أكاديميون مغاربة يحتفون بالناقد الأدبي السوداني عبد الله الطيب

حتى لا ننسى الدور الذي اضطلع به في خدمة الدرس النقدي بالجامعة المغربية ومساهمته في بناء جيل رصين من الباحثين

يعد الناقد السوداني الراحل عبد الله الطيب من النقّاد المبرِّزين في ميدانهم، وقد شهد له القاصي، والداني بنبوغه الأدبي بشتّى مجالاته الخصبة، وينحدر عبد الله الطيب من عائلة سودانية معروفة بالعلم، والأدب هي “عائلة المجاذيب”، وقد ولد عبد الله الطيب في الثاني من شهر يونيو عام 1921م، في قرية التميراب الواقعة بالقرب من مدينة الدامر في شمال السودان، ولست ــ هنا ــ بصدد وضع ترجمة لحياته؛ فعبد الله الطيب أشهر من نار على علم، كما يقال..
ما يهمنا ـ الآن ـ هو أن عبد الله الطيب قد درّس بمدينة فاس المغربية في السبعينيات، وقد اهتم بالتدريس بالجامعة بحثا، وإشرافا، وتأطيرا ما يقارب تسع سنوات، وقد تخرج به علماء كُثْرٌ أفذاذ. ومعلوم أن جامعة فاس قد درّس بها كثير من علماء المشرق، وتعاقبوا على التدريس بالجامعات المغربية. والسبب في مجيء عبد الله الطيب إلى جامعة فاس يحكيه أحدُ علماء المغرب عبد السلام الهرّاس الذي كان مدرسا للأدب الأندلسي: “وكان لأخينا الحبيب الدكتور عباس الجراري الفضل في ترغيب الدكتور عبد الله الطيب في العمل بالمغرب، ولا أنسى الفرحة العارمة التي دفعت أخي الدكتور عبد اللطيف السعداني ليزُفّ لي البشرى بقدوم الدكتور عبد الله الطيب المجذوب رحمهما الله جميعا…”.

العلامة عبد السلام الهرّاس: آية فريدة في الحفظ وحضور البديهة وقوة الاستشهاد

إن من المغاربة الذين تعاملوا معه مدة طويلة، واستمرت صداقتهم معه حتى بعد خروجه من الجامعة المغربية عبد السلام الهرّاس الذي كان ينعت الناقدَ عبدَ الله الطيب بــ: “علامة العرب”؛ نظرا لما رآه منه من سَعَة العلم، والفهم يقول عنه: “كان عبد الله الطيب آية فريدة في الحفظ وحضور البديهة وقوة الاستشهاد، والأجوبة المسكتة، والنوادر المفحمة، واللطمات المثيرة للسخرية، والضحك والإعراض المخزي، أما آراؤه النقدية وأفكاره الأدبية وآفاقه العلمية، فحدث عن البحر ولا حرج… وما زلت أذكر جوابه الساخر لأحد الدكاترة الذين بهروا المستويات العلمية الضحلة ببعض كتبه عندما سمعه الدكتور عبد الله الطيب يعرض فكرته في ندوة بمدريد فعلق عليه بطلب من رئيس الجلسة فقال: “إن هذا العلم أفهمه فهما جيدا عندما أقرؤه في مظانه بالإنجليزية؛ ولكن يستعصي عليّ فهمه من خلال ما تكتبه أو تقوله”، فقام هذا المنظّر الجديد وهاجم الدكتور عبد الله الطيب على عادة السفهاء الجهلة الذين لا يملكون حتى في مجال العلم إلا الثلب والألفاظ البذيئة مثل الظلامية والرجعية والجهل والتخلف… فما كان من الأستاذ الجليل إلا أن ابتسم ابتسامته المعهودة في مثل هذه المواقف قائلا: أرأيت كيف أن شتائمك هذه التي تفضلت بها واضحة مفهومة، غير أن ما لا تفهمه أن العلم الذي تزعم أنك ألفت فيه غير واضح ولا مفهوم”.
ويضيف العلاّمة عبد السلام الهرّاس: “ومن المعلوم أن الأستاذ العلامة عبد الله الطيب قضى معنا بكلية الآداب بفاس تسع سنوات نعتز ويعتز بها ونعدها نحن من أمتع وأجمل وأغلى عمرنا العلمي بهذه الكلية.. ولا ينسى المغاربة الدرس الحسني الباهر الذي ألقاه الدكتور عبد الله الطيب في موضوع “القصة في القرآن الكريم”، وقد سألته ماذا فعل أمام مهلة يومين فقط لإعداد الدرس فقال: “لقد راجعت القرآن الكريم وقرأت الضروري في تفسير الطبري فقط… كما أن الجزء الرابع من كتابه الفريد والفذ في ميدانه “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها” ألفه بالمغرب وهذه من مفاخرنا التي نعتز بها..”.
وأرى أن الدكتور عبد السلام الهرّاس أحد المغاربة الذين ينقلون تفاصيل دقيقة عن شخصية العلاّمة عبد الله الطيب، وقد لازمه، واستفاد منه، وهيأ له كل الشروط التي تجعله مرتاحا في المغرب يقول عبد السلام الهرّاس مرة أخرى: “حقيقة مجيء عبد الله الطيب إلى كلية الآداب أو إلى المغرب كان من الأحداث العظيمة التي تذكرنا بمجيء زرياب إلى الأندلس وبمجيء عبد العلي القالي إلى الأندلس، وبانتقال الشافعي من بغداد إلى مصر وبانتقال القاضي عبد الوهاب إلى مصر. هذا الرجل كان فذا وكان من خوارق العادات، ولو توفرت له بعض الشروط لأصبح عبقريا، وعلامات العبقرية فيه كثيرة جدا. والرجل منذ صغره كان يريد أن يكون معلما وأستاذا، وقد نصحه أساتذته الأنجليز وبعض العرب أن يكون قاضيا، فأبى إلا أن يكون أستاذا، وقصته مذكورة في كتابه “حقيبة الذكريات”. جاء إلى المغرب فاستقبلناه بحفاوة، وأنا درست عقلية الرجل بسرعة مذهلة، قسته على مالك بن نبي، وقسته على محمود شاكر فاسترحت، لأن هذا النوع من البشر يكون سلسا لينا، موافقا مطواعا، فهذه الأخلاق دمثة؛ لكنه إذا أصيب في بعض نقاط شخصيته تحول إلى أسد جسور وإلى مخلوق غضوب ويكسر السلاسل ويمزق الحجب ويتركك غير آسف، فلهذا كنت أعامله معاملة تليق به…”

