الرياضة المغربية خلال عقدين من حكم محمد السادس

لم يعد خافيا على أحد الأهمية التي أصبحت تحظى بها الرياضة كقطاع جالب للثروة، ليس فقد بالنسبة للدول الصناعية الكبرى، فهناك دول منتمية لما يسمى بالعالم الثالث، تمكنت من تحقيق نتائج باهرة في هذا الإطار، وأصبح رياضيوها مؤهلين لخوض المنافسات على المستوى الدولي، كما أكدت على حق مواطنيها في ممارسة الرياضة، كوسيلة تهدف إلى خدمة الفرد والمجتمع على حد سواء.
فكل الإحصائيات والمعطيات الرقمية، تفيد بأن القطاع الرياضي يساهم بنسبة مهمة في الناتج الداخلي الخام للبلدان التي تخصص اهتماما متزايدا بهذا المجال، كما أن له تأثير مباشر أو غير مباشر في تطوير قطاعات أخرى موازية كالسياحة مثلا، والتأثير على مجالات صناعية معينة، وكل أنواع الخدمات المرتبطة بأوجه النشاط الرياضي، في وقت ظهرت فيه مجموعة من المهن الجديدة المرتبطة بالمجال الرياضي، والتي تتطلب سنوات من التكوين والخبرة والبحث الميداني، أي أن القطاع أصبح مورد عيش ورافعة لخلق مناصب الشغل، ووسيلة للرقي الاجتماعي.
فالتطور الذي عرفه القطاع الرياضي على الصعيد الدولي، غير إلى حد بعيد من النظرة التي كانت سائدة والتي تعتبر الرياضة مجرد ضياع للوقت أو مجال ثانوي، وغيرها من الأحكام المسبقة التي أصبحت متجاوزة وأكدت المستجدات أنها متخلفة عن الركب.
فالرياضة بصفة عامة أصبحت منتوجا يصنع ويستهلك، له تكلفة إنتاج، وخاضع لعملية البيع والشراء، مثل غيره من المنتجات، بثمن لا يضمن فقط تغطية التكاليف، بل يفتح الباب أمام تحقيق أرباح مهمة، دون أن ننسى أبعاده المختلفة وتأثيره على أوسع الفئات.
انطلاقا من هذا التحول كان لابد من بناء مفهوم جديد للممارسة الرياضية على الصعيد الوطني، عبر رامج قابلة للتطبيق، تسمح بإعادة تكوين جيل كامل من الرياضيين في مجالات التدريب والتسيير والتدبير، والتكوين والممارسة وتأهيل جل المتدخلين، وضمان انخراط الفاعل السياسي والاقتصادي، وتقوية النخب الرياضية بمختلف المجالات.
والإيجابي أن هذه النظرة المتقدمة للقطاع الرياضي أصبحت حاضرة بقوة في جل المبادرات والخطوات، وكل الإجراءات التي سجلت خلال العقدين الأخيرين، ترجمت هذه الإرادة الحقيقية لأعلى مستوى بهرم الدولة.
فالتغيير في النظرة للقطاع الرياضي على الصعيد الوطني، ترجم من خلال التشجيع والدعم واتخاذ مجموعة من القرارات الهامة والحيوية بمجموعة من الأنواع الرياضية، ستظهر نتائجها تباعا على أرض الواقع خلال السنوات القادمة.
فالخطوات العملية التي عكست هذه النظرة المفتوحة على المستقبل، جاءت من خلال توقيع عقود برامج التأهيل بين الحكومة، وبعض الأنواع الرياضية، أعطيت فيها الأسبقية للجامعات التي توصف بـ”السيادية “، ككرة القدم، وألعاب القوى، والتنس، والملاكمة، والغولف، وغيرها من الجامعات خاصة تلك التي ارتبط بها تمثيل المغرب بأكبر المحافل الدولية.
