دروس جنازة

الوفاة المفجعة لوزير الدولة عبد الله باها، وأيضا الجنازة الحاشدة والمهيبة التي ميزت تشييعه إلى مثواه الأخير في الرباط، أجبرت كل المراقبين والحاضرين على التأمل والانتباه إلى كون المغاربة يميزون بين الشخصيات الصادقة وغيرها، وبأن السياسة لازالت مقترنة بالأخلاق والصدق عند كثير من المناضلين والقادة الحزبيين.
جنازة باها ذكرت بجنازة القيادي الاتحادي أحمد الزايدي قبل أقل من شهر في بوزنيقة، وذكرت بعض الحاضرين بجنائز أخرى  لقادة وزعماء رحلوا عنا في فترات وظروف مختلفة من تاريخ بلادنا السياسي.
لقد حضرت في بال الكثيرين جنازة الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد، وجنازة القيادي التقدمي والمفكر الاقتصادي عبد العزيز بلال قبل ذلك، وأيضا جنازة الزعيم الراحل الرفيق علي يعته، ثم جنازة الحقوقي إدريس بنزكري، وجنائز أخرى لمناضلات ومناضلين وشخصيات وطنية وأسماء أثرت بهذا القدر أو ذاك في المسار المجتمعي العام، وأسماؤهم ترددت على ألسنة كثيرين يوم دفن الراحل باها بمقبرة الشهداء بالرباط، وأقر الجميع أن الكبار بصدقهم وتضحياتهم ونبلهم لا يتنكر لهم شعبنا ولا ينسى أفضالهم.
ليست الغاية هنا إبراز أي نوع من التباهي في جماهيرية الجنائز، أو الركوب على مشاعر الناس وتحميلها أكثر مما تحتمل، وإنما القصد أن المغاربة يكرمون الصادقين من سياسييهم ويعترفون لهم بوطنيتهم وبنضاليتهم، وأن السياسة في بلادنا لا زالت تحضن  فاعلين وقادة ومناضلين لا يتعاطون معها بالشعبوية والدسائس و… برداءة القول والسلوك والموقف والعلاقات، وإنما يمارسونها يوميا لمصلحة البلاد وأهلها، ولا يصدر عنهم سفيه الكلام، وحتى عندما يختلفون فهم يمارسون ذلك بتحضر وأناقة تعبير.
إذا كانت في الجنائز من دروس، بعد دروس التفكر والتأمل وجلال الموت، فهو هنا درس الانتباه إلى أن الفعل السياسي الوطني النبيل يحضنه المغاربة ويذكرونه، ويفرض هذا الدرس أن يساهم الجميع اليوم في وقف تبخيس العمل السياسي والحزبي والانتخابي، ووقف النزول به إلى درك التفاهة والابتذال، والعمل بدل ذلك على تأهيل حقلنا الحزبي والمؤسساتي بما يتيح للسياسة أن تستعيد جديتها ونبلها واقترانها بالأخلاق والصدق والروح النضالية الوطنية.
عندما نتذكر فقط الأسماء الواردة أعلاه، وطبعا هناك أسماء أخرى لا يسع الحيز هنا لذكرها كلها، ونتذكر حضورها وفعلها في حقلنا الحزبي والمجتمعي، وما ميز مساراتها وتاريخها، فإننا فعلا نأسف لما بلغه حال السياسة عندنا اليوم، ونخشى على بلادنا من  كل هذه التفاهة التي باتت لصيقة بالسياسة بسبب عدد من أشباه الزعماء والقادة، وبسبب جهلهم وصغر قاماتهم الفكرية والسياسية والأخلاقية.
البلاد في حاجة إلى سياسيين حقيقيين نظيفي اليد واللسان والسيرة، يمتلكون كفاءات وأخلاق، وخصوصا المصداقية والشعور الوطني وبعد النظر، ومن دون هؤلاء سنبقى خائفين على مستقبل بلادنا وعلى أفقنا الديمقراطي العام.
لنتأمل جميعا دروس هذا الرحيل المتربص بنا هذه الأيام، ولنستمد منه الدرس للمستقبل.
[email protected]

Top