محمد وراوي: شخصية متفردة في زمانها عِلْماً  وخلقاً ومنهاجا

يقول الأستاذ محمد وراوي عن الناقد عبد الله الطيب: “إنه شخصية متفردة في زمانها عِلْماً وخلقاً ومنهاجا، متح من معين الأدب العربي شعره ونثره فاستوعب ووعى، ثم خلط ذاك بذاتيته فبرع وأبدع، ومد نظره إلى الآداب العالمية، فنظر إليها نظر المتفتح لا المنبطح، حفاظا على الذات وأصولها في حماة ما يموج من صراعات ثقافية.. فأتيحت له فرصة المقارنة والمقايسة، ومكنه ذلك من امتلاك القدرة على الفحص والإرشاد.. فما أحوج الدرس الجامعي اليوم إلى مثل هؤلاء الأعلام الأفذاذ الذين حباهم الله بعظمة الحافظة وجلال الذاكرة وقوة الفهم وسرعة البديهة، فتنوعت معارفهم واغتنت.. فالمرحوم عبد الله الطيب رجل موسوعي الثقافة ذو قدرة عجيبة على إيصال المعلومات إلى أذهان المتلقين، وشد أسماع الحاضرين، وبذلك استطاع أن يتميز بموقف رزين في مضمار الثقافة العربية التي ترتبط عنده بالإسلام ارتباطا وثيقا.. تؤكد ذلك عطاءاته المنشورة وغير المنشورة، ويشهد به طلبته داخل المغرب وخارجه”. ويعرّج الأستاذ محمد وراوي على بعض مواقفه النقدية قائلا: “وكان يرى أن القصيدة العمودية قادرة على استيعاب الجديد في كل عصر، إذا ما توافر لها الشعراء المفْلِقون والمبدعون المتميزون؛ لذلك تربعت على أيكة القريض، وفرضت سلطتها على أطياره المغردين، ذلك بأن القصيدة العربية جسدت نموذجا للجمال بما توافر لها من مقومات فنية وموضوعية أكسبتها حضورا فاعلا على امتداد مسير الشعر العربي..”.