إلا أنه وبحكم الطابع الاستعجالي لمنتخبات كرة القدم، وخاصة الفريق الأول، والذي يحظى بمتابعة قياسية من طرف قاعدة جماهيرية كبيرة، جاء القرار الملكي القاضي بتخصيص 25 مليار ستنيم، لإعادة هيكلة جذرية للطرق المعمول بها في تسيير المنتخبات الوطنية وتأطيرها وتهييئها على نحو أفضل، ليتأكد بالملموس أن الاهتمام الرسمي بإصلاح القطاع يترجم فعلا إرادة سامية حقيقية.
فتوفر هذه الإرادة من طرف أعلى سلطة بالدولة، ترجم أيضا من خلال توفير ميزانية خاصة لإعداد رياضيي الصفوة للدورات الأولمبية، والذي انطلق منذ دورة لندن 2012 بأمر من جلالة الملك، تصل إلى 33 مليار سنتيم، جاء ليفتح الباب أمام تدفق هائل للموارد المالية، مما يرفع النقاش إلى مستوى طرح الأسئلة الشائكة التي تتعلق ببنية القطاع وهيكلته القانونية والإدارية وموارده البشرية، ومخططاته وترتيباته.
فاهتمام جلالته بالمجال الرياضي ترجم أيضا، من خلال الاستثمارات العمومية، فيما يخص تعزيز البنيات التحتية بالعديد من المدن المغربية، والتي تعد من المرتكزات الأساسية للنهوض بأي قطاع، فبالإضافة إلى إنشاء قاعات ومسابح متعددة الاختصاصات، تم تشييد مركبات بكل من فاس، مراكش، طنجة وأكادير، في انتظار ملعب الدار البيضاء الكبير، الورش الكبير الذي لازال حاضرا في كل المخططات المستقبلية، بالإضافة إلى إصلاح وترميم عشرات الملاعب بجل المدن، الشيء الذي قوى شبكة التجهيزات الرياضية، ومكن الفرق الرياضية من ممارسة ظروف مواتية.
كما يعد إنشاء مركز محمد السادس لكرة القدم بمواصفات عالمية، وقبله أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، دفعة مهمة في سياق تقوية برامج التكوين والإعداد، والسعي لإعطاء نموذج مغربي بمواصفات علمية حديثة، كما تدخل في نفس التوجه، الهبة الملكية لنادي الرجاء البيضاوي من أجل إنشاء أكاديمية خاصة بكرة القدم، مما أعطى دفعة قوية لباقي الأندية كالوداد، والجيش والفتح والمغرب التطواني والدفاع الحسني الجديدي… الساعية لإخراج نموذج جديد لمدرسة مغربية حديثة لكرة القدم.
وإذا كانت هذه المنشآت وغيرها تعد لبنة أساسية في سياق تعزيز البنيات التحتية للقطاع الرياضي ككل، فإنها تشكل أيضا قيمة مضافة للنمو الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، المرتبط بتنمية المواطن، والمساهمة في النسيج الاقتصادي، وتقوية التلاحم وإذكاء الروح الوطنية العالية، ومحاربة كل مظاهر التطرف والانحراف والانغلاق.
وقد جاءت وثيقة الدستور سنة 2011، لتنص على الحق في ممارسة الرياضة، وهو حق يكفله حاليا أسمى قانون في البلاد، باعتبار الرياضة حقا من الحقوق الأساسية للمواطن، وهذا التنصيص هو ترجمة حقيقية لإرادة أعلى سلطة في الدولة، والساعية إلى جعل القطاع الرياضية من الأولويات، كما وقفت على ذلك قبل ذلك، مضامين الرسالة الملكية الموجهة لأشغال المناظرة الأولى للصخيرات في أكتوبر 2008 حول الرياضة.
