الصراصير والديدان في خبزنا؟ !

وضعت المفوضية الأوربية نفسها في عين العاصفة مجددا من خلال قرار مثير للجدل أصدرته يوم الثلاثاء الماضي يجيز استخدام الصراصير المنزلية ويرقات الدودة القشرية، كغذاء “آمن” لشعوب الاتحاد، وذلك بعد أن كانت المفوضية قد وافقت قبل فترة أيضا على اعتبار الجراد المهاجر ويرقات الدودة الصفراء من أصناف الطعام الصالحة للاستهلاك الآدمي.
ولايقف الأمر عند موضة استهلاكية جديدة لمناهضي أكل لحوم الماشية أو محبي النظام الغذائي الأسيوي، بقدر ما هو قرار استراتيجي للاتحاد الأوربي يندرج في سياق سياسة استباقية لتوفير الأمن الغذائي والحد من التغير المناخي!
وتتجلى خطورة القرار بالنسبة للكثيرين أيضا في أن المسألة لن تنحصر في الترخيص لاستهلاك الحشرات بالنسبة لمن يرغب في ذلك من محبي استكشاف الأطعمة الجديدة، بل إن الأمر سيصبح بمثابة إضافة بديهية إلى الطعام اليومي من خلال إدراج “دقيق” أو مسحوق الحشرات “الغني بالبروتين” في لائحة طويلة عريضة من الأطعمة الأساسية مثل الحليب البودرة، المخبوزات الجاهزة أو خلطات المخبوزات المعدة مسبقا، بدائل اللحوم، المعجنات، أنواع الصلصات والشوربات، الوجبات الخفيفة الجاهزة، وحتى البسكويت والشكولاطة!
وإذا كان القرار الأوربي يلزم المصنعين والمنتجين بتوضيح المكونات على أغلفة المواد المعبأة التي ستحتوي على دقيق الحشرات، مع تنبيه إلى مضاعفاتها بالنسبة إلى من “قد يعانون من أحد أنواع الحساسية” ذات الصلة، فإن المناهضين للقرار يلفتون إلى أن الأمر لن يكون بهذه السهولة بالنسبة إلى معظم أنواع الأكل الجاهزة التي يستهلكونها يوميا في المطاعم والمتاجر والمخابز…
الأصوات بدأت ترتفع فعلا في وسائل الإعلام الأوربية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بين التقزز والاستهجان من قبل أصحاب نظرية “المؤامرة على النوع البشري” وعلى النظم الغذائية الكلاسيكية للمستهلكين، وبين الاستنكار والتذمر من قبل الملتزمين بالأديان من القوميات الأوربية المختلفة وكذا من الجاليات المقيمة وعلى رأسها الجالية المسلمة التي وجدت نفسها في قلب جدل جديد حول مدى ملاءمة هذا النوع من الغذاء مع تعاليم الشريعة في الكتاب والسنة.
وبعيدا عن مشاعر التقزز والنفور التي يمكن أن تثيرها عملية استهلاك مسحوق الحشرات لدى المعارضين من مختلف مرجعياتهم، فإن فكرة استبدال لحوم الحيوانات بدقيق الصراصير والديدان والخنافس، ليست وليدة اليوم، بل هي جزء من مشروع كبير تتبناه الأمم المتحدة ومنظمة الزراعة والأغذية (فاو) منذ سنوات طويلة. وهناك دراسات وتقارير مهمة و”جادة” في الموضوع لعل أهمها تقرير “الحشرات الصالحة للأكل: الآفاق المستقبلية لأمن الأغذية والأعلاف” الصادر في سنة 2013. كما أن بحثا بسيطا على موقع “غوغل” يمكن أن يكشف لك عن مئات المراجع التي تعدد أسباب وفوائد استهلاك دقيق الحشرات، بدءا من كونها غنية بالبروتينات، وصديقة للبيئة بخلاف لحوم الماشية التي تفاقم تربيتها حجم انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، ومرورا باستدامة الإنتاج ووفرته، وانتهاء بمزايا إنتاج الحشرات الاقتصادية وفرصها في توفير مناصب الشغل ومحاربة الهشاشة والفقر… وكل تلك الأدبيات تكاد تقنعنا بأن الأمر سيتعلق عما قريب بمنتوج أساسي وتجارة مربحة تتنافس الدول في تشجيع الاستثمار فيها وتلحق بذلك بركب الدول الأسيوية التي لها باع طويل في المجال. وعوض أن ينصب الناس الكمائن للصراصير ويرشون المبيدات على الحشرات وهم يقاومون مشاعر القرف لمجرد رؤيتها، سيتسابقون نحو تأسيس المقاولات الصغيرة والمتوسطة الطامحة إلى إحداث المزارع والمحاضن لها وهم يمنون النفس بالثروة!
هذا ما تبشر به الأمم المتحدة ومنظماتها المنشغلة بمستقبل الأمن الغذائي للبشرية، أمن ينبني على “حظر” وشيك لاستهلاك لحوم المواشي والدواجن التي أضحت أسعارها تحلق عاليا لتفسح المجال للتطبيع مع فكرة استهلاك بدائل لم تكن من قبل لتخطر على بال أحد. وفي ظل سعار الأسعار وانفلات زمام الأمور من بين أيدي المستهلكين فيما يتعلق بقوت يومهم، من المنتظر أن يشكل هذا الجدل كرة جليد حقيقية ليس من السهل السيطرة على اتجاهاتها، ليس داخل حدود الاتحاد الأوربي فحسب، بل على امتداد رقعة واسعة تمتد بحجم العلاقات الاقتصادية والمبادلات التجارية للدول الأوربية مع دول العالم، بما فيها بلادنا.

< سميرة الشناوي

Related posts

Top