مصطفى سلوي: لم يكن شاعرا يكتب الشعر  لأجل أن يُحشر في زمرة الشعراء

تحدث الأستاذ المغربي الجامعي مصطفى سلوي عن الأستاذ الناقد عبد الله الطيب باعتباره شاعرا حيث يقول: “لم يكن الأستاذ عبد الله الطيب شاعرا يكتب الشعر لأجل أن يُحشر في زمرة الشعراء؛ ذلك بأن الشعراء ــ قديما وحديثا ــ من يكتب القصيدة لأجل أن ينعت بالشاعر، ومنهم من يكتب القصيدة لأجل التعبير عن مواقفه اتجاه الحياة والناس؛ فبين أسطرها يحقق اللاممكن بدل البقاء قابعا في الكائن. ومنهم من نفر يكتب القصيدة لأجل القصيدة، كالأستاذ عبد الله الطيب وغيره كثير. ومنهم من يكتبها لأجل هذه الاعتبارات كلها، كأبي الطيب المتنبي، وأحمد شوقي وغيرهما. والمقصود بأن يكتب عبد الله الطيب القصيدة لأجل القصيدة، شدة اهتمام الرجل ببناء القصيدة، وخاصة لغتها وبلاغتها؛ وهو الهم الذي حمله ودافع عنه لأجل أن يحقق على أرض الواقع. لقد أرضع الأستاذ عبد الله الطيب الشعر العربي القديم، في بهاء صوره، وجزالة لفظه، وتنوع وانسياب إيقاعاته الخليلية الفاتنة، تماما كما حمل يوما أبو الطيب همَّ القصيدة العربية القديمة؛ فكان يستعيد، إثر كل كتابة جديدة، طرفا مما ضاع من أطراف القصيدة الأولى؛ تلك التي كتب المهلل والمرقش وعلقمة الفحل وجرير والفرزدق وغيرهم”.

مصطفى بن حمزة: كان رجلا من أهل اللغة

يعد الأستاذ العلاّمة مصطفى بن حمزة أحد تلامذة الناقد الكبير عبد الله الطيب في المغرب، وقد استفاد منه كثيرا في مجال النقد، وكانت للأستاذ مصطفى بنحمزة مراسلات نقدية عبارة عن إشكالات بعث بها إلى الناقد عبد الله الطيب أُشكلت على العلاّمة مصطفى بن حمزة عندما كان يعد أطروحة الدكتوراه، بحيث كان الأستاذ مصطفى بن حمزة في مدينة وجدة المغربية؛ بينما كان الدكتور عبد الله الطيب يدرّس بمدينة فاس، وتحدث الأستاذ مصطفى بن حمزة عن الناقد عبد الله الطيب اللغوي النحوي قائلا: “كان رجلا من أهل اللغة، وأقول إنه آخر من كان يقرأ كتاب سيبويه، وقفت على هذا، وكان يتحدث في بعض المرات على السجية، ويطلق لسانه بالقول فيتحدث عن سيبويه؛ لكن حينما شَرُفت به مناقشا في دبلوم الدراسات العليا حول نظرية العامل، أخذ البحث كمنطلق ثم سرح، بحيث تجلى أن الرجل يحسن ويتقن وكأنه ينظر في كتاب سيبويه ويعرفه بابا بابا، ويوجه الأقوال، ويذكر الشواهد بحيث كان من قلائل من رأيت من علمائنا المهتمين بسيبويه (سيبويه تعرفون أنه كان يسمى البحر، وكان يقال لمن كان بصدد قراءة هذا الكتاب هل ركبت البحر، فإن قال نعم ، فمعنى هذا أنه اجتاز القنطرة). وكتاب سيبويه كتاب ــ يكفي أن يسمى الكتاب بإطلاق، فإذا قيل الكتاب فالمراد به كتاب سيبويه إطلاقا. الدكتور عبد الله الطيب كان ملما به ويعرفه معرفة عميقة، وكنت أظن أنه من آخر من يقرأ كتاب سيبويه، على الأقل ممن لقيت من العلماء، وكنت أعرف أن الشيخ عبد الخالق عظيم رجل يقرأ كتاب سيبويه، كنت بحثت عنه مرة في السعودية ووجدت أنه توفي في تلك السنة التي بحثت عنه فيها، ولم أتمل من رؤيته، وأحسبه من هذا الطراز، ولكن الدكتور عبد الله الطيب من هذا القبيل كذلك.”.

حسن الأمراني: رزقني الله صحبة علمية وتربوية ما كانت لتتحقق لولا ما حيك من مؤامرات