يعتبر كل هذا مؤشرا واضحا على نظرة السلطات العليا للواقع الحالي للرياضة الوطنية، إلا أن الخبر اليقين جاء خلال الندوة الوطنية حول الرياضة بالصخيرات، والمضامين المدوية للرسالة الملكية هزت أركان وسط رياضي ككل، ووضعت جل المتدخلين أمام مسؤولياتهم التاريخية والوطنية، والإقرار بضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة.
هذا الورش الكبير الذي يهم مجالا ما فتئ دوره يتعاظم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، يعطي للمغرب إشعاعا بين الأمم والدول، سيما وأن الرياضة المغربية، قدمت رغم مجموعة من الإكراهات والمعيقات، نتائج أبهرت العالم بتفوقها في مجموعة من المحطات والأنواع الرياضية كالعاب القوى، والتنس، والملاكمة وكرة القدم.
هذا البعد المتعدد الأوجه، يظهر بصفة قوية من خلال التوجه الأفريقي بعقد اتفاقيات الشراكة والتعاون مع العديد من الاتحادات على الصعيد القاري، كما تم التشجيع على حضور مسؤول لأطر مغربية بمراكز القرار داخل الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، دفاعا على مبدأ تكافؤ الفرص، وحفاظا على روح المنافسة الشريفة، وخدمة شباب القارة ومحاربة الفساد بكل أشكاله.
وعلى هذا الأساس، حرص جلالة الملك على ضرورة انخراط المؤسسات الوطنية الكبرى، مما يعكس وعيا عميقا بأهمية انخراط القطاعين العمومي والخاص والمؤسسات الإنتاجية عامة، والدور الذي يمكن أن تلعبه في إنهاء مشكل الخصاص المالي المزمن الذي تعاني منه الرياضة المغربية بصفة عامة.
فانخراط المؤسسات الكبرى، يشكل بالفعل تفكيرا متقدما، ما دام الخصاص المادي يلاحظ على مستوى مختلف التنظيمات الرياضية الوطنية التي تشتكي دائما من قلة الإمكانيات وانعدام الموارد المالية القارة، وترجع هذه الوضعية المزمنة إلى كون الجهات الفاعلة اقتصاديا والقطاع الخاص، لم تتشجع بعد بما فيه الكفاية، لدخول مجال الاستثمار في الرياضة عامة، والأسباب متشعبة يلعب فيها غياب القوانين المحفزة والإعفاءات الضريبية دورا محبطا للهمم والرغبات.
إلا أنه مقابل كل هذه الاستثمارات العمومية والإرادة الحقيقية والتوجه المستقبلي، يبرز إشكال حقيقي يصعب حتى الآن التغلب عليه، ويتجلى ذلك في الضعف الصارخ على مستوى النخب الرياضية وغياب الحكامة، وضعف الثقافة القانونية داخل المجتمع الرياضي، وهذا ما يترجم تعدد الأزمات وتشعب المشاكل التي تعشيها أغلب الجامعات والأندية الرياضية على حد سواء، حيث تعطى الأسبقية للتفكير الانتفاعي، وطغيان ضعف التسيير، وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، ليصبح التسيب والفوضى في الكثير من الحالات سيدة الموقف.
على هذا الأساس ننتظر أن تقبل الحكومات المتعاقبة على ترجمة هذه الإرادة السياسية الحقيقية من طرف أعلى سلطة بالبلاد، عبر تقديم برنامج تراعي كل هذه الخصوصيات والشروط، برنامج ترسم بوضع سياسة رياضية مندمجة، متقدمة، محددة الأهداف والغايات واضحة المعالم والأسبقيات، منفتحة على المستقبل بكل ما يحمله من تحديات، وفي مقدمتها التحدي الاستثماري والاقتصادي والتنموي، وسط مجال يحكمه القانون والحكامة الجيدة، تسييرا وتدريبا وتأطيرا، وإعلاما مهنيا، محترفا، متمكنا ومواكبا لكل المستجدات وبروح وطنية عالية…

< محمد الروحلي

Related posts

Top