقتسم معه مأدبته الصباحية هاته، وبمجرد ما كان ينتهي من كتابة افتتاحية العدد أو عموده اليومي الموسوم بربع كلمة، يلتفت إلينا ويقول مودعا بصوت عال:
“تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها..”
دون أن يتم بقية الحديث: “لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا”.
ورغم أن بوطيب الحانون راكم العديد من الكتابات في فني القصة والمقال؛ مما يشكل كتبا وليس كتابا واحدا، لم يحرص على طبع باكورته، ولعله كان يعي ما يتطلبه ذلك من وقت طويل في البحث عن هذه الكتابات وجمعها وإعدادها للطبع وانتظار وغير ذلك من إجراءات النشر، في حين أن ما كان يهمه هو كتابة مقاله أو نصه الإبداعي الجديد على عجل ودفعه للنشر على عجل كذلك، وبالطبع فإن المجال الوحيد الذي يمكن أن يلبي رغبته هاته، هي الجريدة اليومية ولا شيء غيرها.
هذه السرعة طالت حتى موته، حيث أن الفترة الفاصلة بين الكشف عن دائه الخبيث وأوان وفاته كانت قصيرة جدا إلى حد الصدمة.

[email protected]

Top