التفاعل النصي في رواية أوسمة من رماد

تقوم رواية “أوسمة من رماد” للكاتب المغربي عبد القادر خلدون، على استعادة السارد “البطل” للحظات من عمره، مسترجعا أحداثا مضت كانت قد رسمت سيرة حياته، وهو بذلك يصارع النسيان ونزيف السنين ممتطيا صهوة الحكي ولغة البوح.ارتأينا تقسيم متن الرواية إلى محكيات تبرز مدى تفاعل الذاتي والتاريخي والإنساني في قالب الرواية التخييلية وهي: – محكي الذات/الحرب

كانت اللحظة الكبرى في النص والمهيمنة على الحكي هي لحظة الحرب، التي طبعت تاريخ البطل “أحمد” في تقاطع مع تاريخ وطنه الحديث، وتجسدت جلية من خلال مشاركته البائسة في الحرب العالمية الثانية، مع مجموعة من الشبان المغاربة بجانب فرنسا في حربها ضد ألمانيا النازية، وما خلفته هذه الحرب من قتلى وجرحى ومعطوبين في حرب وصفت بالقذرة.

حرب شارك فيها البطل السارد “أحمد” عنوة فتنتهي وتضع أوزارها، معلنة اندلاع حرب أخرى في ميدان ذاكرته، تهشمه وتحرق أحلامه حلما تلو الآخر، مخلفة هي أيضا ندوبا غائرة ووجعا في الذاكرة، ولم تستطع الدريهمات القليلة التي كان ينتظرها نهاية كل شهر من أن تخفف معاناته، لتبقى الكتابة السبيل الأوحد للحلم ومحاولة فهم ما جرى.

إنها محنة الذات ولدغة السخرية التي تسربل بها الجنود المغاربة المشاركون في هذه الحرب، ومنهم “أحمد”. هذا الشاب البدوي اليافع المملوء طموحا وأحلاما،والذي في لحظة غفلة-وضد إرادته- يجد نفسه مجندا تحت إمرة الجيش الفرنسي. حصل ذلك بتواطؤ بين المستعمر وأعوانه الخونة. ولأنه خاف على أبيه من بطش القائد الظالم، استسلم لقدره المحتوم، يقول: “ذابت أحلامي كفقات الصابون، وأنا أتلمس السراب، لملمت أنفاسي وتركت أحلامي المبددة، وصارت الأيام تمر رتيبة بلا طعم، ولا معنى، وفقدت القرية وهجها وبريقها”.

من هنا بدأت الرحلة المضنية العامرة بالقسوة نحو فرنسا، لخوض الحرب وعيش محنتها: “لم أكن أهاب الحرب والقتال بقدر ماكنت أتساءل عن مصير الأيتام والثكالى والأرامل”. فلم يجد “أحمد” بدا سوى أن يسح الضياع والتيه وسط علم لم يعهده”. أضعت نفسي وأضعت مستقبلي لاهثا خلف السراب”.

تتعمق محنة الذات وتشتد جراحها حيمنا يفقد البطل إحدى عينيه في معركة من المعارك ،فتتهاوى عليه الأسئلة التي بها تلظى قلبه واحترق: “ليتني أحارب وأنا رافع راية بلادي …كلمة مرتزق تؤرقني، تذبحني ،تخلق مني شخصا مسلوب الإرادة”

في النهاية كانت النتيجة “أوسمة من رماد”، ويزداد الأمر مأساوية بوفاة الأب سجينا مظلوما “أهذا جزاء من يدافع عن العلم الفرنسي، هذه الأوسمة على كتفي تحرقني وتتحول إلى أوسمة من رماد”.

قبلت الانضمام إلى الجيش الفرنسي مكرها حتى لا يزج بوالدي في السجن وأنا شاب في مقتبل العمر، وبعد انخراطي فيه أجد والدي مات في السجن الذي كنت أخشاه عليه حماية لصحته.”

