نظام أساسي لموظفي قطاع التربية الوطنية بنكهة “ماري أُنطوانيت”

شاهدت كباقي المغاربة كلمة السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة تحت قبة البرلمان (مجلس المستشارين)، في إطار تقديمه لإجابات حول استفسارات السادة المستشارين حول الوضعية المتأزمة التي يعيشها قطاع التعليم ببلادنا منذ صدور النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية إلى حيز الوجود بحر هذا الشهر، والرفض الصارخ والكلي لمضامينه التي تراجعت بشكل سافر عن القلة القليلة من المكتسبات التي كانت “تتمتع” بها هذه الفئة.

وقد أثارتني في كلمته إشارته إلى أن السادة الأساتذة بإمكانهم أن يحسنوا دخلهم عبر وسائل عدة، من بينها كما أشار: “التعويضات التي يحصلون عليها مقابل تصحيحهم للامتحانات الإشهادية” (امتحانات السادسة ابتدائي، والثالثة إعدادي، والأولى باكالوريا، والثانية باكالوريا). وفي نفس اللحظة، وبنوع من أنواع التداعي الحر، تذكرت القولة الشهيرة التي نُسِبت(1) إلى الملكة “ماري أنطوانيت” (1755-1793) – زوجة الملك الفرنسي لويس السادس عشر – عندما نبا إلى علمها أن شعبها يعيش فقرا مدقعا ومجاعة قاتلة، ولا يستطيع أفراده تأمين ما يسد أودهم؛ إذ قالت ما معناه: “إذا لم يكن هناك خبز للفقراء… فدعهم يأكلون الكعك”. فكانت التأملات التالية:

  • التأمل الأول:

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر التعويضات عن تصحيح الامتحانات الإشهادية سبيلا لتحسين أوضاع السيدات والسادة الأساتذة؛ وذلك لعدة أسباب:

  • لا تكون الامتحانات الإشهادية إلا في نهاية السنة الدراسية؛
  • لا تدخل عدة مواد تعليمية في خانة الامتحانات الإشهادية؛ ومنها: المعلوميات، والتربية البدنية والرياضة؛
  • لا توجد امتحانات إشهادية في عدد من المستويات التعليمية؛ وأخص بالذكر سنوات التعليم الأَولي، وسنوات التعليم الابتدائي الأُولى…
  • معدل التعويض عن تصحيح ورقة امتحان (وكلمة ورقة هنا نستعملها تجاوزا؛ لأن التلميذ قد يكتب صفحة واحدة أو أقل، كما بإمكانه أن يكتب عشر صفحات أو أكثر بحسب طبيعة المادة وقدرته على التعبير) تقل عن درهمين اثنين، ومع الزيادة التي اقترحها النظام الجديد ستقترب من معدل 8 دراهم للورقة! أي أن الأستاذ بإمكانه في نهاية الموسم الدراسي أن يحسن مستوى دخله بمبلغ مالي قد يتراوح بين 400 إلى 600 درهم يستغله بعون الله تعالى في قضاء العطلة الصيفية، وقد يوفر منه ما يمكنه من تأمين بعضٍ من حاجيات بداية الموسم الدراسي الموالي، لاسيما إن كان لديه أبناء متمدرسون!!!!
  • التأمل الثاني:

رغم أن الشُّقة الزمانية التي تفصلنا عن “ماري أنطوانيت” تتجاوز القرنين بكثير، ورغم أن الظروف التي كانت تعيشها فرنسا آنذاك كانت كارثية على أكثر من صعيد، إلا أن كلماتها بدت لي أكثر رأفة ورقة من كلمات السيد الوزير من عدة نواحٍ:

  • فمن ناحية أولى، اقترحت الملكة على شعبها أن يعوضوا الخبز – الذي يرمز هنا إلى أكل الفقير المعوز – بالكعك الأكثر رقيا والألذ مذاقا؛ وهو يرمز إلى أكل الطبقة المخملية. أي أن الملكة رأت أن شعبها بإمكانه أن يحل مشكلة الخبز بأكل الكعك – رغم ما في المسألة من سخرية مريرة – وليس بأكل شيء ما أقل من قيمة الخبز؛
  • أما من ناحية ثانية؛ فقد اقترح السيد الوزير – على خلاف ما ذُكر آنفا – تحسين دخل بعض السيدات والسادة الأساتذة (وليس كلهم لأن التصحيح لا يعني كل الأساتذة) بـ 8 دراهم بئيسة لا ترقى البتة إلى طموح إنسان مثقف متعلم يُسْهم في تكوين الأجيال، في حياة كريمة تقيه مد اليد وتعمير شركات منح القروض؛
  • ومن ناحية ثالثة – وكتركيب للنقطتين السابقتين – نظر السيد الوزير إلى موظفي وزارته باعتبارهم يلهثون فقط وراء المال، فاعتبر أي دريهمات قد تضاف إلى أجرتهم بمثابة تحسين للدخل، في حين نظرت “ماري أنطوانيت” إلى تحسين مستوى معيشة شعبها من زاوية التحسين والتجويد لا التبئيس والتبخيس. ورغم أنها لم تقدم أي شيء، ورغم أن مقولتها يُتَنَذَّر بها إلى حدود اللحظة، إلا أن معناها يبقى عميقا في ظل الأزمة التي يعيشها قطاع التعليم بالمغرب في أيامنا هذه.
  • ومن ناحية أخيرة، إذا كانت الوزارة تظن أن مطالب الإطار التدريسي مالية فقط فهي تجانب الصواب؛ ذلك أن النظام الأساسي الجديد، وطريقة التعامل مع السيدات والسادة الأساتذة جعلت من اللازم أن يُقَدَّم اعتذار لهذه الهيئة التي لا يمكن للعملية التعليمية-التعلمية أن تمضي بدونها. لا بد من أن تُرَدَّ إليها كرامتها، وأن تُنتَشل من المهانة التي أصبحت تحيط بها. من الواجب أن تُعاد للأستاذ قيمته الاعتبارية داخل المجتمع بوصفه مُكَوِّن العقول، ومُيَسِّر المعارف، وباني المواطن الصالح… وليس أن نلوح له بورقة العقوبات المذلة، وأن نرهبه ببنود مجحفة لا توجد في أنظمة قطاعات أخرى، وربما لا مكان لها أيضا بين فقرات النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (فبراير 1958). يحتاج الأستاذ إلى أن نثق فيه، وإلى أن نعلي من قيمة دوره المحوري في المجتمع، وأن نجعله أساس أي تغيير مجتمعي حقيقي يروم تحقيق الحداثة بمعناها الأصيل.
  • التأمل الثالث:

 أتساءل حقيقة عن الكيفية التي من خلالها تنظر الوزارة إلى أطرها التدريسية، وأفكر كثيرا في الطريقة التي تتعامل بها معهم، وأبحث – بيني وبين نفسي – عن تفسير مقنع قد يُبَرِّر تقزيم رجل التعليم والتقليل من قيمته. ربما للمسألة أبعاد سياسية-تاريخية تعود إلى سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وربما لأن التعليم في منظوري هو السبيل الأقوم الأنجع لتكوين “مواطن مفكِّر”، يعي حقوقه ويؤدي واجباته، ويدفع إلى إعمال العقل والتأمل في النوازل، ويفتح الباب على مصراعيه للإقبال على المعرفة بكل أصنافها، والمنهجيات بكل مشاربها، ويجعل من المألوف والمرغوب التعدد في الآراء والحوار البناء، ويقيم الفروق بين الواجب والحق والعدالة… من ناحية، والانتهازية والسوقية والابتذال والظلم… من ناحية ثانية. أليس الاستثمار في الإنسان استثمارا حقيقيا سيضمن للدولة ازدهارا قريبا لا محالة؟ لا أتحدث عن البنيات التحتية الحديثة، ولا عن المشاريع التنموية الحداثية التي أرفع لها القبعة عاليا، وإنما أتحدث عن “المواطن المفكِّر” الذي سينجز هذه المشاريع، وعن تكوينه الشخصي على المستوى المعرفي والمهاري وعلى مستوى المواقف الذاتية… هذا ما نفتقر إليه. هل للدولة نية في المضي قدما في هذا المسار الواعد؟ لا أدري. هل تفكر الدولة في إغراق الأستاذ في مشاكله الحياتية، وصراعه الدونكشوتي مع الأسعار والغلاء، وتمدرس الأبناء، ووو… أو ستتخذ موقفا تاريخيا يعيد الأمور إلى نصابها؟ أيضا.. لا أدري.

أرجو أن يتم تدارك الأمر قبل استفحاله، حتى يعود التلاميذ إلى مقاعد الدراسة، وحتى يسترجع الإطار التدريسي بعضا من كرامته المجروحة، وقليلا من الوجاهة التي أصبح المجتمع يَضِن (يبخل) عليه بها.

هامش:

1- هناك من المؤرخين من يؤكد أن مجموعة من العوامل التاريخية تبين بما لا يدع مجالا للشك أن القولة تعود إلى “جان جاك روسو” (1712-1778) في كتابه الاعترافات؛ حيث نسبها إلى نبيلة من النبيلات من دون أن يحدد اسمها.

بقلم: نبيل موميد

Top