يعد الأستاذ حسن الأمراني من تلامذة الدكتور عبد الطيب، وقد لازمه مدة طويلة، وتتلمذ على يده، يقول عن السبب الذي كان وراء تعرفه إلى الأستاذ عبد الله الطيب: “كان شيخي عبد السلام الهراس هو من عرفني إلى أستاذي عبد الله الطيب، وكنت يومها أمر بمحنة البحث عن مشرف على رسالتي الجامعية في الأدب الجاهلي، بعدما سُحب الإشرافُ من أستاذي المصري الذي نُقل من كلية الآداب بفاس إلى كلية اللغة العربية بمراكش، فألغي تسجيل طلبته تلقائيا، وكانوا قلة، وقد حدثني عن بعض أسباب ذلك، فنقلت ملفي إلى الرباط بعد قبول أستاذ سوري الإشراف على البحث، وكان مشهودا له بالعلم، ويشترك مع عبد الله الطيب في الصرامة العلمية، ومن أمثلة صرامته أنه أشار علي يوما بالعودة إلى كتاب نادر، ولما رجعت إليه بعد مدة معتذرا بعدم عثوري عليه، لم يقبل عذري، وقال لي: ابحث عنه في أي مكان.. في مصر والشام أو الهند أو أوربا، ولا تعتذر. وبعد اجتهاد وجدت الكتاب بالمغرب، دونما حاجة إلى السفر. إلا أنني استفدت من موقفه ذاك درسا عظيما، وقد سافرت بعد ذلك فعلا إلى عدة بلدان سعيا وراء بعض المصادر، كان منها باريس، والحجاز والهند ودمشق، يوم كنت معنيا بالبحث في أبي الطيب وما إليه. وقد بقي تسجيلي للماجستير معلقا بكلية الآداب بالرباط زمنا طويلا، وأنا أتابع البحث العلمي مع أستاذي، معتبرا أن التأخر في قبول ملفي بالرباط لا يعدو أن يكون إجراء إداريا بحتا، إلى أن أخبرني أستاذي يوما أنه لا يمكن متابعة الإشراف دون الحصول على شهادة التسجيل الرسمي، فلما قلت إن الأمر مسألة إدارية تحل مع الوقت، أخبرني بأن ملفي لن يُقبل في كلية الآداب بالرباط بحال، لأسباب ذكرها لي. فوليت وجهي نحو أستاذي عبد السلام الهراس مستشيرا، فقال لي: أبشر، لقد التحق بنا أستاذ عظيم، وهو الدكتور عبد الله الطيب. وهكذا صار هذا الرجل مشرفا على رسالتي، ورزقني الله بذلك صحبة علمية وتربوية ما كانت لتتحقق لولا ما حيك من مؤامرات، فتحققت بذلك في حقي الآية الكريمة: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)”.

عبد الرحمن حوطش: تبينت يومها في الرجل ذلك الشيخ، ذلك المربي، ذلك الموجه، ذلك الموجه الذي يساهم في انتقاء العناصر التي ستنهض بالدرس وبالتربية والتعليم وبالتكوين

يتحدث الدكتور عبد الرحمن حوطش عن محطة من المحطات التي جمعته بالعلامة عبد الله الطيب قائلا: “المحطة الأولى هي تلك التي جمعتنا نحن وجماعة من مؤسسي كلية الآداب بوجدة من روادها المجموعة التي كانت تتكون من ثلاثة عشر أستاذا، في ذلك اليوم من مايو 1978 حين جلست وكنت أسمع عنه وأنا طالب في الجامعة وأقرأ ما يكتب عنه وعن شعره في إطار نقد الأدب الحديث ولكن لم أكن أعرفه معرفة شخصية عن قرب شديد حتى تلك اللحظة، وأنا يلقى إلي بنسخة الأغاني المطبوعة على الحجر من قبل لجنة تتكون من خمسة أساتذة، وهم الدكتور عبد الله الطيب، والدكتور عبد السلام الهراس، والدكتور الشاهد البوشيخي، والدكتور محمد الكتاني، والدكتور محمد السرغيني. ألقى إلي الدكتور عبد الله الطيب بهذه النسخة وقال لي اقرأ بل قبل ذلك قال لي ماذا تحفظ ماذا تقرأ؟ قلت له أنا أحفظ القرآن وأقرأ القرآن، فضحك ضحكة جميلة وتبسم، ثم قرأت ولم يعلق لا هو ولا الآخرون لمدة عشر إلى خمس عشرة دقيقة، ثم قال: انصرف. تبينت يومها في الرجل ذلك الشيخ، ذلك المربي، ذلك الموجه، ذلك الموجه الذي يساهم في انتقاء العناصر التي ستنهض بالدرس وبالتربية والتعليم وبالتكوين في هذه الكلية، وهذه الجامعة، أدركت فعلا أنني أمام بحر كبير”.

*******
كانت هذه بعض الآراء النقدية لبعض علماء المغرب رصد فيها هؤلاءِ العلماءُ الأفذاذُ جوانبَ من اهتمامات العلاّمة عبد الله الطيب، وانشغالاته النقدية المتعلقة بالشعرية العربية، ثم أهم الإضافات التي قدمها للطلاب المغاربة الذين درّسهم بالجامعة المغربية، وخاصة جامعة فاس التي كانت قبلة للباحثين والطلاب آنذاك، وماتزال، وقد وقفتُ عند بعض هذه الآراء حتى لا ننسى الدور الذي اضطلع به العلاّمة عبد الله الطيب في خدمة الدرس النقدي بالجامعة المغربية، ومساهمته في بناء جيل رصين من الباحثين في الدرس النقدي والأدبي.

اعداد محمد حماني

Related posts

Top