2- محكي الذات “الوطن”

وسط ويلات الحرب يحضر الوطن بقدسيته وطهارته ليؤثث الذاكرة المزهوة بالحنين، فيعيد إليها خضرتها بعد احتراق. مع الوطن كان البطل يرسم حلم الحرية والخلاص، آملا في عودة مشرفة إلى وطنه حيث الدفء والأهل والتربة والأجداد، يقول: “خطرت ببالي الأرض والأهل والدوار والقرية لأنها مجتمعة هي مقوماتي كإنسان يعتز بوطنه وأرضه. زمن صعب يلفظني وسط لجة رعناء، وسط يم أجهل السباحة في معتركه”

يصبح الوطن ملاذا آمنا، عبر الغوص فيما تختزله الذاكرة وعبر الالتزام بمقومات الهوية الوطنية. إلى أن حقق البطل حلمه فعليا وعاد إلى وطنه، لايجني شيئا من حرب “قذرة” باحثا عن العوض في وطنه الأم: “وبقيت أعيش على أمل وحيد وهو استقلال بلادي، الأمل الذي أنساني عيني. أنساني كل الأحزان والسجون. فأنا منذ اليوم لست جنديا مرتزقا وإنما أحارب من أجل هدف نبيل وسام”

أحمد أنهى معركة في فرنسا، ليبدأ أخرى في وطنه الذي يعاني تبعات محنة السنوات العجاف والمرض الفتاك والاستعمار المتسلط.

3 محكي الذات “الحب”

في خضم أحداث التاريخ والحرب والحنين للوطن -الأم- وصراع الهوية، تبرز تجربة الحب والمغامرة التي عاشها “أحمد” مع المرأة الفرنسية “سوزان” التي أحبها من أول نظرة، لتغدو بصيص الأمل الذي يعيش من أجله بعيدا عن وطنه ووسط حرب قذرة. فوصل شغفه بهذه المرأة أن أطلق اسمها علىالقرية التي كان يستوطنها مع الجنود أيام الحرب: “مرت ثلاثة أشهر بصقيعها وثلجها، ونحن نحارب أو نترصد العدو في الخنادق وسط مناخ لم أعشه من قبل، وكلما تذكرت “سوزان “ارتفعت معنوياتي. أعيش على أمل أن ألقاها مرة أخرى، لأعرض عليها الزواج، واعود بها إلى الدوار، حيث البساطة والدفء والحنان، حيث الحياة الهادئة البسيطة”.

خمدت نار الحرب العالمية وهو في وطنه، فقرر العودة إلى فرنسا مرة أخرى، بحثا عن “سوزان”، ماكاد ينهي معركة نال منها أوسمة من رماد وشحت صدره، حتى دخل أخرى يصبو من ورائها لأوسمة العشق الدائمة التوهج ،عله يعوض المأساة التي عاشها ولا يزال.

عثر عليها بأحد المطاعم الباريسية مصادفة لتقول له ببرودة: “من الأفضل يا “أحمد” ألا تعود لهذه المطعم ،جراح الذاكرة لا تندمل، جئت متأخرا”.

خيبة أخرى وأوسمة رماد أخرى وانهيار حلم آخر، فلم يتبق سوى ابتلاع اللحظات المريرة وتبدد الأمل الذي بدأحلما وانتهى حلما، “وانهارت آخر حلقة على رصيف الضياع في زمن الضياع”.

هكذا تفاعل بحميمية مائزة التاريخي المستدعى مع الذاتي والمجتمعي والإنساني، كل ذلك في قالب متخيل هو (الرواية)، تفاعل نجح “خلدون” في صهره وتشكيله إبداعيا عبر مراحل ثلاث تشكل مبادئ الاستدعاء التاريخي في النص الروائي كما حددها شعيب حليفي، وهي الاختيار، والتحويل ثم التأويل. وهي مبادئ متداخلة يفضي بعضها لبعض ومرتبطة ببعد التلقي والنسق والسياق.

فتوفق الكاتب إلى حد بعيد في اختياره المادة التاريخية التي تلقاها وانحاز إليها، مدفوعا برغبة فنية واعية، محولا إياها لبنيات رمزية دالة، أكسبت الرواية بعدا جماليا، فخدمت قصده الفني والأيديولوجي.

Top